أيهم مقدسي
لا تزال ترتفع المخاطر المتعلقة بجائحة كورونا (كوفيد-19)، والتي من ضمنها الضرر الكبير على الاقتصاد العالمي بسبب اضطراب ميزان العرض والطلب المحلي والخارجي، واضطراب الإنتاج، وتضرر التجارة العالمية بسبب انغلاق دول على نفسها، وتراجع ثقة المستهلكين والمستثمرين.
وتواجه البلدان المصدّرة للنفط في المنطقة مخاطر أكبر، وهي الهبوط الشديد في أسعار النفط. فقد “أدت القيود المفروضة على السفر عقب وقوع هذه الأزمة المتعلقة بالصحة العامة إلى تراجع الطلب العالمي على النفط، وأدى عدم وجود اتفاقية إنتاج جديدة بين أعضاء أوبك إلى حدوث تخمة في المعروض. ونتيجة لذلك، انخفضت أسعار النفط بما يزيد على 50% منذ بدء الأزمة المتعلقة بالصحة العامة”([1]). ومن المتوقع لهذه المخاطر والاضطرابات أن توجه للاقتصاد العالمي ضربة عنيفة، خلال النصف الأول من العام الجاري على أقل تقدير، وربما تستمر أكثر. ما يعني أن عواقبها ستؤثر على المدى البعيد على مستقبل الاقتصاد الدولي.
وتتسارع تداعيات الأزمة في التأثير على أسواق النفط، لتدفع بمنظمة أوبك والمنتجين الكبار خارجها، إلى الاستنفار والعمل على إيجاد طريقة للخروج، قبل انهيار الأسعار من جديد. فبعد مرور ما لا يقل عن شهر منذ دُقّ ناقوس الخطر وإعلان المسؤولين الصينيين تفشي الفيروس، تراجع الإنتاج في الصين، وانخفضت الواردات من منتجات الطاقة. ويرجح الخبراء انخفاض الطلب الصيني بنحو 300 ألف برميل يومياً، ليستمر نزيف أسعار النفط الخام، ويصل إلى أدنى مستوى له منذ كانون الأول/ ديسمبر 2018. لذلك عقدت اللجنة التقنية المؤلفة من ممثلين عن الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) اجتماعاً في مقرها في فيَنّا، لمناقشة الإجراءات التي يجب اتباعها، لمجابهة تداعيات انتشار الفيروس على الطلب العالمي على النفط. وأوصت المنظمة اللجنة التقنية لدول أوبك وغير أوبك، بتطبيق تخفيض إضافي في الإنتاج النفطي حتى نهاية الفصل الثاني من سنة 2020، بسبب التأثير السلبي لانتشار الفيروس على الأسواق، وفي ختام اجتماعها الاستثنائي الذي استمر ثلاثة أيام، أوصت اللجنة بتمديد الاتفاق الحالي لتخفيض الإنتاج إلى نهاية السنة الجارية، كما أوصت بتخفيض إضافي للإنتاج إلى نهاية الثلث الثاني من هذا العام.
وكانت المنظمة قد قررت منذ سنة الحد من إنتاجها النفطي بمقدار 1,2 مليون برميل في اليوم عن مستوى تشرين الأول/ أوكتوبر 2018، وفق اتفاق تنتهي مدته في آذار/ مارس 2020، وذلك كإجراء اتخذته (أوبك) لمواجهة انكماش النمو العالمي ووفرة المخزون النفطي وهشاشة الأسعار. ما يثير التساؤل حول مستقبل سوق النفط العالمية ونجاعة هذه الإجراءات في الحد من نزيف أسعار النفط وتحديد حصص الإنتاج لمجموعة أوبك وخارجها خصوصاً السعودية وروسيا([2]).
تنافس سعودي روسي
ظهرت بوادر حرب أسعار بين السعودية وروسيا بعد إعلان موسكو، رفضها تمديد وتعميق اتفاق خفض إنتاج النفط حتى نهاية 2020. من جانبها أعلنت “أرامكو السعودية” عزمها تزويد عملائها بـ 12.3 مليون برميل يومياً بدءاً من أبريل/ نيسان المقبل، بزيادة 300 ألف برميل يومياً، عن الطاقة القصوى المستدامة البالغة 12 مليون برميل يومياً. والبَلَدان هما أكبر مصدرين للنفط في العالم ولدى كل منهما حوالي 500 مليار دولار في خزائنه ستقيه الصدمات الاقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط.
وتعتبر موسكو أن بوسعها تحمّل أسعار نفط بين 25 و30 دولاراً للبرميل لفترة تصل من ست سنوات إلى عشر. في غضون ذلك، تستطيع الرياض تحمل النفط عند 30 دولاراً للبرميل، لكن سيكون عليها بيع مزيد من الخام لتخفيف الأثر على إيراداتها، غير أن حرب استنزاف ستكون مدمرة لاقتصاد البلدين على أي حال وستجبر كلا البلدين على تغييرات اقتصادية صعبة كلما طالت الأزمة.
من جهتها المملكة العربية السعودية وتحسباً لهكذا أزمة جمعت أكثر من 100 مليار دولار ديوناً بالعملة الصعبة منذ 2016 لتعويض أثر انخفاض أسعار النفط، كما تم اتخاذ تدابير عاجلة من الحكومة السعودية لمواجهة الخطر الحالي تمثلت بحزمة تدابير اقتصادية بقيمة تقارب 32 مليار دولار، تضمنت تقديم أكثر من 13 مليار دولار للبنوك والمؤسسات المالية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، كما تتضمن تعليق تحصيل رسوم الجمارك على المستوردات لمدة ثلاثين يوماً. وجاءت هذه الإجراءات بعد إقرار الحكومة خفضاً يزيد على 13 مليار دولار في موازنة العام الحالي للحد من أثر الهبوط الكبير في أسعار النفط، كما تمت الموافقة على زيادة سقف الدين العام إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي. لكن ومع ذلك فإن المشكلة بالنسبة للرياض تتمثل في أن بقاء أسعار النفط منخفضة على نحو مستدام قد يكبح الإنفاق الحكومي على مشاريع ضمن مساعي ولي العهد لتنويع موارد الاقتصاد وهو ما يعني التباطؤ في تطبيق رؤية المملكة 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي([3]).
وبالنسبة لروسيا يرى محللون أنها في وضع أفضل بكثير لتحمل صدمة اقتصادية، لامتلاكها خبرات للتعامل مع أزمات سابقة كما حدث في 2014 عندما فرض الغرب عقوبات بسبب ضمها لمنطقة القرم من أوكرانيا. والأزمة العالمية في العام 2008. وعليه فإن روسيا تدرك تماماً لعبة شد الحبل في الحروب الاقتصادية إلى طرفها أو على الأقل الوصول إلى موازنات تتيح لها عدم تسجيل خسائر مرتفعة. وفي الأسبوع الماضي، قال وزير المالية في الحكومة الروسية أنطون سيلوانوف متحدثاً عن احتياطيات النفط: “كثيرون انتقدونا، قالوا هذا مثل صندوق كنز، إن وزارة المالية تكنز الذهب، لكن الوضع قد يتغير الآن وسنمول جميع النفقات التي تحملناها ونحن ملتزمون باستخدام صندوق الكنز هذا”([4]). وتبلع الاحتياطيات الروسية 570 مليار دولار _صندوق الثروة الوطني_ البالغ حجمه 150.1 مليار دولار بما يعادل 9.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. وعليه فإن استخدام الصندوق يمكن أن يساهم في تخفيف أثر تراجع إيرادات النفط عند الضرورة. واتخذ البنك المركزي إجراءات من ضمنها تعليق مشتريات النقد الأجنبي لثلاثين يوماً في محاولة لتخفيف الضغوط عن الروبل مع أخذ أوضاع السوق في الحسبان عند البت في عطاءات السندات الحكومية المقومة بالروبل الروسي في المستقبل([5]).
إنفوغرافيك يوضح حصص الدول من الإنتاج العالمي للنفط
حدوث الطفرة (ارتفاع أسعار النفط في وسط الأزمة)
مع تزايد انتشار الفايروس في أرجاء أكبر من دول العالم، سجلت أسعار النفط في 24 آذار/مارس ارتفاعاً ملحوظاً، بعد أن لمح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أنه ربما يتدخل في حرب الأسعار في الوقت المناسب، وعزمه إرسال مبعوث خاص إلى المملكة العربية السعودية؛ للعمل على استقرار سوق النفط العالمي، كما تلقي أسعار النفط دعماً من خطط للولايات المتحدة لشراء ما يصل إلى 30 مليون برميل من النفط الخام لمخزونات الطوارئ بحلول نهاية حزيران/يونيو، فيما أوردت تقارير أن الجهات التنظيمية في أكبر ولاية منتجة للنفط في البلاد وهي تكساس تتجه لكبح الإنتاج. وعليه فقد ارتفعت العقود الآجلة لبرنت 28 سنتاً أو نحو واحد بالمئة إلى 28.75 دولار للبرميل، وزاد خام القياس العالمي 14.4 بالمئة محققاً أكبر مكسب في يوم واحد منذ أيلول/سبتمبر، فيما ارتفع سعر العقود الآجلة للنفط لشهر أيار/مايو لخام “برنت” بحر الشمال بنسبة 3.74% ليصل إلى 28.04 دولاراً للبرميل، وبالنسبة للعقود الآجلة لخام غرب تكساس WTI فقد صعدت بنسبة 4.7% ليصل السعر إلى 24.46 دولاراً للبرميل([6]).
مستقبل السوق النفطية
الارتفاع في أسعار النفط في ظل نمو المخاوف لدى المستثمرين والمستهلكين في قطاع النفط مع عدم قدرة النظام العالمي على احتواء مخاطر الفايروس طرح التساؤلات حول إمكانية تحقيق طفرة في سوق النفط العالمي، عن طريق سياسات الولايات المتحدة في احتوائها الخلاف بين الدول المنتجة في داخل أوبك وخارجها، حيث تساهم منتجات التنقيب في قطاع النفط الصخري بفاعلية في سوق النفط، على الرغم من أنه قبل خمس سنوات “كانت تكاليف إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مرتفعة للغاية لدرجة أنه كلما انخفضت أسعار النفط كان المنتجون الأمريكيون أول المتأثرين. ويفترض العديد من المعلقين والمصادر الإعلامية أن الأمر لا يزال كذلك، لكن الوضع تغير بشكل كبير. ففي تقرير صدر مؤخراً عن صندوق النقد الدولي حمل عنوان: مستقبل النفط والاستدامة المالية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي. أدرجت المنظمة سعر عتبة الربح لمصادر متنوعة من النفط الخام. وبطبيعة الحال، كانت تكلفة نفط الخليج هي الأدنى عند 18 دولاراً للبرميل، غير أن الصدمة تمثلت في حلول النفط الصخري الأمريكي في المرتبة الثانية عند 22 دولاراً أي أدنى بنسبة 50% من متوسط مشروع المياه العميقة، و80% أقل من النفط الرملي الكندي، و90% أقل من المشاريع البرية الروسية”([7]). وفي غضون فترة زمنية أمدها خمسة أشهر، من شأن خفض الإنتاج بـ 1 مليون برميل يومياً بالنسبة لخام غرب تكساس، أن يمنح السلطات الأمريكية بعض من صفقات المساومة الفعلية لحث السعوديين والروس على خفض إنتاجهم، أي سيستمر الإنتاج الأمريكي في تحديد مسار أسواق النفط العالمية بغض النظر عما تفعله الرياض وموسكو، وستتمكن الولايات المتحدة من تطبيق الدروس المستفادة من استراتيجيتها في التعامل مع أزمة أسواق النفط الأشد وطأة من الأزمة الحالية في عام 1973 عندما خفضت السعودية الإنتاج وارتفعت أسعار البرميل إلى مستويات قياسية لكنها عادت لاحتواء هذه الأزمة([8])، بالتالي سيؤدي ذلك إلى استقرار الأسواق على المدى القريب والمتوسط إلى حد ما.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
([1]) “جهود (أوبك+) لاستعادة استقرار أسعار النفط بعد تفشي «كورونا». مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 11-2-2020. https://bit.ly/3apCF3O
([2]) “جائحة كوفيد-19 في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى: صدمة مزدوجة تواجه المنطقة”. صندوق النقد الدولي، 24-3-2020. https://bit.ly/33KrU9R
“حرب النفط بين السعودية وروسيا.. موسكو ترفض التدخل الأميركي وتوقعات بانخفاض الطلب 10%”. الجزيرة نت، 20-3-2020. https://bit.ly/2ybTH7p
“كورونا يعرقل انعقاد اجتماع لـ”أوبك” حول أسعار النفط”. الأناضول، 20-3-2020. https://bit.ly/2WVPL59
([3]) “السعودية.. حزمة تدابير بقيمة 32 مليار دولار لمواجهة هبوط النفط ووباء كورونا”. الجزيرة نت، 20-3-2020. https://bit.ly/3dtHXND
“السعودية تزيح روسيا عن صدارة موردي النفط إلى الصين”. ميدل إيست أونلاين، 29-11-2018. https://bit.ly/2Ul3OPZ
([4]) “روسيا ضد السعودية.. من يصرخ أولا في حرب أسعار النفط؟”. رويترز، 9-3-2020. https://bit.ly/33LlbfT
“خسائر السعودية وروسيا جراء “الحرب النفطية”. الحرة، 11-3-2020. https://arbne.ws/2QPKKqS
([5]) “حرب النفط بين السعودية وروسيا، لكننا قد نكون الضحايا”. معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 10-3-2020. https://bit.ly/2wDp8ac
([6]) “النفط يواصل “التعافي” من تداعيات كورونا”. سكاي نيوز، 20-3-2020. https://bit.ly/39h8V81
“ترامب يخطط لإرسال مبعوث مفاوض للمملكة”. المواطن، 23-3-2020. https://bit.ly/3bvNDoH
“بلومبيرغ: انهيار أسعار النفط يمهد لتآكل احتياطات الخليج المالية”. الأناضول، 22-3-2020. https://bit.ly/33OUTJm
([7]) “لا تحكم على إنتاج النفط الأمريكي في تشكيل السوق”. معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 20-3-2020. https://bit.ly/3btUGhC
([8]( “Kissinger Fails to Sway Saudis From Oil Embargo”. The New York Times Archive, 10-11-1973. https://nyti.ms/2UGqWav
رابط المصدر: