د. احمد ابريهي علي
تعرض هذه المقالة القصيرة حقائق نمطية عن اضطراب الاقتصاد زمن الأوبئة، والآثار اللاحقة، اعتمادا على بيانات من التاريخ الكمي ودراسات أعدت أخيرا. وتبقى تبعات التعطيل الاقتصادي لوباء كورونا يكتنفها عدم التأكد، إذ لا تكفي المعلومات المتاحة في هذه المرحلة من سياق الأزمة لمعرفة العمق المحتمل ان تصل اليه، ونتائجها فيما بعد. بل هي محاولة للاقتراب من صدمة الوباء، والتي بلغت الى الآن مديات لا يستهان بها. ومن ثم النظر في السياسات الجارية على المستوى الدولي. وتلي هذه المقالة حلقة مختصرة لتغطية جوانب أخرى.
الأمراض المعدية والصحة في السياسة العامة:
لقد أحرز الطب تقدما كبيرا، في المعرفة والممارسة، متناسبا مع تطور علوم الأحياء والكيمياء، والتكنولوجيا والصناعة، وتتزايد مكانة قطاع الصحة في الإنفاق الحكومي والسياسات العامة للدول في مختلف مراحل التطور. ومع ذلك لازالت الأمراض المعدية تهدد المجتمع والاقتصاد على المستويات الوطنية والعالم. ومنها تتجاوز النطاق المحلي Endemic لتنتشر بالعدوى وباءا على نطاق جغرافي واسع Epidemic أو جائحة Pandemic مثل كورونا عام 2020 وقبلها إنفلونزا عام 1918.
ومنذ نهاية القرن العشرين شهد العالم ظهور وانتشار امراض معدية جديدة تكاليفها الاقتصادية والبشرية موثقة جيدا. والقطاع الصحي أول ما يتأثر بالوباء وغالبا ما يبدو دون القدرات الكافية لاستيعاب الانتشار السريع للمرض. ونظرا للمحتوى التخصصي العالي في المهن الطبية تواجه الحكومات صعوبات تعبئة المزيد من الموارد البشرية استجابة للحاجة الملحة للعناية والعلاج. وبينت تجربة التعامل مع جائحة كورونا عدم كفاية الوسائل الضرورية للفحص والتشخيص السريع، ونقص حاد في الأجهزة الضرورية للعناية المركزة، وخدمات الرقود والأدوية. وايضا، يتعرض الكادر الطبي للمخاطر؛ وحتى صعوبات في تعبئة الموارد المالية الإضافية للقطاع الصحي.
وعدا الخسائر البشرية، وهي الأهم، وصعوبات إدارة الأزمة في مجالها المباشر، يتأثر التعليم وقطاعات النقل والسياحة والزراعة والصناعة، ولقد ضربت كورونا النفط واسعاره ايضا؛ ولتلك الصدمات نتائج في الموازنات العامة والمصارف وأسواق الأسهم والأوضاع المالية للشركات وسواها. وبحكم الترابط الوثيق في الاقتصاد المعاصر يربك الوباء سلسلة حلقات الانتهاج والتجهيز في العالم، والنشاط الذي لا يقيّده نقص الطلب يعاني عدم كفاية المدخلات أو موانع تعرقل تشغيل طاقاته الانتاجية. وقد أثبتت التجربة لجميع الدول ان الوقاية من مخاطر الأوبئة تتطلب تعاونا دوليا أوثق بما فيه تبادل الخبرات والتنسيق والدعم المالي للدول الفقيرة.
وعلى صعيد الأبحاث ذات الصلة بالسياسات، في السنوات القليلة الماضية، يلاحظ الاهتمام في اقتصاد الصحة، والتاريخ الاقتصادي للأوبئة من ذوي الاختصاص والخبرة الى جانب البنك الدولي. ومن المفيد التركيز على النتائج المحتملة للجوائح وذلك لأنها، ورغم فداحة آثارها الاقتصادية، لم تكن من الموضوعات الرئيسة في التاريخ الاقتصادي. ولا يخفى ان الاضطرابات والأضرار الاقتصادية للأوبئة، حتى وان اقتصرت على نطاق جغرافي دون العالم بأسره، فسوف تنتشر نتائجها الى كل الأرض وبسرعة متزايدة. وذلك لكثافة الصلات والاعتماد المتبادل بين الأنشطة الانتاجية عبر الحدود والتجارة الخارجية واسواق المال… وكل ما تعنيه وحدة نظام الاقتصاد في المعمورة.
ان دراسة الأوبئة وعواقبها الاقتصادية لا زالت، ضمن نطاق توفر البيانات الكافية للوقوف على تبعاتها. والمهم استدعاء مثل هذه الصدمات الكبرى الى دائرة الوعي، وإضافتها الى التفسيرات المحتملة لتحولات بارزة في مجرى تاريخ بلادنا والمنطقة والعالم.
وقائع الإصابة بجائحة كورونا:
بدء الاعلان عن إصابات بفايروس Covid 19 في يناير، كانون الثاني، 2020، وحتى بداية شباط وصل مجموعها 12 ألفا، وبداية آذار 88 ألفا، وفي الأول من أبريل، نيسان، 827 ألفا؛ تلك لأقرب عدد صحيح. وحتى نهاية يوم 18 نيسان 2332004 مصابا أو 2.332 مليون نسمة تقريبا في 212 دولة أو كيان مستقل. عدد الاصابات الجديدة ليوم 18 نيسان 83141 واليوم السابق 86496 والذي قبله 16 نيسان 90254 وهو ذروة موضعية سبقتها أخرى يوم 10 من نفس الشهر 93740، وقبلها يوم 3 من نيسان 96031، وقد تفيد هذه الوقائع الاقتراب من طور بداية النزول، ثم نتفاءل أكثر لنفترض ان الجائحة موجة واحدة قد تنتهي مطلع سبتمبر، أيلول، استنادا إلى فرض آخر وهو التماثل بين وتيرتي الصعود والنزول؛ وربما، على اساس ذلك التفاؤل، لا تزيد مجموع الاصابات عن 4.7 مليون على الأكثر احتمالا حسب هذا النمط الإحصائي المتصور.
ولمّا كان مجموع الوفيات حتى يوم 18 نيسان 160767 نسمة برحمة الله، قد لا يزيد مجموعها عن نصف مليون نسمة حتى نهاية الموجة؛ لكن بعض الدراسات بالغت في الوفيات المحتملة بحيث وضعتها في نطاق 2.5 مليون نسمة للولايات المتحدة وبريطانيا فقط، وعلى قياس هذه الخسائر تتجاوز مجموع الوفيات في العالم 7 مليون نسمة؛ وكأن تلك الدراسات انطلقت من تصور الوباء أكثر من موجة ومسار الوقائع لم يزل بعيدا عن مغادرة الذروة حسب فهمهم. من جهة أخرى لا زال تقدير منظمة الصحة الدولية للموقف بأنه بالغ الخطورة، وتؤكد ضرورة الالتزام بالتدابير التي أوصت بها للحد من انتشار الوباء.
وعلى اساس بيانات المجموع العالمي المتراكم للإصابات حتى يوم 17 نيسان توزعت على الدول كما يلي: حصة الولايات المتحدة الأمريكية 31.6% من مجموع الاصابات؛ تليها على التوالي اسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وهي مجتمعة لديها 33.8%؛ وفي الصين وإيران وتركيا 10.7%؛ أي ان الاصابات في الدول التسع، آنفا، 76.1% من المجموع العالمي. وفي بلجيكا والبرازيل وروسيا وكندا وهولندا وسويسرا والبرتغال والنمسا 10% من الاصابات في العالم. تلك الدول، عددها 17، تركزت فيها الاصابات بنسبة 86.1%؛ وفي 95 دولة أخرى 13.7% من المجموع؛ و0.3% او ثلاثة من الألف في 100 دولة أو كيان مستقل.
أي ان كثافة انتشار الوباء ليست متماثلة في جغرافية العالم، ولا متناسبة مع سكان الدول: الهند، 1387 مليون نسمة، أعلنت حوالي 14 ألف إصابة وهي مجاورة للصين منطلق الوباء؛ بينما في بلجيكا، دون 12 مليون نسمة، أكثر من 36 ألف إصابة.
كما يلاحظ ان الدول الأكثر تطورا والأعلى رفاها أصيبت أكثر من دول نامية وفقيرة. ولا تُفسّر كثرة الاصابات في تركيا وإيران بعوامل واضحة، وهما يختلفان في وضعهما الاقتصادي وعلاقاتهما الدولية. ولا يمكن وصف الانتشار بأنه عشوائي بالمعنى الإحصائي الدقيق، لأن السلوك العشوائي يقترب في المجتمعات الكبيرة من التوزيع الطبيعي المعروف، أي التناظر في احتمال الابتعاد عن الوسط، فوقه أو دونه، والوسط في هذه الحالة 303 إصابة لكل مليون من السكان حتى نهاية 18 نيسان.
وباء الموت الأسود:
لقد حظي وباء الموت الأسود Black Death، في القرن الرابع عشر1347-1352، باهتمام يساعد على فهم أو تخمين صدمته الاقتصادية. وتقدر ضحاياه في نطاق 75 مليون نسمة وتمثل هزة ديموغرافية عنيفة بمقياس حجم سكان العالم آنذاك إذ يقدر 350 مليون نسمة عام 1400 بعد الوباء وكان 360 مليون نسمة عام 1200 قبل الوباء بقرن ونصف. لقد عاود الموت الأسود الظهور في الأعوام 1362، و1368، و1381، وتكررت موجاته حتى القرن الثامن عشر على نحو شبه دوري وهذه الخاصية هي الأخطر في الأمراض المعدية.
ويذكر ان الإصابة تبدأ بأعراض شبيهة بالأنفلونزا ثم أورام تحت الأبط، ويتدهور وضع المصاب سريعا. وتوصف منطقة النورماندي الفرنسية بأنها فقدت بين 70%-80% من سكانها في الوباء. ذلك الزمن، قبل الوباء، عاشت اوربا استقرارا لم يكن معهودا لها وانتعشت تجارتها الخارجية، وكانت دويلات المدن الإيطالية، خاصة جنوا والبندقية، رائدة هذا التوجه، ويعتقد ان الوباء وصل الى الموانئ عبر طفيليات تحملها القوارض. وأول ما اصاب الناس في القسطنطينية، إسطنبول الحالية، كانت عاصمة الدولة البيزنطية. ومن الناطقين باليونانية انتقل الى شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وفي عام 1347 وصل ميناء مرسيليا الفرنسي ثم انتشر شمالا وغربا، وعم أوربا كلها.
وتشير بعض الدراسات الى موت نصف سكان أوربا، آنذاك، بالوباء، وانه لم يميّز بين الناس لثرائهم او مكانتهم الاجتماعية او السياسية. ويذكر ان الميل للعنف قد اشتد، بعد الموت الأسود، وغادرت اوربا هدوئها النسبي الى حروب وقسوة. وقَلَب الوباء الاقتصاد الأوربي راسا على عقب واضطربت التجارة وتقلصت الصناعة لفقدان التجار وذوي المهارة. وثمة اعتقاد بأن الموت الأسود من اسباب النهضة Renaissance لأن الأرض أصبحت وفيرة والتراتبية الطبقية لم تعد بتلك الصرامة، وانتعشت الصناعة في الأرياف، فيما بعد، وأخذ الناس بالتطلع نحو حرية أوسع في التفكير والحياة اليومية.
وقد اقترن ذكر الموت الأسود بتمرد الفلاحين في بريطانيا الأمر الذي عجّل بزوال الأقطاع. كما أدت التغيرات الديموغرافية بسبب الوباء الى انخفاض عرض القوى العاملة بنسبة تقدر بين 25% الى 50%، في إنكلترا، ما ساعد على تحسين الانتاجية، وارتفعت الأجور الحقيقية بنسبة 100%؛ مع تقوية الموقف التساومي للقوى العاملة. وايضا انخفض العائد على الأرض لصالح العمل ورأس المال بفعل انخفاض السكان.
ان انخفاض حجم القوى العاملة نتيجة الوباء، وكما سلف، يرفع متوسط راس المال للعامل والمتوقع نظريا ارتفاع الأجر الحقيقي مقابل نزول عائد راس المال. وقد بينت دراسة Jorda وزملائه فعلا هذه النتيجة لأربعة عقود لاحقة لوباء الموت الأسود في أوربا من بيانات ست دول مجتمعة وكل على حدة: فرنسا، المانيا، إيطاليا، هولندا، اسبانيا، وبريطانيا. وقد افترضت الدراسة ان سعر الفائدة الحقيقي يعبر عن عائد راس المال. ويبدو ان الوباء أدى الى تحول لم ينعكس حتى بعد انقضاء المدة التي افترضتها الدراسة لمتابعة الأثر. وهذا النمط من النتائج الاقتصادية قابل للتكرار مع الأوبئة الأخرى، كما بين التحليل، ولا يقتصر على الموت الأسود.
إنفلونزا عام 1918:
ظهرت وانتشرت في السنة الأخيرة للحرب العالمية الأولى، بثلاث موجات: الأولى في ربيع عام 1918، والثانية وهي الأقسى بين سبتمبر، ايلول عام 1918 وكانون الثاني عام 1919، والثالثة بين فبراير، شباط، عام 1919 ويونيو، حزيران، عام 1920. وتسمى خطا “ألأنفلونزا الأسبانية”، وتنتقل عدواها بالهواء، والفايروس يصنف من الأنفلونزا A وفرعها H1N1. وتقدر خسائرها 39 مليون نسمة تعادل 2% من سكان العالم حينها. وانتشرت في 43 دولة منها مصر وتركيا والهند واندونيسيا والصين واليابان وكوريا وماليزيا والبرازيل وغيرها، إضافة على الدول الأوربية وشمال أمريكا. وتقدر الخسائر البشرية للهند جراء الوباء 16.7 مليون نسمة والصين 8.1 مليون نسمة وكانت الوفيات في جنوب أفريقيا واندونيسيا عالية، أي ان أضرارها البشرية خارج البؤرة الأولى للوباء اكثر. وفاقت ضحاياها خسائر الحرب، من العسكريين والمدنيين.
ويذكر Thomas A. Garrett بان الوفيات في الولايات المتحدة من الوباء عشرة امثال خسائرها في الحرب. وأضافت اوضاع معيشة المتحاربين، في جبهات القتال والمعسكرات، وحركات الجيوش عوامل أخرى لانتشار الوباء، ولم يكن الجنود بمنأى عنه، فصُدِمت الإنسانية التي عذبتها الحرب بكارثة الوباء. وتركزت وفيات الأنفلونزا في فئة الأعمار الشابة 18-40 سنة وفي الرجال أكثر من النساء ضمن هذه الفئة. ويرى المختصون ان السبب الرئيس للوفيات ليس فايروس الأنفلونزا ذاته بل رد الفعل المناعي Immunological Reaction ولذلك كان الأقوياء أكثر عرضة للموت. والفئة العمرية المصابة هي الأكثر حيوية، ولقد تضرر اقتصاد الدول بأثر مضاعف نتيجة تركز الخسائر البشرية، من الحرب والوباء، في الفئة الشابة.
ويُذكر ان الاجتماعي الألماني المعروف Max Weber قتله هذا الوباء، وكذلك جد الرئيس الأمريكي الحالي Frederick Trump. واصيب الكثير من المشاهير ونجوا منها ومن بينهم الملك ألفونسو الثالث عشر ملك اسبانيا، ورؤساء وزراء بريطانيا وفرنسا، ديفيد لويد جورج وكليمنصو، وغيرهم. ومن المصادفات ما ذكره Barro وزملاؤه في بحثهم من ان الرئيس وودرو ولسون أصابته الأنفلونزا بقسوة فأقعدته عن المشاركة في مفاوضات مؤتمر فرساي، ومن نتيجتها فرِضَت شروط قاسية على المانيا، ” وبذا ربما كان وباء الأنفلونزا سببا غير مباشر للحرب العالمية الثانية” على رأيهم.
لقد تزايدت ضحايا الأنفلونزا في مدة قصيرة وتجاوزت إمكانات الجهاز الصحي في بعض المدن حتى تكدست الجثث في شوارعها. وأفادت دراسات للبيانات الأمريكية وجود ارتباط يُعتد به إحصائيا، بين الكثافة العالية للسكان في وحدة المساحة واحتمال الإصابة بالأنفلونزا عام 1918. لأن الوباء ينتقل عبر الاتصال بين البشر ولذا تزداد نسب الاصابات في النطاق المكاني المزدحم، وفي 16 من 18 ولاية أمريكية كانت نسب الإصابة في المدن أعلى من الريف وفي إحدى الولايات نسبة الإصابة في سكان المدن 166% من المتوسط للولاية بأكملها، وأدنى نسبة وفيات في الريف تعادل 48% تقريبا من نسبة الوفيات في مدينة المقاطعة. وبينت، نفس الدراسات، عدم ووجود ارتباط بين الوضع الاقتصادي والمناخي والجغرافي للمناطق ومعدلات الإصابة بالأنفلونزا، لكن نسب إصابة البيض أدنى من غيرهم في جميع الولايات المبحوثة.
وإن لم تبرز فروقات بين المناطق في معدلات الوفيات، تعزى الى اوضاعها الاقتصادية، لكن التفاوت بين الناس في الوصول الى الخدمات الصحية لا شك فيه نتيجة لاختلاف قدراتهم في تحمل تكاليف العلاج آنذاك.
ومع ان البيانات الاقتصادية التجميعية لا تكاد تفصح عن الكثير من آثار الوباء بطبيعتها لأن أضرار الحرب قد اختلطت مع الأنفلونزا، مع ذلك توصل التحليل الإحصائي الى إثبات علاقة عكسية بين الوفيات من الأنفلونزا وكل من النمو الاقتصادي ونمو الاستهلاك؛ وأيضا كانت العلاقة عكسية بين وفيات الوباء واسعار الفائدة الحقيقية على حوالات الخزانة؛ بينما أسهمت زيادة الوفيات في رفع التضخم.
ويستفاد من الأخبار الصحفية تماثل تلك الوقائع مع بعض الأحداث الاقتصادية لصدمة كورونا، إذ يشير البعض الى ان اعمالهم قد تعطلت بنسبة الثلث أو 40 بالمائة او حتى ثلثين… وفي نفس الوقت يزداد الطلب على أسِرّة الرقود والمستلزمات الطبية. أيضا، واجهت انشطة الاستخراج والتعدين صعوبات وبعضها تقلصت الى نصف ما كانت عليه بسبب انتشار الوباء في مواقعها. والمصانع كانت اصلا قد تضررت بسبب التجنيد الإجباري. وحتى السكك الحديد تشكو من نقص الكادر. إضافة على الأضرار الكلية للوباء، على المستوى الجزئي لاحظت دراسات استقصائية استمرار ضعف الأداء والانتاجية للأفراد الذين تعرضوا للوباء؛ وتلكؤ التحصيل الدراسي لأطفالهم فيما بعد.
وفي المناطق التي شهدت ارتفاع وفيات النشطين اقتصاديا نتيجة الحرب والوباء ارتفعت الأجور وثمة دلائل على دور لشحة العمل في زيادة راس المال للعامل اي محاولة توظيف تكنولوجيا مقتصدة بالعمل. ويعتمد الحجم التجميعي لهذه الآثار على نسب النقص في القوى العاملة أو مدى انتشار انخفاض القابليات البدنية نتيجة التعرض للوباء.
أظهرت معالجة Correia وزملاؤه لبيانات الولايات المتحدة الأمريكية ان وباء 1918 كانت سلبياته الاقتصادية من جانبي العرض والطلب، اتضحت في خفض ناتج الصناعة التحويلية ورصيد السلع المعمرة والأصول المصرفية. وان المناطق التي اعتمدت التدابير والإجراءات غير الدوائية، مثل التباعد الاجتماعي وتقييد الاتصال البشري للوقاية والحد من انتشار الوباء، لم تتكبد، فيما بعد، أضرارا في اقتصادها أكثر مما شهدته المناطق التي لم تتخذ تلك التدابير. ان الوباء يبثّ الاضطراب في الاقتصاد وتَبيّن ان المبادرة لمواجهته في الوقت المناسب لم تقتصر فوائدها على خفض الوفيات بل تقليل الضرر الاقتصادي أيضا.
الصدمة الاقتصادية لكورونا بالمجمل:
أصبح اقتصاد العالم مقيدا من جانبي العرض والطلب بفعل تدابير الوقاية من فايروس كورونا. فالتباعد الاجتماعي، وملازمة المساكن والمنع الجزئي او الشامل للتجوال، حجّمت أو عطّلت الكثير من الأنشطة لاسيما النقل والسياحة والفندقة بل وتجارة المفرد وحتى الصناعة، وأغلب مشاغل العاملين لحسابهم الخاص وارتفعت معدلات البطالة. ويؤدي التقلص الكبير في المبيعات الى خسائر لعدم تمكن الشركات من خفض نفقاتها بما يتناسب مع المستويات الواطئة للنشاط.
وتبعا لذلك يشتد الطلب على القروض في حين تواجه الشركات التي تدهورت مراكزها المالية صعوبات في التمويل او بتكاليف أعلى. يضاف الى هذه الصورة الانخفاض الحاد في اسعار النفط وعجز الموازنات العامة وموازين المدفوعات للدول النفطية. كما ان شركات الطاقة تراجعت اسعار اسهمهما وأسعار الأسهم، بصفة عامة، واسعار الفائدة. وانخفضت إيرادات حكومات الدول غير النفطية، ايضا، في حين تلتزم بتقديم الدعم للعاطلين عن العمل والشركات الخاسرة ولذا سوف ترتفع أرصدة الدين الحكومي في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.
ويتوقع صندوق النقد الدولي في تقرير نيسان 2020 ان ناتج العالم سينخفض هذا العام بنسبة 3% والانخفاض في الدول المتطورة 6.1%، والولايات المتحدة الأمريكية 5.9% ومنطقة اليورو 7.5%، واسبانيا وإيطاليا الأكثر تضررا. وينخفض ناتج الدول الناهضة والنامية بمجموعها بنسبة 1%، والصين لا يتقلص حجم نشاطها الإنتاجي بل يتراجع نموه الى 1.2% وهي التي كانت معروفة بمعدلات النمو المرتفع، والهند ينمو ناتجها بنسبة 1.9%، اما روسيا والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا فتتقلص نواتجها المحلية بين 5.5% و6.6%. وينخفض ناتج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى مجتمعة بنسبة 3.3%.
عند مقارنة هذه المؤشرات مع الأزمة المالية الدولية 2007-2009 يبدو وباء كورونا أشد، وتوصف هذه الصدمة بأنها الأعنف بعد الكساد الكبير 1928-1932. ومن ملاحظة مجريات مقاومة الوباء وفي حالة عدم تناقص الاصابات حتى نهاية مايو، ايار، واستمرار تقييد حركة النشطين اقتصاديا يستنتج بأن الأضرار الاقتصادية ستكون اشد مما بينته مؤشرات تقرير الصندوق.
ولا يستبعد احتمال موجة ثانية للوباء او عدم انحساره حتى في عام 2021. وطالما ان العامل الرئيس للاضطراب هو الوباء الذي يصعب التكهن بمساره أو احتمال اكتشاف لقاح، قابل للاستخدام خلال مدة قصيرة أو علاجات فعالة يزداد عدم التأكد. وايضا، يبقى التفاؤل الذي بدأت به المقالة أحد المسارات المحتملة. وكلما اتسع نطاق الاضطراب وتكاثرت خسائر الشركات، وفشل الديون وصعوبات الاقتراض، في الدول المتقدمة تطول مدة الأزمة وتعاني الدول النامية والنفطية من نتائجها.
من جهة أخرى يفترض الصندوق تحسنا طفيفا في سعر النفط عام 2021 بنسبة 6% عن مستوى عام 2020 ليكون سعر البرميل حوالي 38 دولار عام 2021، ولا يرتفع في السنوات القريبة القادمة سوى بمقدار يعادل معدل التضخم. ان التغير المحتمل لسعر النفط يتطلب تحليلا آخر، وقد وصف الصندوق تقديره للسعر بأنه افتراض ولم يتوصل اليه من خلال محاكاة العلاقة بين سعر النفط ومحدداته.
إن ارتباط تشغيل القوى العاملة بالناتج من طبيعة الأشياء، ولذا لا بد ان تزداد نسب البطالة والتكاليف المالية لإعانة العاطلين عن العمل. وتبقى مشكلة تعطل العاملين لحسابهم الخاص، وعمال القطاع غير المنظم، تتحدى السياسة الاقتصادية وخاصة أيام الأزمات الصعبة مثل أزمة كورونا. والدول التي تعاني أصلا من بطالة فوق المعدلات الوسطية بكثير مثل اسبانيا واليونان تشتد خطورة تقلص نشاطها الاقتصادي. وترتفع البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020 الى أكثر من ثلاثة أمثالها عام 2019.
وتحاول الولايات المتحدة وبعض الدول التي تستطيع تحمل مديونية اعلى تقديم إعانات سخية للشركات للاحتفاظ بالقوى العاملة. إن مشكلة البطالة في الدول النامية أعقد بكثير منها في المتقدمة لسعة نطاق المنشآت الصغيرة والفردية، ولأن الإمكانية الاقتصادية والمالية العامة كلاهما لا يتحملان ضمان شامل للمشتغلين لتعويض البطالة أو التقاعد، علما ان البطالة وصلت في بعض الدول متوسطة الدخل الى ربع أو ثلث القوى العاملة.
وسوف تستمر أسعار الفائدة على العملات الاحتياطية الدولية منخفضة: سعر الفائدة على الدولار في سوق لندن لما بين المصارف LIBOR، إيداع لستة أشهر، 0.7% و0.6% سنويا أي دون الواحد بالمئة لسنتي 2020 و2021 على التوالي. وسعر الفائدة على اليورو، في نفس السوق، لثلاثة أشهر سالب (0.4%) للسنتين؛ والين في نفس السوق لستة أشهر سالب (0.1%) للسنتين. لكن الدول النامية لا تنتفع من انخفاض أسعار الفائدة هذا لأن هامش المخاطرة مرتفع على ديونها.
والتجارة الخارجية للسلع والخدمات، والتي شهد نموها انخفاضا قبل ازمة كورونا، في عام 2019 ازدادت بأقل من الواحد بالمئة، سينخفض حجمها هذا العام بنسبة 11%؛ وتنخفض استيرادات الدول المتقدمة بنسبة 11.5% وصادراتها بنسبة 12.8% أي ان اقتصاد الدول المتقدمة سيعمل بعجز في ميزان المدفوعات تجاه الدول الناهضة والنامية، ما يعني تحويل موارد من الأخيرة الى مجموعة الدول المتقدمة تعادل 1.3% من ناتج اقتصاد العالم. ومعدل التضخم في الدول المتقدمة كان 1.4% عام 2019 وهو واطئ ويشير الى فتور في النشاط الاقتصادي، وسينخفض أيضا الى نصف الواحد في المئة عام 2020. وافترضت تلك التقديرات ان حجم النشاط الإنتاجي في الفصل الرابع من هذا العام 2020 أعلى من الفصول الثلاث ما يمهد لتحسن عام 2021. وحسب هذا السيناريو يعود حجم الإنتاج في الدول المتقدمة في الربع الأخير من عام 2021 الى مستوى الربع الأول من عام 2019 مع ان التقرير لم يغفل الاشارة الى عدم التأكد حول إمكانية استئناف الوضع الاعتيادي نهاية عام 2021.
وتلك الحسابات تستند الى تصور اتجاه الأزمة نحو الانفراج او تصبح وطأتها أخف في الربع الأخير من هذه السنة.
رابط المصدر: