جميل عودة ابراهيم
لجأت العديد من الدول -على خلفية ظهور وباء كارونا- إلى الإعلان عن حظر التجوال، الجزئي أو الكلي، من أجل تفادي انتشار هذا الوباء بين عدد كبير من مواطنيها. بعد أن أكدت الأبحاث الطبية، والتجارب العملية لمكافحة هذا الفايروس أن هذا الوباء سريع العدوى، ولا يمكن الحد منه إلا بمنع التجمعات البشرية، ولا يكون ذلك إلا من خلال فرض حظر التجوال.
وحظر التجوال هو عبارة عن إجراءات تفرضها الدولة على مواطنيها قسرا، تتضمن إلزام المواطنين بالبقاء في منازلهم، ومنعهم من الخروج، سواء للعمل، أو التسوق، أو الترفيه، أو لأي غرض آخر، يستوجب الخروج من المنزل. وقد يفرض حظر التجوال على منطقة معينة، أو مدينة معينة، أو يُفرض في وقت معين دون وقت آخر، مثل فرض حظر التجوال في الليل وإلغاءه في النهار، وهو ما يٌعرف بـ (حظر التجوال الجزئي) وقد يٌفرض حظر التجوال على كل مواطني الدولة، وكل مدنها ومناطقها، وقد يشمل الأوقات كلها، الليل والنهار معا، على حد سواء، وهذا ما يُعرف بـ (حظر التجوال الكلي).
في الغالب؛ تكون دواعي فرض حظر التجوال دواع أمنية وسياسية، مثل حدوث أعمال شغب، أو اندلاع ثورة، وغيرها، وقد تكون دواعي فرض حظر التجوال دواع طبيعية، بسبب وقوع كارثة طبيعية، مثل انفجار بركان، أو اندلاع حرائق، أو حدوث عواصف، وفيضانات وغيرها. وقد تكون دواعي فرض حظر التجوال دواع صحية مثل انتشار وباء أو مرض خطير، يمكن أن يؤدي بحياة العشرات، بل الألاف من الناس، في حال عدم فرض حظر للتجوال، مثل انتشار وباء كورونا.
والسؤال هنا هو ما مدى تأثير فرض حظر التجوال على حقوق الإنسان؟ وماذا لو حصل تناقض كبير بين إجراءات فرض حظر التجوال من جهة، وبين ما ينبغي أن يتمتع به الإنسان من حقوق شخصية من جهة ثانية؟ ثم ما هي الآثار التي يتركها فرض حظر التجوال على اقتصاد الناس ومعاشهم؟ وماهي الإجراءات المرادفة التي ينبغي أن تأخذها الدولة للحد من الأثار الاقتصادية المترتبة على إجراءات فرض حظر التجوال؟
لا شك أن فرض حظر التجوال يتجه تلقائيا إلى الحد من حريات الإنسان، بل أن المقصود منه هو الحد من تلك الحريات، لاسيما حرية التنقل؛ وحرية اختيار محل الإقامة وغيرها من الحريات الشخصية المصانة بموجب القوانين الوطنية والدولية. فقد أقرت المادة (13) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق الفرد في حريتي التنقل واختيار محل الإقامة داخل أراضي الدولة، ومن هذا المنظور، فأن حظر التجوال من حيث المبدأ هو ممارسة تتعارض مع الحريات الفردية التي تكفلها الصكوك الوطنية والدولية على حد سواء، لذلك لا يجوز تعطيل أو تقييد اي حق دستوري أقره الدستور إلا بقانون.
ولكن إذا ما كان الهدف من حظر التجوال هو حماية المصالح العامة للبلد من الأخطار الكبيرة، والمحافظة على حياة المواطنين من التواجد في أماكن الخطر، مثل وجود إعصار شديد، قد يتسبب بقتل المواطنين إذا ما سمح لهم بالتجوال، أو وجود وباء سريع العدوى إذا ما سٌمح للمواطنين بالانتقال والتجول سيكون سببا بالفتك بحياة العشرات منهم، فإن العقل والمنطق، بل إن حقوق الإنسان، لاسيما حق الحياة هو ما ينبغي اختياره، فليس من المعقول عندما يٌخير الإنسان بين أن يختار حق التجوال وحق الحياة فيختار حق التجوال المؤقت على حق الحياة!.
وعليه؛ فالسلطات الحكومية هي التي تقدر أن فرض الحظر يمكن أن يكون سببا لحل الأزمة التي تواجهها، أو أن فرض الحظر سينتج عنه آثار أقل من عدم فرض الحظر. فعلى سبيل المثال لو لم تلجأ غالبية الدول إلى إجراءات فرض حظر التجوال، وسياسة التباعد الاجتماعي، ومنها تعطيل العمل، وغلق المعامل والمصانع، والمحال التجارية، وتعطيل كامل الدورة الاقتصادية، بسبب انتشار وباء كورونا لكانت النتائج وخيمة على سكان الأرض كلهم، وإن كان أرقام الإصابة به وضحايا هذا الوباء مازالت مخيفة جدا، رغم كل الإجراءات، ومنها حظر التجوال.
مع ذلك لا ينبغي الركون إلى حق الدولة بفرض حظر التجوال، ودعوة الناس إلى المكوث في بيوتهم، لدرء الخطر الأكبر على كيان الدولة وحياة المواطنين مطلقا، بل ينبغي أن تعمل الدولة على دعم إجراءات حظر التجوال بمجموعة من الإجراءات التي تضمن أولا تطبيق فرض التجوال، وثانيا تضمن تحقيق الحد الأدنى من متطلبات العيش المنزلي.
نعم؛ يمكن للمواطنين أن يتحملوا إجراءات فرض حظر التجوال إذا ما كان حظرا جزئيا، من حيث المكان، كأن يٌفرض في منطقة معينة، أو من حيث الوقت، كأن يفرض في الليل دون النهار، ولكن لا يمكن للمواطنين أن يتحملوا فرض حظر كلي يشمل مناطق واسعة من البلاد، ليلا ونهارا، لأن مثل هذا الحظر ينتهك حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وهو الحق الاقتصادي، وحق العيش بكرامة.
لقد كانت الآثار الاقتصادية والمعيشية التي تركتها إجراءات فرض الحظر في العديد من الدول تمثل تحديا خطيرا للدول ومواطنيها. فقد كشفت أزمة وباء كورنا أن العديد من الأفراد والمجتمعات المحلية لا سيما الفئات الأشد فقرا إنما تعتمد في الأوقات العادية على كسب قوتها بشكل يومي، ولا تقوم بادخار أي موارد تستعين بها في مثل هذه المحنة، كما كشفت أن السلطات في العديد من هذه الدول حتى الدول المتقدمة وقفت عاجزة عن تقديم المعونات الإنسانية من غذاء ودواء للشرائح الاجتماعية التي لا تستطيع الحصول عليها.
لقد أشارت تقارير المنظمات الإنسانية أن العديد من المواطنين في الدول التي فرضت حظرا شاملا للتجوال، قد تضررا اقتصاديا إلى حد كبير، فمنهم من انقطعت عليه المعونات الاجتماعية التي كان يتلقاه من الدولة، أو من المجتمعات المحلية، لاسيما الفئات الأكثر فقرا، وكبار السن، وأطفال المدارس. ومنهم من فقد وظيفته التي كان يعتمد عليها في معيشته، فأصبح عاطلا عن العمل، ولا يستطيع أن يبحث عن فرص عمل أخرى، بسبب إجراءات الحظر. ومنهم من يمتلك رصدا من المال يستطيع أن يشتري حاجاته الأساسية من الغذاء والماء والدواء، ولكن لا يستطع الخروج، ولا يوجد من يوصل له تلك الحاجات. فضلا عن أن الكثير من المواطنين لديهم التزامات مالية مثل القروض، وأداء حقوق الآخرين أصبحوا بين ليلة وضحاها عاجزين عن دفعها لمستحقيها وهو ما ضاعف الضغوط عليهم.
في الواقع، لم تكن الدول كلها، حتى تلك الدول الرصينة اقتصاديا مؤهلة لمواجهة وباء مثل وباء كارونا، لا على مستوى الصحة العامة، ولا على مستوى الاقتصاد، لذا فإنها قاب قوسين أو أدنى من انهيار مؤسساتها الصحية، ومؤسساتها الاقتصادية، بالنظر على كثرة ضحايا هذا الوباء، وكثرة الأموال التي أنفقت للحد منه. وما أخذت من إجراءات للحد من الآثار الاقتصادية التي خلفها حظر التجوال لم تسهم في التخفيف من وطأة هذا الحظر إلا على نحو جزئي.
اللافت للنظر أن التضامن الدولي للحد من وباء كارونا أو للتقليل من آثار الحظر الصحية والاقتصادية لم يكن مشجعا للغاية، ولم تظهر آثاره في الاستجابة السريعة لنداءات بعض الدول التي أخذ منها هذا الوباء مأخذا عظيما. فالدول الكبيرة لم تحرك ساكنا في دعم الدول الصغيرة المتضررة، والدول التي كونت اتحادات اقتصادية مثل الاتحاد الأوربي وقفت تتفرج على بعضها بعضا، وكأن ما يحدث في إيطاليا أو اسبانيا على سبيل المثال لا يعنيها أبدا!
في مقابل هذا فان التكافل الاجتماعي لبعض المجتمعات المبني على أساس التراحم والأخوة الإنسانية في العديد من بلادنا الإسلامية قد وجد ضالته في هذه المحنة، وأخذ أثره في سد حاجات الناس من الغذاء والدواء وغيرها، ولقد لعبت المؤسسات الدينية والمجتمعية دورا مهما في دعم الأسر المتضررة من وباء كورنا، في الوقت الذي ظلت فيه حكوماتها عاجزة عن توفير الحد الأدنى من حاجات مواطنيها.
نخلص مما تقدم:
1. لا ينبغي للسلطات أن تفرض حظرا للتجوال، لا جزئي ولا كلي إلا إذا كان هناك ضرورة قصوى، وخطر عظيم يهدد أمن البلد وحياة المواطنين، لأن الحظر يحد من حقوق الإنسان ويقيدها.
2. لا ينبغي للسلطات إذا ما وجدت أن حل الأزمة التي تواجهها إنما يكون بفرض حظر التجوال أن تكتفي بفرض الحظر، إنما عليها أن تطلق حزمة من الإجراءات الداعمة للمحافظة على حياة المواطنين ومعيشتهم.
3. من الضروري أن تعيد العديد من الدول النظر في منظومتها الصحية والمالية، بما يعزز صمودها أمام الكواثر الطبيعة وغير الطبيعة التي يمكن أن تواجهها في المستقبل، وأن تجعل وباء كورنا سببا رئيسا لذلك الإصلاح المؤسسي.
4. من الضروري أن تعمل المجتمعات المحلية على تعزيز مبدأ التكافل الاجتماعي المبني على أساس التراحم والتواد بين الناس، لأنه جزء أساسي من منظومة الصمود أمام الأخطار الطبيعية وغير الطبيعية.