عمر هشام الشهابي
في هذا المقال سنتطرق إلى تداعيات كورونا على اقتصاد دول مجلس التعاون. ومن المعلوم أن غالبية دول الخليج عطلت المدارس والجامعات، وطلبت ممن يستطيع أن يعمل من المنزل، وصولًا إلى مرحلة فرض حظر التجول. وإذا نظرنا إلى الاقتصاد المحلي ككل، فقد كان ما حصل بمثابة هزة تقلص الطلب الإجمالي (aggregate demand) والعرض الإجمالي (aggregate supply) معًا. فمن ناحية الطلب، انكمش الاستهلاك في الكثير من القطاعات التي تعتمد على اختلاط الناس وحركتهم، بما فيها المجمعات والمطاعم والمدارس والجامعات والفعاليات الرياضية إلخ، وقد تأذت بشكل خاص قطاعات الطيران والفنادق والسياحة. وفي المقابل، فإن العرض العام تدهور أيضًا عن طريق إيقاف الكثير من الناس من مزاولة العمل، مما أدى إلى تضاؤل القوة العاملة. وهكذا، يكون الاقتصاد قد تعرض لضربة في العرض الإجمالي والطلب الإجمالي معًا، مما يعني انكماشًا حادًّا في الإنتاج الاقتصادي عمومًا، وكان هذا هو الحال في أغلبية دول العالم.
وعلى سبيل المقارنة، تختلف هذه الحالة عن أزمة 2007-2010 كون هذه الأخيرة بدأت كأزمة مالية، أما الآن فالأزمة بدأت مباشرة في الاقتصاد المنتج على الرغم من أنه قد ينتج عنها مضاعفات مالية في المستقبل إذا لم تستطع الشركات المتضررة الإيفاء بديونها. وما زالت البنوك والمؤسسات المالية من أكثر القطاعات تماسكًا، وتتمتع بقاعدة وسيولة معقولة نسبيًا حتى الآن في دول الخليج، بل إنهم في كثير من الأحيان يفاقمون المشاكل على بقية الشركات والقطاعات عبر تلكئهم في توفير التسهيلات المالية المطلوبة أو تقليل نسبة الفائدة، خصوصًا في ظل الضائقة المالية التي تطال هذه الشركات، حتى وصل الحال إلى أن الحكومات اضطرت إلى أن تفرض عليها تأجيل دفع القروض المستحقة لها.
في المقابل، قد يقارن البعض ما يحصل حاليًا بحالة اقتصاد الحرب (war economy)، خصوصًا تلك التي برزت في أوربا وأميركا خلال الحربين العالميتين، إلا أن هذا ليس دقيقًا أيضًا، ففي اقتصاد الحرب عادة ما تُعبَّأ وتُستنفَر كل الطاقات الاقتصادية وتُوجَّه نحو هدف البقاء في الحرب، بما فيها إنتاج الأسلحة وتواصل سلسلة الإمداد. وقد تنطبق هذه التعبئة حاليًا على بعض القطاعات الحيوية، كالصحة والنفط والغذاء والماء والكهرباء، التي دخلت مرحلة الاستنفار العام نظرًا لأهميتها في استمرار حياة البلد، إلا أن الحال هي العكس في بقية الاقتصاد الذي أُدخِل فعليًا في مرحلة ركود إجباري (stasis)؛ في حالة قد تكون أقرب إلى غيبوبة مستحثة (induced comma). والقطاع المحلي الأكثر تأثرًا هو القطاع الخاص المكون من الشركات العائلية وأصحاب رؤوس الأموال والموظفين فيها، أما القطاع الحكومي والشركات العامة التي تملكها الدولة، فعمومًا كان التأثير أقل وطأة على من يعمل فيها نظرًا للدعم الحكومي. ولم تختلف باقي دول العالم عن الخليج في هذا الجانب، إلا أن ما قد يميز الخليج عن الدول الصناعية في هذا الجانب هو أن أكبر المتأثرين من العمالة المهاجرة في القطاع الخاص وأولئك الذين يعتمدون على الأجر اليومي لتوفير قوتهم.
واجب علينا التوقف هنا قليلًا، لأن هؤلاء هم الأكثر عرضة لخسارة أعمالهم ورزقهم، بالإضافة إلى انكشافهم على خطر كورونا بنسبة عالية، إذ إنهم مَن يرابطون في الخطوط الأمامية عبر مواصلتهم العمل في الأماكن العامة التي نحتاجها لضمان استمرارية الحياة، إلا أنهم نادرًا ما يأخذون نصيبهم من التركيز. وقد قيل الكثير عن تضحيات الطاقم الطبي وأعماله وبطولاته، وهم بلا شك يستحقون ذلك كله، ولنا هنا أن نضيف عمال قطاع النفط الذين يديرون الشريان الرئيس للبلد، بالإضافة إلى الموظفين في القطاعات الحكومية من كهرباء ومياه وأجهزة الدفاع المدني إلخ الذين يلعبون دورًا محوريًا في مواصلة الحياة، ولكن علينا أيضًا أن نتذكر مَن يغيب عنهم الضوء من عمال النظافة والبقالات والجمعيات والمطاعم من طباخين وسائقي التوصيل (delivery) وغيرهم، إذ إنهم يؤدون دورًا أساسيًّا في ضمان استمرار أسس الحياة في ظروف عمل صعبة وأجور متدنية، بينما قد يجلس أغلبيتنا في البيت. فليس لدى الكثير من هؤلاء حسابات في منصات مثل سنابشات وإنستاگرام وتويتر التي قد تتيح لهم أن يشاركوا المواطنين صورهم وهم يؤدون مهامهم، وحتى إن كانوا من مستعملي هذه البرامج، فحلقاتهم الاجتماعية الافتراضية نادرًا ما تتقاطع مع المواطنين، إذ إنهم “أجانب” يعيشون حياتهم الاجتماعية الأخرى. أما البقاء والعزل في المنازل، فهو بمثابة أضحوكة سيئة للكثير منهم، فكيف تنعزل في “منزل” يتألف من غرفة صغيرة تتشارك فيها مع عدد كبير غيرك، بل وحتى قد تتقاسم سريرك مع شخص أو اثنين آخرين بالتناوب لتوفير المال، كل حسب فترة دوامه؟ وفوق ذلك تُجبَر على أن تواصل العمل في المجال العام خلال هذه الفترة الموبوءة، وإلا ستكون معرضًا لخسارة وظيفتك. ولذلك فإن أي التفاتة تضامن معهم خلال هذه المرحلة، مادية أو معنوية، سيكون لها الأثر الكبير.
إلا أن في دول الخليج اعتبارًا آخر يفاقم الوضع الاقتصادي الحرج، وعلى الرغم من أننا قد لا نحس بوطأته مباشرة، فإنه قد يكون أكثر خطورة على المدى المتوسط والبعيد، ألا وهو ما يحدث في سوق النفط. فأزمة كورونا قللت الطلب على النفط بشكل كبير عالميًا، خصوصًا مع الهبوط الحاد في تنقل البشر عبر السيارات والطائرات، وكما هو معروف فإن قطاع النقليات هو أكبر مستهلك للنفط في العالم. ولكن مما يفاقم هذا الأمر تزامنُ ذلك مع دخول أكبر منتجي النفط في العالم في تنافس محموم بعد انفراط التوافق بين ما سُمّي “opec +”، واحتدام الصراع بين منتجي النفط في السعودية وروسيا وأميركا، مع محاولة كل طرف الاستحواذ على أكبر جزء من السوق، مما أدى إلى زيادة ضخمة في العرض. ونتاج هذا الارتفاع الكبير في الإنتاج الذي يقابله هبوط حاد في الطلب في آن واحد – تهاوي أسعار النفط إلى ما يقارب 20 دولارًا، مع احتمالية انخفاضه لما دون ذلك.
إذا عدنا لرسمنا البياني لدورة الدخل، فإن ما يعنيه ذلك أن إيرادات النفط من الدولارات التي تأتي إلى دول الخليج (1)، وهي كما بيّنا في المقالين السابقين أهم خطوة وتمثل الرافعة و”الدينمو” لبقية الاقتصاد، قد انخفضت بشكل حاد خلال شهر مارس بنسبة قد تصل إلى أكثر من النصف في بعض الدول. وفي المقابل، فإن التغير في الدولارات التي تخرج من الدولة (خطوة 4) صغير نسبيًا، على الرغم من أنها قد تنخفض مع إنهاء عمل الكثير من العمالة الوافدة ونزول الطلب على الواردات نظرًا للتباطؤ الاقتصادي في الاقتصاد غير النفطي (خطوة 3). والخلاصة أن الفرق بين كمية الدولارات التي تدخل الدولة في مقابل تلك التي تخرج منها ستصب في ميزان الثانية، وهذا أخطر مؤشر على عدم قدرة الاقتصاد على الاستدامة ماليًا إذا استمر هذا الحال لفترة متواصلة وممتدة من الزمن.
أما إذا نظرنا إلى إنفاق الدولة (الخطوة 2)، فهذا الصرف عمومًا لم يتراجع، بل قد يزيد في كثير من الأحيان. فرواتب الدولة وخدماتها لم تتوقف، بل إن الكثير من مؤسساتها قد دخلت مرحلة الطوارئ والعمل المكثف في حالة مشابهة لاقتصاد الحرب، خصوصًا في الخدمات الصحية والنفط والطاقة كما بيّنا. بل إن العديد من دول الخليج عملت على تقديم “حزم تحفيزية” للاقتصاد عبر زيادة إنفاقها لتغطية رواتب المواطنين في القطاع الخاص، وزيادة دعم الكهرباء والماء، وتأجيل الفوائد على القروض إلخ، في محاولة منها للتصدي لمضاعفات الأزمة والانكماش الذي ألم بخطوة 3، هذا على الرغم من أن إيراداتها الممولة أساسًا من ريع النفط في هبوط مستمر. وستغطي دول الخليج هذا العجز عن طريق ما لديها من احتياطيات، خصوصًا في الدول ذات الاحتياطيات الأكبر نسبيًا كالكويت وقطر والإمارات (والسعودية إلى نسبة أقل)، أما في حالة البحرين وعمان (والسعودية)، فليس لها خيار سوى الاقتراض والدين أو بيع الأصول لتغطية العجوزات التي يبدو أنها ستكون ضخمة.
إذن، إن كان لنا أن ننظر إلى الثالوث الذي تنظر إليه الكثير من الدول عند تقييم حالة اقتصادها، والمتمثل في حالة ميزان المدفوعات (balance of payments) وميزانية الحكومة والبطالة، فإن أول اثنين سيترديان بشكل خطر جدًا. ولأنه كان من المتوقع أن تسجل كل دولة من دول الخليج عجزًا في ميزانيتها حتى قبل أن تنفجر أزمتا كورونا وتدهور أسعار النفط، فإن هذا العجز في ميزانيات الدول سيتفاقم الآن بشكل كبير، وسينعكس ذلك تباعًا على ارتفاع الدين العام لدى الكثير من دول الخليج. أما من ناحية ميزان المدفوعات، فمن الممكن أن تدخل عدة دول (خصوصًا البحرين وعمان) في خطر استنزاف ما لديها من الدولارات وبقية العملات الصعبة، وإدخالها في مرحلة حرجة قد تعجز بعدها عن تثبيت سعر عملتها إذا امتد ذلك لفترة من الزمن. أما من ناحية الوظائف، فيبدو أن القطاع الخاص سيتلقى الضربة الكبرى في المدى القصير، خصوصًا الوافدين الذين قد يتوقف الكثير منهم عن العمل.
قد يقول البعض إن هذه حالة طارئة مؤقتة، وإنها ستختفي قريبًا وتعود دول الخليج إلى سابق عهدها، إلا أن هاتين الأزمتين (كورونا وسوق النفط) قد أوضحتا بشكل جلي أن هناك خللًا مزمنًا في العهد السابق ولم يعد مستدامًا. فحتى قبل الأزمتين، ما انفكت مصروفات الدولة تزداد مع تضخم السكان والاستهلاك المحلي والمشاريع البراقة التي تتبناها الدول من مدن ضخمة ومسابقات رياضية عالمية إلخ، حتى أصبح الإنفاق العام أعلى من الإيرادات في دولة مثل الكويت التي من المفترض أن لديها نسبة عالية من ريع النفط لكل مواطن. وما انفك ما يخرج من البلد من الدولارات يزداد مع تصاعد الواردات وتحويلات العمالة الوافدة ورؤوس الأموال المغادرة، بينما ما زال ما نحصله من دولارات مرتبطًا بتقلبات وأهواء سوق سلعة واحدة ناضبة، ألا وهي النفط. إذن، دورة هذا النمط من الاقتصاد كانت قد دخلت مرحلة حرجة حتى قبل أزمتي كورونا وسوق النفط اللتين وضحتا بشكل جلي أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد -إلى ما لا نهاية- على إيرادات النفط فقط لتغطية إنفاقات الدولة وما يخرج منها من دولارات. وعلى الرغم من أن كل دول الخليج آثرت امتصاص الصدمة على الاقتصاد المحلي عبر توسعة عجوزات الميزانية والسحب من احتياطها والاقتراض، فليس بإمكانها ترحيل هذه المشكلة إلى الأبد، ويبدو أن مرحلة الحساب ربما أقرب مما كنا نتصور. وقد تكون البحرين أوضح مثال على ذلك، حيث تخطى الدين العام 100% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يواصل الاقتصاد تسجيل العجز تلو العجز في الحساب الجاري والميزانية حتى قبل كورونا، وصنفت كل شركات التصنيف الائتماني ديْنها بـ”الخردة” (junk)، ووصل الحال إلى أنها اضطرت إلى طلب المساعدات العاجلة المتكررة من باقي دول مجلس التعاون لدعم ميزانيتها وتثبيت عملتها. وما زالت الأسواق المالية العالمية تتوقع أن بقية دول الخليج ستواصل إنقاذ البحرين من محنتها، فأزمات اليونان ولبنان تقدم درسًا لما قد يحصل إن تُرِك الموضوع ليستفحل من دون مساعدة الجيران. لكن السؤال هو ماذا سيحصل عندما تصل باقي دول الخليج إلى نفس المرحلة لا قدر الله؟ من سينقذهم كلهم حينها؟
إذن هاتان الصدمتان المتزامنتان (كورونا وهبوط أسواق النفط)، على الرغم من أنهما قد لا تستمران سوى لفترة معينة، فإنهما تنذران بأنها مرحلة فاصلة لدول مجلس التعاون، وأن ما سبقها لن يكون مثل ما بعدها، وهي بمثابة جرس إنذار أخير للنمط الاقتصادي الذي بيّناه في المقالين السابقين، والذي أصبح واضحًا عدم قدرته على الاستدامة على نفس الوتيرة التي سار عليها على مدى العقود الماضية. بل قد تكون هذه التغيرات والصدمات الإجبارية فرصة فُرِضت علينا قسرًا لفتح النقاش حول هذا النمط ومراجعته، وإمكانية تغييره بشكل جذري في أقرب فرصة نحو نمط أكثر استدامة. وفتح فضاء النقاش حول ماهية هذا التغيير وإمكانية التحول إلى نمط أكثر استدامة هو ما سنتطرق إليه في المقالات القادمة.
رابط المصدر:
https://gulfpolicies.org/2019-05-18-07-27-50/2019-05-18-09-55-37/2375-3.html