سجعان قزي
في الدولةِ المكتمِلةِ وطنيًّا تَقتصر المعارضةُ على ملاحظةٍ حول مشروعٍ إنمائيّ. وفي الدولةِ المختلِفةِ تجاهَ الخُططِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ تُقدِّمُ المعارضةُ برامجَ بديلة. وفي الدولةِ المنقسِمةِ حول الخِياراتِ الوطنيّةِ تَطرحُ المعارضةُ رؤيةً وطنيّةً أخرى. المعارضون في لبنان ـــ إذا وُجِدوا ـــ يَتصرّفون كأنَّ لبنانَ ينتمي إلى الفئةِ الأولى فيما هو من الفئةِ الأخيرة. يعارضون تعييناتٍ ومشاريعَ قوانين، ويَتغافَلون عن القضايا الوطنيّةِ التي على أساسِها يتقرّر مصيرُ الوطن. مَردُّ هذا التغافلِ إلى أنَّ المعارِضين أيضًا مختلِفون على مصيرِ لبنان والخِيارات الدستوريّةِ (وِحدةُ الولاء، مدى اللامركزيّة، الِحيادُ، العلمَنةُ، الحوكمةُ الشفّافة، السلاحُ غيرُ الشرعيِّ، السياستان الدفاعيّةُ والخارجيّة، التوطينُ الفِلسطينيُّ، والنازحون السوريّون، إلخ…).
إذ يُسخِّفُ هذا السلوكُ المعارضةَ ويُظهِرُها الوجهَ الآخَر للموالاة، يُعزّزُ اقتناعَ الشعبِ بأنَّ هذه المنظومةَ السياسيّةَ لا تَفرِزُ موالاةً ومعارضة، بل مصالحَ ومصالحَ مضادَّة. لا بل يُولِّد انطباعًا بأنَّ هذه المنظومةَ حين تُعيد انتشارَها بين موالاةٍ ومعارَضةٍ، فإنَّ بعضَها يُفيد البعضَ الآخر، حتّى لو لم تَتواطأ على توزيعِ الأدوار. فلا الموالاةُ تحترمُ منطوقَ الدستور، ولا المعارضةُ تَستلهِم الوِجدانَ الوطنيّ. يَنسحِب المعارِضون من الموالاةِ حين تُـمَسُّ مصالحُهم لا مصالحُ الناسِ والمصلحةُ الوطنية. وإلّا أين كانوا طَوالَ الوقتِ الفائت؟
قبل معارضةِ السلطة ـــ وهي ضروريّةٌ ـــ يُفترضُ بالقياداتِ السياسيّةِ التي نَشطَت في السنواتِ الماضيةِ، أن تبدأَ بنقضِ سلوكِها الحالي، وبإعطاءِ الدليلِ الدامغ على أنّها غَسَلَت نفسَها من أدرانِ الماضي وأعادت المنهوبَ وصارت “مُستحِقًا ومُستأهِلًا”. إنَّ الشعبَ ناقمٌ على الجميع حتّى على من هَتف لهم: “بالروحِ بالدَم نَفديكم يا…”.
إنَّ الإشكاليّةَ التي تواجه الشعبَ اللبنانيَّ هي تَعذُّرُ الوقوعِ على نَواةِ منظومةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تَـحُلّ مكانَ القِوى القائمة. فعلاوةً على فِقدانِ الثقةِ بالسلطةِ القائمة، يَفتقِدُ الشعبُ السلطةَ البديلةَ أيضًا أكان من داخلِ المنظومةِ السياسيّةِ أم من خارجِها. ويُضْطر أحيانًا ــ وهي الحالُ الآن ـــ إلى الظنِّ خيرًا بمعارضةٍ لم يأْتِهِ منها إلا شرٌ حين كانت موالاة. لم تَفرِز الانتخاباتُ ولا الأحزابُ ولا السلطةُ ولا الجامعاتُ ولا النِقاباتُ ولا حتّى الثورةُ قوّةً بديلةً أو فريقًا يوحي بالثقة. ومجموعةُ “التكنوقراط” التي اقتَطَفتْها الحكومةُ الحاليّةُ لم تكن نموذجًا مُشجِّعًا يُقتدى به، إذ رَسَب التكنوقراط في المواضيعِ التكنوقراطية، أي حيث كان يُفترض أن يَنجحوا.
هذه الإشكاليّةُ هي أحدُ أسبابِ استمرارِ سفراءِ الدولِ الكبرى والمؤثّرةِ في التعاطي مع أقطابٍ يَتوسَّمون فيهم القدرةَ على قيادةِ المعارضةِ. لكن، كيف يُوفِّقُ هؤلاءِ السفراءُ بين هذا التعاطي وبين تشجيعِهم الشعبَ على الانتفاضةِ ضِدَّ الطبقةِ السياسيّة؟
يُعْوِزُ الشعبَ معارضةٌ متينةُ البناءِ تُحيي الإيمانَ بالمصير، لكنّه يرى أمامَه بقايا معارضين يمارسون القنصَ المزاجيَّ على نقاطِ ضعفِ العهدِ والحكومةِ، وهي كثيرة. سَئِم الشعبُ الرَجْمَ صباحًا والعِناقَ مساءً. سَئمَ الاستقواءَ على الضعفاءِ والضعفَ أمام الأقوياء. سَئم المعارضين الذين يتواطأُون مع نِصفِ الحكمِ الأكثرِ خطورة، ويعارضون النِصفَ الآخَر الأقلَّ خطورة. يَنتقدون الشرعيَّ ويَسكتون عن غيرِ الشرعيِّ. معارضةُ الحكومةِ تفصيلٌ في المشَهدِ الانقلابيِّ العام. لا تكفي المعارضةُ الخاطِفةُ، المزاجيّةُ، الموقّتةُ، الاستنسابيّةُ، والانتقائيّةُ في دولةٍ انشَقّت عن شعبِها ونظامِها وميثاقِها.
يَستدعي الوضعُ اللبنانيُّ معارضةً شاملةً لكلِّ نمطِ الحكمِ السائدِ منذ سنواتٍ، والذي بَلغَ أَوْجَهُ في السنواتِ الأخيرةِ نتيجةَ سيطرةِ حزبِ الله على القرارِ الوطنيّ. فالحزبُ يسيطر مباشرةً أو بالوكالةِ على الجُمهوريّةِ والمجلسِ النيابيِّ ومجلسِ الوزراء؛ وننأى عن ذكرِ مؤسّساتٍ أُخرى حِرصًا على دِقّةِ وضعِها. لذلك، عند تغييبِ الحُكمِ النظامَ تصبح المعارضةُ هي النظام. قَدَرُ المعارضةِ اللبنانيّةِ أن تكونَ الفعلَ لا ردّةَ الفعل، ومشروعَ حكمٍ بديلٍ لا مشروعَ معارَضةٍ مَوضِعيًّا. بل أن تَلعبَ دورَ الحكمِ الجديد. لكنْ أين نحن من هذه الأمنية؟
هذا في الضرورات، لكن في بلدٍ مُوحَّدٍ دستوريًّا ومنقسمٍ واقعيًّا، ومتعدِّدِ الحضاراتِ والطوائف، ومتناسِلِ الولاءاتِ الخارجيّة، يَتعذّرُ التغييرُ السياسيُّ الجذريُّ سلميًّا أو عسكريًّا من دون المسِّ بالكِيانِ أو في أقلِّ تقديرٍ بمركزيّةِ السلطة. التجاربُ السابقةُ، القديمةُ والحديثةُ، تؤكّد هذه الـمَضْبَطة. وإذا كان اعتمادُ الحلولِ بالتقسيطِ وبالتسوياتِ أثْمرَ في العقودِ الماضيةِ (1958/2020) إرجاءَ السقوطِ الوطنيِّ الحاسِم، ولو على حسابِ الأمنِ والسيادةِ والاستقلال، فالانهيارُ الذي بَلغْناه على مختلفِ المستوياتِ لم يَعُد يُداوى بتسوياتٍ جديدةٍ قديمةٍ، ولا بتغييرِ المنظومةِ السياسيّةِ فقط، وهو أمرٌ أَشُكُّ بحصولِه نظرًا لخصائصِ الشخصيّةِ الشعبيّةِ اللبنانيّة.
ولادةُ المنظوماتِ السياسيّة، حتَى تلك التي تُفرِزها الثوراتُ الكبرى، تَتكوّن عبرَ السنواتِ من خلالِ تغييراتٍ متعاقِبة. المؤسفُ في لبنان أنَّ تَطوّرَ المنظوماتِ السياسيّةِ كان انحداريًّا. ما خلا بعضَ الاستثناءاتِ، كان المستوى يَتدنّى مع كل تطعيمٍ نيابيٍّ أو وزاريٍّ أو حزبيّ، ويَخسَر لبنانُ احتياطَه من الرقيِّ والمدنيّةِ والحضارة. لقد بَلغَ اليأسُ من المنظومةِ العامّةِ، حدَّ أن يَتمنّى الناسُ انقلابًا عسكريًّا متنوِّرًا مع أنّنا في بلدٍ يَرتكز نظامُه الأساسيُّ على الديمقراطيّةِ والحكمِ المدنيّ.
المتيسِّرُ حاليًّا هو قيامُ معارضةٍ انتقاليّةٍ تَضُمُّ شخصيّاتٍ مختلَطةً، قديمةً وجديدةً، إلى حين التغييرِ الأوسَع اللامركزيّ. كنا بغنى عن هذه الفذْلكةِ لو أنَّ رئيسَ الجُمهوريّة، باسمِ الشرعيّةِ التي يُمثّل، يَخرجُ من تموضُعِه السياسيّ، ويقودُ هو الانقلابَ المضادَّ لإنقاذِ الشرعيّةِ والبلد، خصوصًا أنَّ رياحَ التغييرِ الدوليِّ بَلغت أجواءَنا الإقليميّة. حان الوقتُ، وقد أُفقِدَ سنواتِ عهدِه الثلاثَ الأولى، أن يقولَ لنفسِه وللجميع: كفى. لمثلِ هذه اللحظاتِ وُجِدَ الضمير. فإمّا أن يدخلَ الجميعُ كنفَ الدولةِ، وإمّا أن يتَصرّفَ الرئيسُ من وحي القسَمِ الدُستوريّ. سَبق لبعضِ الرؤساءِ أن استدركوا عهودَهم وأنقذوا البلد. يا حبّذا.
نحن اليومَ أمامَ شرعيّةٍ مصادَرةِ، وانقلابٍ متواصلٍ، وشعبٍ يَبحثُ عن معارضةٍ، ومعارضةٍ تَبحثُ عن ذاتِها. من منهم يَسبِقُ الآخَر؟ أم أنَّ آخَرَ غيرَهم يَسبِقُهم جميعًا؟
رابط المصدر: