د. محمد كمال جمعة
يرى الدارسون للأنظمة العالمية أنها – وبعد كل أزمة تعصف بالعالم – تتغير في كل حقبة زمنية، والنظام العالمي الذي نجم بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بعد هزيمة ألمانيا النازية وظهور الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين كقوة عظمى آنذاك ووجود تشرشل في القيادة البريطانية وروزفلت رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، كان إيذاناً ببدء الهيمنة القطبية الثنائية على العالم، وكما ذكرت كتب التاريخ فقد قام ونستون تشرتشل بكتابة ورقة بخط اليد للدول التابعة للإشتراكية والدول التابعة للرأسمالية، وقام بعرضها على ستالين الذي قام بوضع إشارة () وبذا تم تقسيم العالم، وأصبح العالم بجانب اشتراكي وبجانب رأسمالي، ومن تلك الحقبة انطلق مصطلح ما يعرف بالحرب الباردة.
شكل(1): نتائج اتفاق بوتسدام، لم يكن ترومان الذي استلم منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت ليوافق عليها، لعدم رغبته بالتوسع الاشتراكي في أوروبا، غير أن ستالين لم يكن ليتزحزح عنها.
وبعد استمرار الحرب الباردة لحوالي 40 عاماً، إنهار الاتحاد السوفياتي وبدأت تظهر ملامح القطبية الواحدة، أي الزعامة الدولية الواحد، وكانت الهيمنة الأمريكية، حيث استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية تمرير سياستها للعالم عبر المؤسسات الدولية (من مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة والبنك الدولي)، وأيضاً عبر قوتها العسكرية الهائلة.
لكن مع ظهور قوى عالمية جديدة، مثل الصعود الصيني الاقتصادي والعسكري الكبيرين، والتحول الصيني للاقتصاد المفتوح، وظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية كبيرة وعسكرية لا يُستهان بها، وبروز الشخصية السوفياتية السابقة المتمثلة في القوة الروسية بقيادة فلاديمير بوتين؛ فقد أصبح هناك تحول تدريجي من القوة المتفردة –القطبية الواحدة– إلى النظام المتعدد القطبية، فلم تعد القوة العسكرية وحدها هي محور الاهتمام، فأصبح هناك دول ذات قوة اقتصادية هائلة مثل اليابان والهند وألمانيا، وقوى عسكرية منافسة للولايات المتحدة الأمريكية وإن لم يكن قد جُرّبت من قبل مثل الصين التي تحظى أيضاً بالقوة الاقتصادية الهائلة والتي حالياً تتربع على عرش العالم كأكبر قوة اقتصادية في العالم، والقوة الروسية المتصاعدة المستمرة بإبراز أحدث الأسلحة التي يتم تطويرها.
إضافة إلى القوة التكنولوجية تحديداً في أنظمة المعلومات كالتي تتمتع بها الهند، وأصبح هناك تداخلات وتشابكات معقدة بين دول العالم وأصبحت دول عظيمة تطبق ما يٌعرف بالسياسة الناعمة والتي من خلالها يتم تحقيق المآرب للدولة على المدى البعيد أو القريب من خلال بناء علاقات مع الدول الأخرى، وأفضل أمثلة لها في الوقت الحالي هو ما تقوم به الصين في علاقاتها مع الدول الأخرى بنشر ثقافتها الصينية، وأيضاً ما تقوم به روسيا من خلال المؤتمرات الثقافية ونشر الإرث الفني الروسي من أدب وموسيقى وفنون بمختلف أنواعها.
تعدد هذه القوى أدى إلى تحول العالم من النظام القطبي (الهيراركي Hierarchy) إلى النظام اللاسلطوي أو الفوضوي (الأناركي Anarchy). ومع هذا التحول في النظام العالمي، فإن هذا الحال غير مناسب للدولة التي كانت سيدة العالم بأن تجد منافسين لها، وخاصة أن هؤلاء المنافسين ليسوا من نفس المعسكر.
لذلك فإن هذا التحول مع قدوم رؤساء أقرب للتطرف في عدد من الدول الكبرى يمكن أن يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه ونتائجه، فلو ألقينا نظرة سريعة لبعض رؤساء الدول والتحولات السياسية التي نجمت فيها لرأينا بأن العالم يتجه إلى الراديكالية، أو لنقولها بشكل مخفف للتحول اليميني المحافظ، فالولايات المتحدة بعد فترة أوباما التي شهدت انتعاشاً داخلياً انتخبت ترامب بالمعروف باتجاهه اليميني المحافظ وعدم ميله لتقبل غير الأمريكي، فقد قال كلمته الشهيرة في مؤتمر الأمن القومي (أمريكا أولاً). ثم أخذ الخلاف الكوري الشمالي الأمريكي حيزاً كبيراً في الصحف العالمية، وذلك بعد تحدي كيم جونغ أون الغطرسة الأمريكية، واحتفاله بالصاروخ بعيد المدى الذي انتجته كوريا الشمالية في الثالث من تموز من عام 2017؛ وهو قبل بيوم واحد من اليوم الذي تحتفل فيه الولايات المتحدة بعيد استقلالها.
شكل (2): الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون في مشاهدته لإطلاق الصاروخ القادر على إصابة الولايات المتحدة الأمريكية قبل يوم واحد من الاحتفالات الأمريكية بعيد الاستقلال.
وهناك التحول الكبير الذي شهدته ألمانيا ببروز الحزب اليميني المتطرف الجديد والذي يعرف باسم AFD، وهو أقرب ما يكون إلى النازيين الجدد، لكن لحساسية موقف ألمانيا من مسألة النازية فقد أُطلق عليه الحزب البديل الألماني (Alternative für Deutschland)، وما يثير الاهتمام أن هذا الحزب قد حصل على المركز الثالث في انتخابات البوندستاغ الألماني خلف الحزب المسيحي المحافظ CDU (الحزب الحاكم بقيادة أنجيلا ميركل) وخلف الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني SPD، واللذان حققا أقل نسبة من الأصوات في تاريخهما، مما يشير إلى التحول الألماني اليميني.
الشكل (3): نتائج الانتخابات الألمانية لمجلس البوندستاغ عام 2017
كما شهدت بريطانيا أيضاً هذا التحول، فبعد أن استقالت تيريزا ماي من رئاسة الوزراء في بريطانيا، انتُخب بوريس جونسون ليتولى منصب رئاسة الحكومة، وهو المعروف بميوله اليميني، وقد كان هدفه الرئيسي في برنامج الانتخابي هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد استطاع تحقيق أغلبية برلمانية ساحقة في الانتخابات المبكرة التي دعا لها، والتي أجريت في 12 كانون الأول من عام 2019. وتم له ما أراد، حيث خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير من هذا العام.
الشكل (4): ترامب يهنيء جونسون عبر تغريدة على تويتر بفوزه “الرائع” في الانتخابات البريطانية في نهاية العام الماضي.
وشهد العالم تطورات تعاونية مختلفة، كان للصين الدور الأعظم فيها، فقد استطاعت إزاحة الاستثمارات الأمريكية في قارة أفريقيا لتصبح هي اللاعب الرئيسي هناك، وقامت بإقرار طريق الحرير الجديد، الذي يربط الصين بأوراسيا، واستطاعت أيضاً تحقيق اتفاقية مع الباكستان تعرف بالممر الصيني الباكستاني، الذي يتيح للصين استخدام ميناء جوادار الباكستاني وربطه بمدينة كاشغر الصينية عبر معبر بري معبد باستخدام السكك الحديدية، وهذه الاتفاقيات تقوم على المشاركات الودية كتطبيق للسياسة الناعمة التي تنتهجها الصين حاليا. وكردة فعل فقد عززت الولايات المتحدة الأمريكية تعاونها مع الهند، حيث تعتبر الهند العدو التاريخي للباكستان، وأيضاً قامت الولايات المتحدة باتفاقيات تعاونية مع دول الخليج. ومن هنا يتبين أن الولايات المتحدة أصبحت تخشى المد الصيني في أسيا وأوروبا حتى لا يتم ازاحتها منهما كما حصل سابقاً مع الدول الأفريقية.
شكل (5): الممر الصيني الباكستاني والتنافس الصيني الأمريكي في المنطقة
وحتى يتم التحول الاقتصادي الذي شهدت السنوات الأخيرة، فلا بد من عرض الناتج الإجمالي (GDP) للدول الأقوى اقتصادياً في العالم قبل وقوع أزمة فايروس الكورونا؛ سيطرت الصين على المركز الأول عالمياً في الناتج المحلي الإجمالي، فقد بلغ 25 تريليون دولار، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثاني، فقد بلغ 19 تريليون دولار، ثم الهند 9 تريليون، ثم اليابان 5 تريليون، ثم ألمانيا وروسيا 4 تريليون لكل منهما، ثم البرازيل واندونيسيا وبريطانيا وفرنسا 3 تريليون تقريبا لكل منهم. تتضح الفجوة ما بين الصين والولايات المتحدة، حيث أن هذه الفجوة تقارب 6 تريليون وهي أكثر مما تحققه ألمانيا أو روسيا، والذي تحققه فرنسا وبريطانيا مجتمعتين، غير أن الفجوة كبيرة جداً بين الولايات المتحدة والهند، هذه الفجوة تقارب 9 تريليون دولار وهو رقم ضخم يبين مدى ابتعاد الصين والولايات المتحدة عن باقي دول العالم. فالصين والولايات المتحدة مجتمعتين بلغ الناتج المحلي الإجمالي لهما 45 تريليون دولار.
ما بعد فايروس كورونا
أصبح العالم الآن يعاني انتشاراً هائلاً في فايروس الكورونا، فقد تجاوز عدد المصابين المليون ومائة ألف شخص حتى كتابة هذه المقالة، وهذا العدد آخذ للزيادة بشكل خطير جداً يصعب التصديق على أنه قابل للتوقف دون خطوات حاسمة وهائلة خاصة للدول الأكثر تضرراً مثل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية حالياً.
الملاحظ أن الصين حال إعلانها عن السيطرة على انتشار الفايروس فيها فقد باشرت عملها وفتحت مصانعها، السر الكامن في ذلك هو أن الصين دولة بكلمة واحدة، بانضباط في التنفيذ وفي تقبل القرارات استطاعت التعافي والخروج من الأزمة، غير أن الصين في فترة انتشار الفايروس في أراضيها كانت قد توقفت عن الإنتاج وتراجع الاستثمار فيها، لكنها كدولة اشتراكية في بيئتها الداخلية قامت بتقديم المعونات اللازمة بالتساوي لكافة مواطنيها، فاستطاعت الخروج بأقل الخسائر الممكنة في أكثر دولة في العالم سكاناً.
الآن الصين تقوم بالإنتاج، لكن الطلب على منتجاتها لن يكون كما السابق، فالصين كانت تنتج 20% من استهلاك العالم من المنتجات، لكن دول العالم يتفشى فيها المرض، والمعروف أنه في ظل الأزمات فإنه يقل الإنفاق. فالطلب على المنتجات غير وارد حالياً، لكن الصين ستلتزم بتعاقداتها التي وقعتها قبل الأزمة، لذلك فهي تنتج الآن، وتنتظر تعافي العالم من هذا الوباء. لكن الاستهتار العالمي وخاصة من الدول العظمى سبب انتشار الوباء بهذه الصورة، فبريطانيا لازالت تعمل بها القطارات، والولايات المتحدة لم توقف رحلات طائراتها الداخلية، وحال إيطاليا واسبانيا وتركيا مشابه في عدم إيقافهم للرحلات السياحية حتى وقت متأخر من استشراء المرض فيهم.
إن قراءة الواقع ما بعد أزمة الكورونا تتطلب معرفة متى يتوقف هذا الوباء، فالآن يتعرض 3 مليارات شخص على الأقل للحجر الصحي وهناك مليارات لا يدركون ما الذي يحصل في هذا العالم. لكن العالم لن يعود كما كان قبله، فسيكون هناك تراجع في الاقتصاد العالمي، ولأن الأفراد في الأزمات لا يثقون بالمستقبل، لذلك فالأفراد لا يقومون بالمصاريف غير اللازمة، لذا فإن قطاع السياحة كان الأكثر تضرراً، حيث ضُرب هذا القطاع في العالم أجمع، وتوقفت قطاعات أخرى بشكل كامل وجزئي، وهذا سيجعل الاقتصاد العالمي يحتاج لسنوات لإصلاحه. لكنه لن يصل لمرحلة الكساد العظيم في عام 1929، لأن عجلة الاقتصاد لن تتوقف، ويلاحظ أن هناك تشابه من حيث الإنفاق على مواطني الدولة في هذه المرحلة، فالولايات المتحدة قامت بإنفاق 2 تريليون دولار على مواطنيها، بالرغم من أنها رأسمالية وليست اشتراكية.
وتراجع الصين والولايات المتحدة النسبي بالرغم من أنها أضر بالعجلة للاقتصاد العالمي إلا أنه لن يوقفها، فطالما هاتان الدولتان قادرتان على العودة فالعالم لن يقع، ودعايات المجاعات والكساد العظيم هي محض خرافات. بقاء الولايات المتحدة مرهون بقوتها العسكرية، فالدولار قوته عسكرية واقتصادية، فالولايات المتحدة تهيمن على الدول القادرة على اسقاط الدولار وهي الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي، كما أن الولايات المتحدة تنتج 18% من اقتصاد العالم.
غير أن الولايات المتحدة تخلت عن شركائها الأوروبيين في هذه المحنة، فلم تقدم المساعدات لإيطالياً وإسبانيا حينما احتاجتاها، وسارعت الصين وروسيا لمد يد العون بالخبراء والمعدات لإيقاف الاستنزاف البشري في أوروبا، وهذا خطير في الناتج السياسي، فبالرغم من البعد الإنساني له؛ إلا أن الواضح أن الدولة الرأسمالية قد تخلت عن الدول الرأسمالية التي احتاجت مساعدتها وبدلاً من ذلك مدت الدول الاشتراكية المساعدة لتلك الدول، وهذا ما سيتحول مستقبلاً إلى الإدراك الشعبي إضافة إلى الإدراك القومي.
وفي الواقع فإن هناك لامبالاة إما أن تكون مقصودة أو أنها ذات طابع ليبرالي بحت في التعامل مع الأزمة في الداخل الأمريكي، وذلك وفقاً لنظرية آدم سميت (البقاء للأقوى وللأصلح وللقادر على العطاء والعمل، ولا مكان هناك للضعفاء). فتصرفات الإدارة الأمريكية في الوقت الذي يصاب فيه عشرات الألوف ويموت فيه الألاف فيها بسبب انتشار الفايروس نرى بأن ترامب يعرض جهازاً للكشف المبكر عن فايروس الكورونا، مدعياً بأن الولايات المتحدة ستجني أموالاً طائلة من بيعه، هذا الرئيس الذي يبدو تاجراً أكثر منه رئيساً لأعتى دولة في العالم، يتاجر بالأنفس والأرواح.
إن تصرف الولايات المتحدة من لامبالاة مع شركائها له انعكاسات خطيرة أيضاً على حلف شمال الأطلسي، فلربما يشهد هذا الحلف تفككاً في المستقبل، فإن لم تقف رأس الهرم في هذا الحلف موقفاً مسانداً في أعتى الأزمات فإن السؤال المطروح هنا: متى ستقف؟ هنا يتبين أن هذه الدولة الرأسمالية البحتة بقيادة ترامب لا تنظر إلى البشرية بإنسانية، وإنما هي المصالح. لذلك فإننا في مرحلة ترقب لجوهر القضية وهي التحكم في انتشار الفايروس، ومن بعدها يمكن أن يكون هناك تحول في مواقع الصدارة في العالم، فالصين وروسيا أثبتا القدرة على استلام موقع الولايات المتحدة في إدارة الأزمات العالمية، وخاصة في ظل الأزمات العالمية التي تهدد الإنسانية.
رابط المصدر: