الشيخ الحسين أحمد كريمو
فكرة ربيعية
العالم اليوم يعاني أكثر من مريض السرطان من هذا الفيروس الخبيث (الكورون)، ولا أدري هل كان ظهوره بهذا الوقت بالذات، وبهذه المنطقة (الصين)، ثم غزوها العالم بأسره، مسألة مدبَّرة من شياطين الإنس في مراكز الشَّر العالمي، أو لا؟
فالمهم، أننا محاصرون جميعاً كل في بيته، مع أهله وعياله، نتأمل زوال الكورونا، حتى نخرج إلى حياتنا الطبيعية في هذه الأيام الربيعية التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر منذ عام، فالربيع بهجة الدنيا، بما فيه من خضرة، وتفتح الزهر المختلف في الألوان والروائح والعطور، فهو فرصة الأحياء للتجدد والتفتح والاستعداد للنماء والخير والعطاء طيلة السنة.
ولكن ربيعنا خطفته الكورونا، وحبستنا في غرفنا، وليس لنا إلا تسقط الأخبار من هنا وهناك، وتدوخ حتى تميِّز الصادق من الكاذب، فالكذب ركام والخبر الصادق كالإبرة تحتها، فنحن في عصر الحضارة الرقمية الدجالة بكل جدارة وقذارة، وذلك لأن القائمين عليها هم أهل الدجل والكذب والزور العالمي منذ آلاف السنين، ألا وهم اليهود والمتهودين من النصارى الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، كالمتصهينين الجُدد، الذين برَّؤوا اليهود من دم السيد المسيح (ع) ونحن نقول لهم منذ أربعة عشر قرناً: أن السيد المسيح لم يُصلب بل رفعه الله إليه، والذي صُلب هو الواشي به لليهود الذي وقع شبهه عليه، كما قال ربنا سبحانه: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 158)
فالله يقول الصِّدق، ويُبين لهم الحقَّ في مسالة السيد المسيح (ع) فلا يقبلوا، ولا يؤمنوا، ولكن عندما لعبت السياسة بهم، وصاروا ينطقون بلسان أعدائهم من اليهود المجرمين أجبروهم على خدمتهم فكتبوا صكاً من البابا يبرئهم من دم السيد المسيح (ع) وكأنهم أولياء دمه الطاهر، فلا اليهود قتلوا، ولا النصارى أصحاب الدم فكيف يضحكون على ذقون بعضهم البعض إنه لعجب.
الحضارة الرقمية وكورونا
الحقيقة التي عشناها خلال العقدين الماضيين من بداية هذا القرن إلى اليوم تُشكل فعلاً نقلة رائعة للحضارة المادية على مستوى العالم أجمع، لا سيما هذه الثورة الرقمية التي فاقت كل تصوُّر يمكن للبشر أن يخطر بوهمهم وليس بخيالهم، ووسائل التواصل والنقل والاختلاط العالمي في المناحي كلها لا سيما الاقتصاد، والتجارة، والسياسة، والحقوق، وكل قضايا المجتمع البشري على مستوى العالم كله وليس على مستوى بلد أن منطقة، أو حتى قارة كبيرة ومترامية الأطراف كآسيا أو أفريقيا.
ولكن هذا التطور التكنلوجي، والتقدم الرقمي الهائل قابله ضياع لجوهر البشر، وأهم ما يُميِّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، ألا وهو منظومة القيم التي يقوم عليها المجتمع الإنساني برمته لا سيما تلك التي تجعله إنساناً وإذا تخلى عنها عاد حيواناً من أسوء وأشرس الحيوانات الضارية، وذلك لأنه يتخلى عن إنسانيته في الحقيقة والواقع.
تلك المنظومة القيمية التي نُطلق عليها (الأخلاق) وهي مجموعة من القوانين التي سار عليها المجتمع البشري منذ آلاف السنين فسقراط الفيلسوف هو أول مَنْ كتب عن الأخلاق وقوانينها، فهي التي تُبلور المجتمع الإنساني، وتُجوهر الفرد فيه أيضاً، وبقيت هذه المنظومة حاكمةٌ إلى أن ظهرت هذه الثورة الرقمية والنهضة التكنلوجية فحوَّلت الإنسان إلى شيء تافه لا قيمة له إلا بخدمته للثورة وعطائه المادي لها، ويجب أن تنتهي حياته عندما تنتهي صلاحيته كما أعلن قادة الدول المتحضرة في بداية جائحة كورونا، حيث طرح ذاك الفهيم البريطاني ما يُعرف بـ”مناعة القطيع”، لأجل التَّصدي للوباء، وليته سمَّاها باسم حضاري كمناعة المجتمع، أو المناعة الجماعية، بل أطلق عليهم هذا الوصف المشين (القطيع)، رغم أن هذه الاستراتيجية أثبتت فشلاً كبيراً في الأوساط الطبية والسياسية، كالتجربة السويدية، حتى أُصيب بها هو نفسه.
وتقومُ فكرة مناعة القطيع على مبدأ السَّماح للناس بارتياد الأماكن العامة والاختلاط والتفاعل فيما بينهم، من دون إغلاق المحلات التجارية، أو المتنزهات، والشواطئ، أي أن السلطات تسمحُ بانتشار العدوى على نطاق واسع دون أن تتخذ أي إجراءات للحدِّ من انتشاره، وذلك بهدف أن يُصاب أكثر الناس ويتعافوا حتى يكتسبوا مناعة ذاتية، على نحو تلقائي، لا سيما أن الفيروس ليس فتاكاً بشكل كبير، لأن نسبة كبيرة من المصابين لا يشعرون بأي أعراض.
ولكن معنى هذا الكلام هو التضحية بشرائح كبيرة من المجتمع وهم كبار السن، فوق 65 سنة، والمرضى الذين يُعانون من أمراض تنفسية أو أي مرض آخر فتكون مقاومتهم وجهازهم المناعي متداعي فإذا أصيبوا بهذا الفيروس فإنه سيقضي عليهم حتماً، فقالوا: ليكن هذا لأن هذا يوفر علينا مليارات الدولارات، واليورو الذي نصرفه على هؤلاء المتقاعدين، كرواتب، وضمان صحي، وأدوية، ومصاريف كثيرة وتأمين والتخفيف عن المجتمع من أعبائهم الكثيرة والمتزايدة.
هنا ظهرت حقيقة الليبرالية الرأسمالية، والليبرالية الجديدة، الأمريكية بالخصوص، وتوابعها الإنكليزية والفرنسية، وغيرها من قطعان أوربا، الذين أرادوا أن يُضحِّوا بحوالي 60% من السُّكان لأن القارة الأوربية هي قارة عجوز كما يُسمونها.
فاعلنوها جهاراً نهاراً بأنهم يُريدون أن يُضحوُّا بكل هؤلاء البشر ليوفِّروا على الميزانيات وخزائن الدول لينهبوها هم ويدخرونها ولكن لا أدري لمَنْ، فذكَّروني بسَاسِة الدول العربية والمتنفِّذين فيها ينهبون دولهم بكل ما يستطيعون ويضعوها في البنوك الغربية خاصة الأمريكية، فصار لديهم أرقام هائلة تفوق ميزانيات دول وشعوب، فكنت أسال: لماذا هذا يسرق بلده وأهله ويُعطيها لعدوِّه وما الذي سيأكله منها، فسيخسرها بشطبة قلم من ترامب، أو بسكتة نَفَسٍ من حضرته، ويذهب إلى حفرته كما ولدته أمه، ملفوفاً بخرقة بيضاء، ولن يستفيد من كل تلك الأرقام التي سرقها إلا اللعنة في الدنيا، والحساب العسير في الآخرة.
فالإنسان في هذه الدنيا له حاجة محددة –صحيح وواقعي– ولكن رزقه مضمون من الرزاق الكريم، وحاجته بسيطة لا تتجاوز ملءَ البطن، وسدَّ الحاجة، وقضاءَ الشَّهوة، فلماذا يحرم الآخرين من حقوقهم التي جعلها الله لهم، كما جعل له؟ ولذا قال أمير المؤمنين، وحكيم الإنسانية الإمام علي (ع): (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ) (نهج البلاغة: ح328)
فالأموال التي كدَّسوها في البنوك بأسمائهم، والفقر الذي نشروه في العالم أجمع، يُنذر بعواقب وخيمة جداً على مستوى العالم، فالعولمة، والحضارة الرقمية، عولمت كل شيء، الإيجابي والسلبي على حدٍّ سواء، فصارت الشعوب ترى وتسمع عن الثراء الفاحش لبعض الأشخاص، وهم يعيشون على نصف دولار في اليوم، أو حتى على وجبة واحدة من الطعام، فلا بدَّ من أن ينتفضوا يوماً من الأيام، كما رأينا هذه الانتفاضة العالمية (الكورونية) كما ينظر إليها بعض العقلاء في عالمنا الذي ندر فيه أهل العقل والمنطق والضمير بسبب جشع الأغنياء وطمعهم.
فالأزمة التي تعصف في العالم أجمع هي أزمة الأخلاق التي حاول أن يدفنها صُنَّاع الحضارة الرقمية بأي طريقة، حتى دفعوا بعض كتابهم –ويسمونهم فلاسفة أيضاً– ليُبرروا أعمالهم ويُقنعوا العالم بأن الخلاق بضاعة الضعفاء، الذي يذهب إليه (نيتشة)؛ أن أخلاق الرَّحمة، والإحسان، والصبر، هي حيلة ابتكرها الضعفاء لكي يضحكوا بها على الأقوياء، ولكي يأخذوا من منهم مكاسب ومنافع، وحيث يرى أن الأخلاق هي من صنع الفقراء، وقليلو الحيلة.
وأما كارل ماركس فيقول عكسها: بأن الأخلاق هي صناعة الأقوياء والمترفين لاستعباد الضعفاء والمعدومين، فهو يرى أن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصادياً في المجتمع.
ولكن أين نيتشة وأمثاله من أصحاب النظرية الأولى، وأين ماركس واشتراكيته التي صارت في نفايات ومزابل التاريخ المقرفة، وأين المجتمع الإنساني الذي مازال يُناضل كل هؤلاء المنافقين الدَّجالين الذين يُريدون السَّيطرة على الناس وسرقة ونهب المقدرات التي جعلها الله للناس جميعاً بقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)
فأولئك الفاسقون أوصلوا العالم إلى هذا المستوى من التدنِّي والانخفاض في مستوى القيمة، والفضيلة، والخلاق، لأنهم أرادوا أن يسلبوا الإنسان من أعظم، وأشرف ما فيه من القِيم ألا وهي الإنسانية، ليسهُل عليهم استعباده واستثماره كما يحلو لهم، فحوَّلته الحضارة الرقمية إلى قيمة رقمية تُقدَّر قيمته بما لديه أصفار في البنوك، وهي قيَم وهمية اعتبارية لا حقيقية، لأنه لا يملك السيطرة عليها إلا بإذنهم وإرادتهم وهو يدَّعي الملكية وحق التصرف وكل شيء ولا يستطيع التصرف بشيء منها إلا برضاهم وموافقتهم، ومطابقة قوانينهم التي رسموها لتقييد الحريات لصالحهم.
وجميل ما يُشير إليه الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) في كتابه (الصياغة الجديدة لعالم الرفاه) حيث يقول: (الإنسان ذو الثروة يُريد صبَّ كل ثروات الدنيا في كيسه، والإنسان ذو الجاه يُريد تكديس كل أقسام الجاه حول نفسه، ولذا وردت أحاديث كثيرة في هذا الشيء، مثل قولهم (عليهم الصلاة والسلام): (ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاؤها بأضر في دين المسلم من حب الرئاسة) (بحار الأنوار: ج66، ص154)
فاللازم أن يقف الاجتماع بقوانينه الصحيحة دون تمكُّن فرد أو جماعة من الناس من استقطاب الأموال والثروات، ومن استقطاب الجاه والمنصب والرفعة الاعتبارية.. هذا بالإضافة إلى أن في إطلاق الثروة – التي تتقدم وتتقدم على حساب الآخرين – ضرراً أخلاقياً كبيراً فإنه لا وجه لأن يعيش إنسان في غاية الرَّفاه، بينما ألوف الناس يعيشون عيشة فقرٍ وذلٍّ وليست لهم حتى الأوليات، ومن الواضح أن المجتمع الذي يدوس على الأخلاق مجتمع يؤذن بالفناء، وقد قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت—–فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
حيث إن الروابط بين الناس إنما هي روابط أخلاقية – من التعاون والحب والمشاركة الوجدانية وما أشبه – وكل شيء يضرُّ بهذه الأمور الأخلاقية ويبعث على العداء والبغضاء وتباعد الطبقات بعضها عن بعض وغضب هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء ينتهي أخيراً إلى تحطم وتفسخ الاجتماع، مما يتضرر بذلك الكل، من غير فرق بين الأغنياء وبين الفقراء). (ص: 64)
فالمتأمل الواعي في كل ما يجري في أثناء هذه الجائحة العالمية (الكورونية) وما رافقها من تصرفات وقرصنات دولية وسرقة ونهب دولي لأشياء بسيطة جداً كانوا يستنكفون عن صناعتها لأنه لا فائدة ولا ربحيَّة كبيرة فيها فتركوها للصين لصناعتها لأنها تصنع أي شيء كما يعتقدون وقانونها؛ الرِّبح القليل من الشيء الكثير يحوِّله إلى ربحاً كبيراً، وهذا جعلهم يأخذون الكمامات الصينية قهراً وسرقة ونهباً بأعلى وأغلى السعار لحاجتهم إليها.
هذا من جهة ومن جهة أخرى تراهم يتعاملون بحقارة عجيبة غريبة بلا إنسانية للمصابين لديهم فيأخذون المَنفسة والكمامة من كبير السِّن ليضعوها للشباب، أو أن بعض المستشفيات عندهم رفضت استقبال العجائز أصلاً، ومنهم مَنْ وضعهم على المداخل والصالات عندهم ينتظرون الموت بأقسى صورة وأفجع منظر، وكأنهم ليسوا بشراً أو لا يستحقون الحياة.
وأما القيم الإسلامية الراقية جداً التي تجعل الإنسان قيمة كبرى لهذه الحياة، وغاية بحدِّ ذاته لها ولا قيمة تعلو على قيمته في هذه الدنيا، ولذا قال رسول الله (ص) في خطبة استقبال هذا الشهر الكريم: (فإن الشَّقي مَنْ حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم، ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم).
هذه هي أخلاقنا وقيمنا وتعاليم ديننا ورسولنا الأكرم(ص) فكلها تنبض، وتُشع بالأخلاق الفاضلة، لا غرو في ذلك وهو (ص) الذي قال: (إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)، فالدِّين الإسلامي هو منظومة من القيم والفضائل الأخلاقية ولذا حاربها شياطين الجن والإنس منذ اليوم الأول له.
رابط المصدر: