العالم فقد الروح الانساني أو احساسات الروح بهذا العالم، تلك الاحساسات المنتمية الى الانسجام المتماهي بالطبيعة الذي كان يعيشه الانسان قبل نزع السحر عن هذا العالم الذي مارسته قوى الصناعات والرأسماليات الكبرى، ويبدو أنه صار انتزاعا لكل قيم الحياة الطبيعية والانسانية عن مساراتها ومسالكها التي تواضعت عليها واحترمتها الانسانية في تاريخها.
فاختلال العلاقة بالطبيعة وتأليه رأس المال وتحوله الى يهوه اله اليهود استنباطا عن ماركس وايديولوجيات المثلية ومحاولات الاستنساخ البشري واحتمالات أخطاء التجارب المختبرية –مثال كورونا- التي تمس صميم الحياة كلها جاءت نتيجة نزع السحر عن هذا العالم أو تراجع قدسية الحياة المصاحبة لسحر العالم أو المتسببة له، وكان هذا هو مدعاة القلق الذي يعيشه العالم قبل كورونا الذي ينظر الى سياسات الدول الكبرى على انها تطبيقات للنزع الممارس تجاه أخلاقيات الحياة.
فالسياسات التي تمارسها الدول الكبرى على صعيد الحروب والبيئة والصناعات وأثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تركت أثارا سيئة ومدمرة للبيئة وللإنسان حفزت كثيرا هذا القلق المسبق في العالم قبل كورونا، فجاء كورونا ليخرج هذا القلق من مكامنه ويعبر عن مكنوناته فيما يتصوره من أحكام مسبقة أو عالقة في ذهنه عن هذا العالم وعن سلبيات ومكامن الخطأ في إدارته وتوجيه دفة قيادته.
وفي هذه اللحظة الحرجة من تاريخ البشرية الحديث بدأ الحديث حول عالم ما بعد كورونا أو تاريخ البشرية كيف سيكون بعد التحول المتوقع على مجريات الأحداث والوقائع بعد كورونا، ويظل محور هذا الحديث ومفترق الطرق فيه هو السلطة والقيادة على مستوى العالم أولا وعلى مستوى الشأن المحلي في كل قارة بل وفي كل دولة، وهو ما يعكس قصورا بشريا مستمرا في النظر الى جوانب أخرى أهم وأكثر التصاقا بالحياة لا سيما فيما يتعلق بالرؤية الاخلاقية التي بدت منكفئة ومتراجعة بعد نزع السحر عن العالم.
وفي مناخات المواجهة الانسانية الشاملة مع كورونا يطفو النقاش حادا في الغرب حول الخلافة في قيادة العالم بعد تزعزع الثقة بالنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وأحيانا ينسحب هذا التزعزع بالثقة الى الغرب كله لتظهر مقولات بانتقال النفوذ من الغرب الى الشرق باستحضار نجاح الصين في مواجهة كورونا، من جهة اللحظات الأشد حضورا أمام أنظار العالم ومن جهة انجازات الصين على مدى أكثر من عقدين في مجالات الصناعة والمال والاستثمار حيث بدت قدرتها الاقتصادية والسياسية تتفوق على القوى الكبرى التقليدية في عالم ما قبل كورونا وهو ما يرشحها للتفوق في قيادة العالم بعد عالم كورونا او حتى في أثنائه.
لكن العقل الغربي المستند الى فكرة التفوق الغربي الذاتي يعيق فكريا حركة انتقال نفوذ الغرب الى الشرق، ويرى أن انتقالات السلطة والنفوذ قائمة لكنها تظل ضمن مديات الغرب الثقافية والاقتصادية والسياسية، فالغرب مليء بالبدائل المتوقعة وهو ما يخلص اليه ضمنيا عالم الاجتماع الفرنسي جاك أتالي وأن لم يصرح به جهارا في مقاله الذي نشره على مدونته بعنوان “ما الذي سيولد منه” وناقش فيه تداعيات فيروس كورونا المستجد.
يستحضر أتالي تاريخ الغرب مجددا في تحليله واستنتاجه التاريخي فهو وفق السليقة الغربية النموذج المفضل في تحليل الماضي واستنتاج عبره في الحاضر من أجل صياغة المستقبل وفق روح هذا التاريخ ومقولاته، فالقرن الرابع عشر الميلادي حاضرا لدى أتالي في تحليله لحاضر الجائحة الراهنة كورونا.
فجائحة الطاعون التي اجتاحت أوربا في هذا القرن وتسببت بموت ثلث سكان قارة أوربا أفرزت حقائق تاريخية وسياسية أبرزها إعادة النظر بالمكانة السياسية لرجل الدين المسيحي ونتج عنها فشل السلطة المؤسسة على الايمان، ومن هنا بدأ نزع السحر عن العالم الذي كان يوفره الدين بآلياته في الخلاب والمدهش والعجيب رغم أن ماكس فايبر يحيل نزع السحر عن العالم الى عصور لاحقة ويعد هو صاحب هذه المقولة المؤثرة في فهم الدين وفهم العالم من جهة أخرى.
وقد حل محل تلك السلطة نوع آخر من السلطة المؤسسة على القوة بواسطة رجل الشرطة او الدرك الذي أثبت جدارته في هذه الجائحة، وعلى أثرها نشأت أجهزة الشرطة وفق أتالي التي قدمت نموذج دولة الحماية للأرواح بديلا عن الحماية التي يوفرها رجل الدين المسيحي في أوربا في العصر الوسيط، وكانت هذه الوظيفة الدركية في نظر أتالي هي التي مهدت الى انشاء الدولة الحديثة، ولعل مانتج عن احتكار القوة التي مارسها الدرك هي التي أسست أو مهدت الى احتكار الدولة الحديثة للقوة بشكل شرعي. فمن المعروف أن الدولة الحديثة نشأت في عصر لاحق على أثر تطور البرجوازية والفكرة القومية.
ويستمر أتالي في متابعة تحولات السلطة استنادا الى وظيفة حماية الأرواح التي تسلم مهمتها الطبيب في مواجهة الأوبئة والامراض لا سيما حين ظهرت جائحة الطاعون مرة أخرى في أوربا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وقد تطور الطب وأساليب الطبيب في تلك المواجهة التي تخلى عنها رجل الدين المسيحي وتراجع دور رجل الشرطة فيها لتتشكل سلطة القانون أو دولة القانون التي مهد لها أو أسس لها الطبيب وفق أتالي، ولعله يقصد إرساء قواعد الخدمة الصحية التي اهتمت بها الدولة الحديثة وأولتها أهمية فائقة تصل الى مستوى السياسات والممارسات التي تتكفل بها هذه الدولة، ورغم أن ذلك يبدو اختزالا كبيرا لطبيعة التحولات في ذلك العصر نحو الدولة الحديثة الا أنه يؤشر حقيقة تاريخية يستنتج عنها أن كلما قامت جائحة وضربت قدرة المنظومات المهيمنة على وظيفة حماية الأرواح وتعرضت تلك المنظومات بشتى أشكالها الى الخلل في وظيفتها فإنها ستقود بطبيعة الحال الى الخلل في علاقتها بالمواطنين فتتعرض الى النقمة من الناجين من الجائحة وهي فرضية تاريخية متوقعة وصحيحة، وفي حالة كورونا فان هذه الفرضية تعيد تطبيق ذاتها اذا فشلت منظومات الحكم في أوربا في تجاوز هذه الجائحة وحينئذ تتعرض كل أجهزتها وسلطاتها الأيديولوجية الى عملية استبدال بمنظومات جديدة في السلطة والأيديولوجيا.
يطرح أتالي احتمال انهيار نظام الحكم القائم في الغرب جارا معه الى هذا الانهيار آلياته الرئيسية وهما نظام السوق والديمقراطية مما يسمح بظهور أنظمة حكم استبدادية تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي وتكون مهمتها توزيع الموارد بشكل استبدادي، ولم يكشف أتالي في نظرية استبداد الحكم البديل عن احتمال تأثره بالنظام الصيني المستبد في نظر العقل الغربي لاسيما في قدرته على تجاوز جائحة كورونا.
وتفكير أتالي يعكس تركيز العقل الغربي على الديمقراطية وحليفها نظام السوق الحرة، وهو بذلك لا يقدم طرحا انسانيا عاما بقدر ما يقدم مصالح الغرب وشعوبه وطريقة ابتكاره للحلول التي لا تعدو مصالح أوربا والغرب عامة على الرغم من ان كورونا صنف بأنه جائحة عالمية وصارت تعاني منها شعوب العالم عامة، وهو يعكس انحيازا مبكرا الى انتمائه الثقافي والسياسي وأخيرا ينتهي أتالي الى استشفاف مواقع السلطة الجديدة في القطاعات الاقتصادية التي أظهرت تعاطفا مع الناس ويحصرها في قطاعات المشافي والصحة والتغذية والتعليم والبيئة وهي قطاعات تستند الى قطاعات انتاج وتوزيع الطاقة والمعلومات وفق قوله.
لكن أتالي لا يتوقف عند حدود التقنية الصناعية في مجال بدائل السلطة هذه ودورها في تجاوز محنة كورونا وتقويم عملها في فرضيته حول عالم ما بعد كورونا، فهو يقحم بقوة رغبة الناس في الحياة في تجاوز محنة كورونا ويدخلها في عملية التأسيس لمجتمع جديد في نظره، وهي رغبة عقلانية تقود من وجهة نظره الى فرضية توقف الناس بعد كورونا عن شراء السلع غير الاساسية بشكل محموم ويعود هؤلاء الناس الى أساسيات الحياة وأنهم سيتعلمون في هذه التجربة كم هو نادر وثمين هذا الكوكب الذي يعيشون عليه. ولكن تأدية هذه المهمة وتكريس الندرة لهذا الكوكب فكرة أساسية في حياة الناس قد تصطدم من جديد بمبادئ الصناعات الرأسمالية لكنها تظل الأهم في فرضية عالم ما بعد كورونا.
رابط المصدر: