(6) سياسات استقرار الأسعار وحماية الاستهلاك
تتضمن سياسات استقرار الأسعار سياسة سعر الصرف والسياسة النقدية ومراقبة الأسعار من السلطات التجارية. وكما نعلم، فإن النظام الإنتاجي ونظام الأسعار في تونس يتضمنان أشكالًا من الصلابة بحيث عندما تقل المبيعات لسبب أو لآخر (تكثر) لا تنخفض الأجور (لا ترتفع) للموجودين داخل منظومة الإنتاج (Insiders). ومن جهة أخرى لا تنخفض الأسعار، بل لها قابلية الارتفاع كأول ردة فعل لنقص العرض أو المبيعات، (في حين أنها لا تنخفض بنفس نسبة الارتفاع في حالة الزيادة في المبيعات بسبب التصلبات المذكورة أعلاه)، مما يؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية للموظفين إلى حد عدم التكافؤ بين إنتاجية العامل الحقيقية وأجره الحقيقي. وقد يتسعُ البوْنُ بين الأجر الحقيقي والإنتاجية الحقيقية إلى حد ما، بحيثُ تضيق سوق العمل للوافدين الجُدد، ويُدفع بالعاملين إلى ترك وظائفهم والذهاب بحثًا عن وظائف أخرى أو الهجرة إلى الخارج، وفي ذلك خسارة يتكبدها الاقتصاد. وأما عن الرواتب التي تقرب من متوسط الإنتاجية يمكن الاستئناس بالرواتب العالمية التي هي في كل الحالات أعلى من الرواتب المحلية في كل الاختصاصات.
وفي هذا الإطار التونسي، نعتقد أن السياسات التي تستهدف استقرار الأسعار ضرورية بما في ذلك من: (1) سياسة نقدية و(2) سياسة سعر الصرف. فلِلْأُولى أن تتعاضد مع سياسات الحكومة في السيطرة على ارتفاع الأسعار التي تتضمن مراقبة مسالك التوزيع والاحتكار وتحفيز الوفرة وتعديل الأسواق. والثانية تتعلق باختيار نظام الصرف المناسب من قِبل الحكومة واعتماد سياسات الصرف التي تنزِّله في الواقع وتسعى من خلالها إلى استقراره. ذلك أن تدهور قيمة الدينار يجعل قيمةَ المُدْخلات من معدات وآلات الإنتاج المستوردة والتي تناهز قيمتها الــ85% من حاجيات المنتجين المحليين، أعلى تكلفةً فيجد المنتجُ التونسي نفسه أمام خياريْن. إما إن يُقلص حجمَ استيراده وبالتالي مستوى إنتاجه، مما يؤدي إلى تسريح العمال و/أو إيقاف التوظيف من جهة، أو أن يحافظ على نفس حجم الاستيراد ويتحمل ارتفاع التكلفة ولكن يعمد إلى الترفيع في أسعار مبيعاته لتغطية التكلفة الإضافية الناجمة عن تدهور قيمة الدينار. وفي هذه الحالة، تأخذ الضغوط التضخمية في الارتفاع مما يؤثر سلبًا على القدرة الشرائية ويعمق البون بين إنتاجية الموظف وراتبه(1).
وفي الواقع، تحتاج سياسات الحكومة وسياسات البنك المركزي إلى “مأْسَسة التنسيق” بينهما، وقد اقترحنا إنشاء مجلس لهذه الغاية إلا أن في تونس باتت قضية استقلالية البنك المركزي -التي تعني النأي بها عن الحكومة في تمويل العجز العام، الأمر الذي يتسبب في التضخم المالي- متصدرةً اهتمامات صُنَّاع الرأي السياسيين في حين أنها مسألةٌ فنيةٌ بحتة ومن اختصاص الاقتصاديين الذين لم يتدخلوا في تونس لتوجيه صانعي القرار(2). وفي هذا السياق، تم اتخاذ استقلالية البنك المركزي كعزلها عن مؤسَسات الدولة دون تنسيق فعال مع السياسة المالية للحكومة. وقد كان من تداعيات آراء السياسيين أن يوافق البرلمان في عام 2016 على قانون جديد للبنك المركزي تتطرق حوالي نسبة 30% من فصوله المئة إلى استقلاليته. ومن بين التعبيرات لهذه “الاستقلالية المُفرطة” التي تتجاوز قانونًا استقلالية البوندس بنك الألماني واستقلالية بنك المملكة المتحدة وكذلك استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. فكل هذه البنوك المركزية مستقلة في الأهداف أو في السياسات، في حين أن قانون البنك المركزي التونسي يمنحه الاستقلالية في الأهداف وفي السياسات معًا، ويمنعه من منح الحكومة قروضًا. وإذا كانت للبنك المركزي الأوروبي وكبريات البنوك المركزية في العالم المذكورة أعلاه إمكانيةُ استعمال “التسهيل النقدي” (Quantitative Easing Monetary Policy) خلال الأزمة الحالية، فإن تونس لا يُمكنها الاستفادة من هذه السياسة أثناء الأزمات والهزات ما دامت ممنوعةً قانونًا. وفي المقابل، نرى البنك المركزي يتدخل بتمويل النفقات الحكومية التونسية من خلال سندات عمومية تشتريها البنوك المحلية بنسب فائدة عالية وتتحملها الموازنات العامة وتستفيد منها البنوك التجارية المحلية؛ وهذا من شأنه أن يفرز أثر الإخلاء (Eviction Effect) على الاستثمار الخاص بحكم توجيه أموال البنوك إلى حاجيات الحكومة لنفقاتها عوض أن تتوجه هذه الأموال مباشرة نحو تمويل المشاريع الإنتاجية والمولِّدة للتوظيف في القطاع الخاص.
فالاستقلالية “المفرطة” للبنك المركزي التونسي ونقص التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية قد تجلت في العديد من المناسبات ومنها مثلًا عندما تتبنى الحكومة سياسة مالية توسعية لدعم الاستثمار والنمو والتوظيف، يرفع البنك المركزي التونسي في نسبة الفائدة الرئيسية مُعلنًا هدفَ السيطرة على التضخم. وقد يكون هذا مفهومًا تحت عنوان “الإجابة الدورية العكسية” (countercyclicality) للسياسة النقدية. لكن عندما رفع البنك المركزي التونسي في نسبة الفائدة الرئيسية بــ 100 نقطة أساس في يونيو/حزيران 2018، أعلن رئيس الحكومة في الأسبوع ذاته أنه “بما أن البنك المركزي مستقل، فستقوم الحكومةُ بتغطية أسعار الفائدة ودعم الشركات التي ستتحمل هذه التكلفة الإضافية”(3). ومن المرجح أن يحد عدم مأسسة التنسيق بين البنك المركزي والحكومة في مجال السياسات من فعالية السياسة النقدية من جهة وكذلك السياسة المالية في نفس الوقت. ذلك أن نسبة التضخم لم تنخفض بالقدر الكافي جرَّاء الرفع من سعر الفائدة الرئيسية، مثلما هو وارد في الجدول (3). وفي الواقع، من المهم أن نذكر أنه عندما يفوق النمو المحتمل النمو الفعلي، يقل الضغط التضخمي والعكس بالعكس. وبالتالي، انخفض معدل التضخم السنوي من 7.3٪ (فبراير/شباط 2019) إلى 5.8٪ (فبراير/شباط 2020) أيضًا بسبب انخفاض النمو المحتمل من 1.5٪ في 2018 إلى 1.3٪ في 2019، كما هو موضح في نماذج الدورة الحقيقية(4). في هذه الحالة، سيكون من الصعب الاستنتاج حول فعالية السياسة النقدية في السيطرة على التضخم.
جدول (3): تطور مؤشر أسعار الاستهلاك في فبراير/شباط (%*)
2017 |
2018 |
2019 |
2020 |
4.7 |
6.8 |
7.3 |
5.8 |
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء(*): بالانزلاق السنوي.
وإذا دققنا في أمر التضخم المالي لوجدناه غير نقدي فحسب حتى يكون سعر الفائدة الوسيلة النقدية المحبذة في سياسة البنك المركزي التونسي. فالتضخم ناتجٌ كذلك من الاحتكار والتهريب (وفق الخطاب الرسمي) وضعف الوفرة من بعض القطاعات مقارنةً بالطلب، وأيضًا من المرونة النسبية لبعض القطاعات مقارنةً بقطاعات أخرى (Sectors Elasticity). وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الأهداف الحقيقية، قد تكون غير مُعلنة كُليًّا وراء الترفيع في سعر الفائدة الأساسية. ففي إطار انزلاق عجز الميزان الجاري الذي تراوح بين (-11.11)% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2018 (وهي أعلى نسبة عجز خلال العقود الأربعة الماضية) و(-9.13)% مُقدرة لعام 2019(5)، جعلَ الطلبَ على العُملة الاجنبية يتضاعف؛ الأمر الذي دفع بالدينار التونسي إلى الهبوط. وفي نفس الوقت، أثَّر تدهور الدينار في توسع العجز باعتبار عدم التأثر التام للاستيرادات بانخفاض قيمة الدينار(6). وفي ظل عدم الإعلان عن خطة ثلاثية بين وزارة المالية (في تحديد النسب اللازمة للاستيراد)، ووزارة التجارة (في تحديد السياسات التجارية المُحفزة للتصدير والمنوعة لمحفظة التجارة الخارجية التونسية) والبنك المركزي (في اختبار نظام الصرف الملائم)، اجتهد البنك المركزي في وضع خطة تكمن معالمُها في “تقليص التدخل قدر الإمكان في سوق الصرف والسوق النقدية” بالمراهنة على سياسة مُشددة (الترفيع في سعر الفائدة وعدم التدخل بصفة آنية بضخ العُملة الأجنبية إلا في الحالات القصوى لتفادي عدم الاستقرار المُفرط للدينار). فيُصبح الهدفُ حينئذٍ جرَّاء سياسة الترفيع من سعر الفائدة هو الحد من التبادلات بين العُملة المحلية والعملة الأجنبية والتقليص من المضاربة النقدية (بالحد من عمليات المقايضة بالعملة الأجنبية (limitation of swaps)) عندما يكون سعر الفائدة الرئيسية عاليًا جدًّا، حتى ولو لم تنخفض الضغوط التضخمية. ولذلك نشهد ارتفاعًا نسبيًّا في المخزون من العملة الأجنبية (الذي زاد من 84 يومًا استيرادًا في أواخر 2018 إلى 111 يومًا في أواخر 2019) بعد حوالي 12 شهًرا من الإجراءات النقدية المُشددة، مسنودًا بالودائع الأجنبية، بتحويلات العُمال المقيمين بالخارج وكذلك بالقروض الأجنبية (من السوق الأوروبية ومن صندوق النقد الدولي، ومن البنك الدولي ومن البنك الافريقي للتنمية، وغيرها). وفي ظل نسبة تضخم حوالي 5%، وهو أعلى من نسبة نمو الأجور في القطاع العام والخاص مما يؤشر على هبوط القدرة الشرائية، ومتوسط نسبة فائدة في السوق النقدية بــ 7.35%، وهو عالٍ، مما لا يحفز الشركات على الاقتراض والاستثمار وبالتالي التوظيف، واستقرار الدينار حول سعر صرف 0.33 أورو ودولار، وهو ضعيف نوعًا ما مما يجعل تكلفة استيراد المُدخلات الإنتاجية عالية ولا يشجع على التوظيف، …، كُلها عوامل اقتصادية كلية تحول دون طرح اشكالية البطالة، التي أصبحت هيكليةً، في إطارها الملائم.
(7) تداول الأدوار بين القطاع العام والخاص وسوق العمل
بالتزامن مع قرض صندوق النقد الدولي الذي حصلت عليه تونس في عام 2016، تم إرساء حزمة من الإصلاحات تتمحور حول الانضباط في المالية العامة (Fiscal Consolidation) وزيادة المرونة في أسعار الصرف وإصلاح النظام المصرفي. أما بالنسبة إلى الانضباط المالي، فقد أُوصِيَ بتقليل العجز العام من خلال تخفيض حصة “فاتورة الأجور” من الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث يبدو أن السلطات التونسية وصندوق النقد الدولي مقتنعان بأن الأجور ودعم المواد الأساسية والمحروقات تمثل أكبر حصة من الإنفاق الجاري. وعن طريق حسابٍ بسيط، فإنه يتبين أن تخفيض حصة “فاتورة الأجور” قد يتحقق بــانخفاض الأجور، وهو أمر غير ممكن بسبب ضغط النقابات، أو بزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وهو غير مؤكد بسبب غياب السياسات التنموية الهيكلية، أو بتخفيضِ عدد الموظفين في القطاع العام. وقد توجهت الحكومات السابقة نحو هذا الحل الأخير، وما زالت على هذا النحو. وهكذا، تم البدء في تشجيع التقاعد المبكر وايقاف التوظيف في الإدارة العامة. وبالتالي، أصبحت فاتورة الأجور محدودة نسبيًّا وتقلص العجز العام إلى 3.9% بنهاية عام 2019، لكن حصتها في الناتج المحلي الإجمالي لم تنخفض لأن نمو الناتج المحلي الإجمالي لم يزد كما كان منتظرًا. ولكن في الوقت نفسه، لم يحل القطاعُ الخاص محل الدولة في التوظيف الذي تم إيقاف غالبيته في الوظيفة العمومية، لأنه (القطاع الخاص) لم يكن مستعدًّا لهذه المهمة الاقتصادية والاجتماعية. فبقيت نسبة البطالة مرتفعة (حوالي 15%) نتيجة عدم التداول في الأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص وعدم إعداد السُبل المسبقة لذلك.
(8) مجابهة الخلل الوظيفي في سوق العمالة
يُعاني سوق العمل في تونس من “خلل وظيفي” بسبب عدم توافر معلومات لكل الأطراف عن الاحتياجات المحددة للشركات من حيث التأهيل حسب القطاعات والمناطق، ومن حيث كل القُوى العاملة المتاحة وطبيعتها. ويُفرز هذا الأمرُ عدم التزامن وعدم المواءمة بين العرض والطلب؛ ذلك أنه غالبًا ما يكونُ هناك عرضٌ متاحٌ من ناحية، وطلبٌ من ناحية أخرى، لكن الطرفيْن لا يلتقيان بسبب نقص المعلومات اللازمة وغياب إطار مؤسسي جامع لهذا الغرض. وفي بعض الأحيان، تكون الفجوة غير واسعة بين احتياجات الشركات من حيث المؤهلات من جهة، والمؤهلات المتوفرة من جهة أخرى وقد تحتاج إلى تدريب إضافي بسيط لتكييف العرض والطلب، ولكن في نقص البرامج التدريبية “المخصصة” (personalized) تتوسع هذه الفجوة وترتفع البطالة. وتؤدي هذه الاختلالات في سوق العمل إلى: (1) تكاليف إضافية للعثور على الوظيفة (job search costs) التي تعاني منها القوى العاملة في تونس والتي قد تحدد القرار بالدخول، أو البقاء أو الخروج من سوق العمل. (2) قلة استخدام قدرات الشركات عندما لا تجد العمالة المطلوبة بالرغم من توافرها، (Remuneration system distortions )، الذي ينعكس على اتساع الفجوة بين مؤهلات القوى العاملة وراتبها مثلما بينَّا أعلاه. (3) تشويه نظام الأجور بمعنى إحداث ندرة (أو وفرة) مُصطنعة للعمالة. (4) انتقاء سلبي (adverse selection) بين العمال وكذلك بين شركات التوظيف مما يؤدي إلى مخاطر فسخ العقد أو التسريح أو انقطاع العامل عن عمله كما وضحنا أعلاه. ذلك أن عدم توافر المعلومات الكافية حول سوق العمل، يُلجئ العامل إلى قبول التوظيف من أول شركة دون التثبت من أدائها ودون إمكانية الاطلاع على الفرص الأخرى، كما تقبل الشركة أول عامل تقدم إليها بدون التثبت من مؤهلاته الحقيقية المقارَنة إلى فرص أخرى. (5) جعل حد لأداء سياسات التوظيف كما هو مبين أعلاه. وقد تزداد الاختلالات في سوق العمل عندما لا يتم التوظيف في كنف الشفافية وفي ضوء قواعد فرض الممارسات وعلى قاعدة الجدارة والمهارة. وهذا الاختلال عادة ما يكون في المجمعات التي يرأس مجالس إداراتها مالكوها مثل المجمعات العائلية التي تميز أغلب كبريات الشركات في تونس. ففيها يتم التوظيف حسب العلاقات العائلية والواسطة.
وفي تونس، تعرقل غالبية الاختلالات الخمس المذكورة أعلاه ديناميكيات سوق العمل وهي في الواقع قيود حيال مواءمة أفضل بين احتياجات الشركات الحقيقية والوظائف التي تسعى إليها قوة العمل.
ومن المسلَّم به أن هناك بعض الآليات المؤسسية المطلوبة لاستيعاب هذه الاختلالات مثل تلك التي تنفذها خدمات “وزارة التشغيل والتدريب المهني” من خلال “الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل” و”مكاتب التشغيل” و”فضاءات المبادرة” وغيرها من المصالح. وتتولى هذه الأخيرة الإشراف على توجيه الخريجين الشباب نحو الوظائف الشاغرة حسب مؤهلاتهم، والتوجيه بالتدريب الإضافي حسب احتياجات سوق العمل، كما تُقدم قاعدة البيانات التي تعرض الباحثين عن الوظائف والباحثين عن قوة العمل حسب القطاعات والجهات. وفي الوقت نفسه، هناك أصحاب مصالح آخرون يتدخلون في سوق العمل مثل النقابات والمجتمع المدني، ولكن هناك أيضًا “الوكالة التونسية للتعاون الدولي”، وهي إدارة حكومية توجه الكفاءات الوطنية في سوق العمل الدولية. ومع ذلك، لا تعمل هذه الأطراف معًا في مقاربة منهجية شاملة (Inclusive Systemic Approch)؛ مما يقلل من فعالية كل منها.
فالمقاربة التي نعتبرها جزئية التي دأبت عليها وزارة الإشراف خلال نيابة الحكومة المنصرفة، تنضوي تحت جملة الاختلالات أعلاه ولذلك لم نشهد انخفاضًا بينًا في نسبة البطالة؛ ذلك أن التركيز كان على عقود تمويلية لفائدة خريجي الجامعات والمؤسسات التدريبية بقصد بعث مشاريع خاصة بضمان الدولة. وقد تصل هذه العقود أقصاها إلى حوالي 200 ألف دينار بدون التأكد من القدرات الإبداعية والإنتاجية والريادية لدى المستفيد، حتى وإن تعلق الأمر بــ “المؤسسات الذكية الناشئة” التي استجلبت اهتمام الحكومة بسنِّ قوانين تؤطِّر القطاع والتي هي مهمة لا محالة، لكنها لا تهم عموم المعطلين عن العمل. وأما تحويل هذه الميزانية للشباب في المناطق النائية، فلا نعتقد أنه ذو جدوى مرتفعة باعتبار طابعها الجزئي. فمردودُها الفوري من حيث خلق مواطن الشغل ضئيل جدًّا (0.005 موظف/ألف دينار) أو (0.0001 موظف/ألف دينار…إلخ). وأما مردودُها الآجل فهو غير مؤكد مقارنةً بشركات موجودة، لها اطلاع على القطاعات والأسواق والتي غالبيتها تمر بمصاعب تمويل واقتراض بنكي. أخيرًا، لا يمكن بعث شركات خاصة بهدف تعظيم “حجم العمل” وفق مقاربة جزئية، لأن عقلية القطاع الخاص هي “تعظيم الأرباح فقط”.
وبهدف سدِّ هذه الاختلالات في سوق العمل، فإننا نرى أهمية إضفاء الطابع المؤسسي الشامل على حركية سوق العمل في تونس، ويتمثل في إدارة العلاقات القائمة بين أصحاب المصالح بطريقة متماسكة وإنشاء مؤسسات أُخرى إن لزم الأمر. وستكون المهمة التي نقترحها، وهي تحد في حد ذاتها، كالآتي:
1. مرْكَزة جميع البيانات المحدثة على جميع القوى العاملة المتاحة وفقًا لمهاراتهم، وتطورهم عبر الزمن، وتنقلهم من قطاع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى.
2. مرْكَزة جميع أصحاب المصلحة المشاركين في سوق العمل التونسي في قاعدة بيانات واحدة، سواء العامة أو الخاصة، المحلية أو الأجنبية.
3. جعل كل هذه المعلومات متاحة لعامة الناس.
4. إنشاء “دائرة جودة” (Quality circle) تتكون من ممثلين عن جميع أصحاب المصلحة، يتم من خلالها تبادل المعلومات من أجل الحد من الاختلالات أعلاه، وهي مصدر للتشوهات في سوق العمل.
5. إشراك المتخصصين في اقتصاديات العمل والموارد البشرية، والخبراء الكمِّيين، والاستراتيجيين والمتخصصين في نظام التعليم والتدريب المهني من أجل:
– دراسة أسباب عدم استقرار الوظيفة.
– التنبؤ باحتياجات التأهيل المستقبلية وولادة قطاعات جديدة واختفاء قطاعات أخرى.
– تقديم توصيات خاصة بكل منطقة ولكل قطاع.
وقد يحتاج تحقيق هذه المأسسة النظامية الشاملة لسوق العمل التونسي إصلاحات جوهرية تحتاج إلى وقت وإرادة سياسية أمام حكومة الفخفاخ.
أخيرًا، بالرغم من أن مجابهة البطالة إنما هي أولوية قُصْوى لحماية النسيج الاجتماعي وعدم مجابهة التحدي الأول أعلاه (أي تحدي التوفيق بين البُعد الاجتماعي والكفاءة الاقتصادية)، وبالرغم من شرعية المطالبة بها وهي محض توافق كل القوى الحية في البلاد باختلاف مشاربهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية، فإن السياسات المتبعة لم تتضمن في البرامج الرسمية العناصرَ التشخيصية الخمسة أعلاه مجتمعةً ولا العناصر البرامجية الثمانية.
وفي هذا الإطار، فإن تحقيق التوازن الإقليمي (المكاني) من حيث البنية التحتية والخدمات العامة، وتحفيز الشركات الخاصة للجوء إلى الخريجين من الجامعة، وإصلاح نظام التعليم وجهاز توليد المهارات بحيث تتكيف مع متطلبات التنمية، إنما هي تحديات من المنتظر مواجهتها. وفي تونس، لا يمكن استيعاب تدفقات العاطلين عن العمل إلا عندما يرتقي الاقتصاد إلى معدلات نمو متوسط أعلى، والذي لا يمكن تصوره إلا من خلال تغيير هيكلي في الجهاز الإنتاجي وذلك -على الأقل- عبر الارتقاء بإنتاجية العمل بانخراط هؤلاء الشباب المتخرجين في عملية الإنتاج.
ومن المنتظر أن يتضاعف وقع هذه التحديات التي تحتاج إلى أموال طائلة وإلى انخراط القطاع الخاص في الاستثمارات في البنية التحتية. فيبدو أن القطاع الخاص التونسي غير مستعد للاستثمار في المناطق النائية باعتبار عدم المردودية المتوقعة، ولكن كذلك بسببٍ مُستحدثٍ منذ عام 2011 (كما تبرزُه البيانات المتعلقة بحجم الاستثمار الخاص الذي ما فتئ يتقلص كما سنبين أدناه xx )، ذلك أن أغلب كبار المستثمرين لم يعُودوا مهتمين بالاستثمارات الثقيلة التي “تُهدد ممتلكاتهم في صورة وقوع انتفاضة شعبية أخرى في ظل عدم قدرة الدولة على حماية الممتلكات الخاصة”(7). فمن المُجمعات من تخلَّت عن أنشطتها الإنتاجية واتجهت نحو تلك التجارية والحصول على “امتيازات” (Franchises) في قطاعات ليست بالضرورة حمَّالة ونقَّالة للمعرفة والتكنولوجية الأجنبية وليست بالضرورة استحالة تركيزها وتطويرها في تونس(8)، ومنها من واصلت استثماراتها لكن في أنشطة صغيرة الحجم وموزعة نسبيًّا عبر مناطق مُختلفة(9)، وفيها من توجهت بالاستثمار في الخارج وخاصة في الدول الإفريقية في قطاع التموين وقطاع الوساطة البنكية. وقد كانت الاستثمارات الخاصة الإضافية داخل البلاد قليلةً جدًّا بحيث لا تمكِّن من رفع تحدي النمو المناطقي المتوازن (Regoinal Banlanced Growth) الذي نعتبره أول الشروط لمجابهة تحدي التوظيف، وإيقاف الهجرة الداخلية وبالتالي التقليص من القطاع الموازي.
وفي هذا السياق، من المنتظر أن تجابه الحكومة الحالية هذا التحدي بفرض (1) إرساء سياسات صناعية مندمجة (Integrated Industrial Plocies) تحفز القطاع الخاص على الاستثمار في رأس المال البشري. (2) الانخراط في الاستثمارات كبيرة الحجم ضمن عقد اجتماعي جديد يبني الثقة معه. (3) إعادة النظر في نظام التعليم وجهاز توليد المهارات.
التحدي الثالث: التحكيم بين الأجل القصير والأجل الطويل
للانتقال إلى مستوى أعلى من النمو يمكن استيعاب تدفقات العمالة الوافدة إلى سوق العمل والمتزايدة باستمرار، نرى أنه من الضروري إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي في إطار إعادة النظر في التوزيع الإداري للمناطق بإحداث “مناطق اقتصادية واجتماعية” عوضًا عن “المحافظات، والبلديات” الموجودة حاليًّا والتي أُحدثت تاريخيًّا في ضوء بسط السلطة المركزية على كامل تراب البلاد إبَّان الاستقلال -وهذا مفهوم- لكن بدون استهداف الإمكانات المُحتملة التنموية بكل منطقة مما لا يسمح للاختصاصات المناطقية، وفق ما تتمتع به كل منطقة من مزايا نسبية وثروات طبيعية وبشرية ومؤهلات، بإرساء حوْكمة محلية تسهر على تحقيق التنمية بأكثر من هامش مناورة وأكثر دراية بالقضايا المحلية الدقيقة، وهذا ما تدعو إليه وجهات النظر الحديثة في الاقتصاد المؤسسي حيث المؤسسات الناجعة وذات الجدوى تحتاج في الديمقراطيات إلى هامش مناورة واستقلالية نسبية ومعدات. وهذا ما نهدف إليه من هذا المُقترح المتعلق بـــ”الحوْكمة المحلية” التي آتت أكلها في العديد من التجارب العالمية من بولونيا وإيطاليا وألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية. هذا، وبالرغم من طابعه العاجل للبدء فيه وإعداد خُططه، فإن إنجازه يُعتبر ذا الأجل الطويل الذي على حكومة الفخفاخ إيلاؤه الأهمية التي يستحقها والتخصيص له من ميزانيات مبرمجة عبر الزمن وآليات ومجموعات تفكير واتصال مع المتساكنين في المناطق المعنية. ونعتقد أن البلد لا يستطيع احتمال تمزق مناطقي ولا تفاوت اجتماعي ولا تنمية غير متوازنة؛ فالنهوض بالمناطق الداخلية أمرٌ لا يتطلب إزالةَ العراقيل للمشاريع الاستثمارية القديمة -والتي هي عديدة- فقط وذلك بالارتقاء بالقدرات المؤسسية المركزية والمحلية، بل أيضًا بتدفقاتٍ ضخمة من التمويل اللازم للاستثمارات العامة الجديدة التي تدفع وتحفز المبادرة الخاصة الضرورية لإنشاء وتحديث المحطات الصناعية. ومن جهة أخرى، ظل الاقتصادُ الكلي التونسي يضعف بسبب الخيارات السابقة التي فضَّلت أسبقية التدابير الدورية (نقديةً كانت أو مالية) قصيرة الأجل على الاعتبارات طويلة الأجل، التي ذكرنا أهمها أعلاه. فقد سعتْ إلى تحقيق الموازنات العامة؛ ذلك أن دعم العديد من المنتجات الغذائية والوقود يؤثر بشكل كبير على رصيد الميزانيات السنوية للدولة في الأجل القصير، كما تفرض التغطية الاجتماعية، من خلال صناديق الضمان الاجتماعي العامة؛ مما يضعف سياسات الميزانية. ويضاف إلى هذا التحدي أن الشركات العامة تمر بمصاعب هيكلية تفرض تدخلات مالية محددة الهدف على حساب المالية العامة.
ومن وجهة النظر هذه، يُصبح تحقيق التوفيق بين الاعتبارات قصيرة الأجل (الموازنات العاملة) وطويلة الأجل (التنمية المستدامة) تحديًا؛ ذاك أن القدرات المؤسسية والمالية للحكومة الحالية محدودة في الجانب الاقتصادي والمالي. فإذا خُصصت هذه القدرات للأجل القصير فلن ينال الأجل الطويل حظًّا. فعلى المستوى المالي، إن المالية العامة هشة والديْن غير مستدام والحيز المالي ضيق جدًّا كما بينَّا في العديد من التقارير المقالات(10). وأما على المستوى المؤسسي، فإن الجزء من الإصلاحات المصاحبة لقرض صندوق النقد الدولي المتعلقة بتقليص العجز العام والسيطرة على التضخم قد استدعى تشريك البنك المركزي والعديد من الوزارات ذات العلاقة بالأمر وفرقهم المتخصصة (وزارات المالية، والشؤون الاجتماعية، والطاقة، والصناعة، ووزارة الإصلاحات الكبرى)، مع ما يستدعيه ذلك من إعداد التقارير والاستعداد لاجتماعات المراجعة، والتنسيق بين السلطة التنفيذية والبرلمان لسنِّ القوانين اللازمة، ومتابعة الإصلاحات المتفق عليها. وفي هذه الحالة، لم يكن للحكومة القدرات المؤسسية اللازمة للاهتمام بالاستراتيجيات التنموية وبمتابعة خطة التنمية 2016-2019 وتقييمها. ولما كانت لحكومة الفخفاخ تقريبًا نفس القدرات المؤسسية، فهناك مخاطر إعادة تجربة الحكومة السابقة بعدم القدرة على إيلاء مسائل التنمية والبطالة والقضايا التنموية طويلة الأجل الاهتمام الكافي، خاصة أن تشكيل الحكومة كان على أساس سياسي ولم يتم الانتباه إلى ضرورة التكثير من الوزراء “الاقتصاديين”(11) واعتبار أن منصب الوزير إنما هو سياسي بالأساس، لكنه في الواقع التونسي حيث التحديات الاقتصادية ذات الأولوية القصوى تحتاج إلى تعبئة أهل الاختصاص حتى ترتفع القدرات المؤسسية للحكومة. فقد أظهرت التجارب في العالم أن الأزمات تدفع بأصحاب القرار إلى تعبئة الكفاءات والمتخصصين لتقوية القدرات المؤسسية.
رسم بياني (2) عدد وزراء الاقتصاد والمالية والتجارة المتخصصين في المجال الاقتصادي في الحكومات التونسية(*)
فكما كان اقتصادي القرن الماضي “كاينز” منخرطًا في برامج المملكة المتحدة ضمن خطة مارشال وكذلك في محادثات بريتن وودس التاريخية، كان الاقتصادي الألمعي “بان برنانكي” على رأس البنك الاحتياطي الفيدرالي خلال الأزمة المالية في عام 2008، وكذلك عالم الاقتصاد “فارو داكيس” الذي التحق بوزارة المالية اليونانية في حكومة أزمة الديون عام 2012، علاوة على “دادلي سامرس” في البيت الأبيض زمن الرئيس أوباما والأمثلة عديدة في العالم. ونعتقد أن البلد في حاجة إلى أفكار خلاقة، وسياسات شاملة ومقاربة نظامية؛ وهذا يحيلها إلى التحدي المؤسسي التالي.
التحدي الرابع: الإصلاح المؤسسي
يبدو أن الإصلاحات المؤسسية التي أُجريت في تونس منذ 14 يناير/كانون الثاني 2011 لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه مقارنة بالتجارب الانتقالية العالمية الناجحة وكذلك بالرجوع إلى الأدبيات التي تجعل من البعد المؤسسي عاملًا من عوامل التنمية، التي هي بدورها شرطٌ من شروط الدمقرطة؛ ذلك أن التنمية تحتاج إلى إنجازاتٍ والواقع ما زال يُدار تقريبًا بنفس القواعد المؤسسية ونفس الجهات. وبالرغم من أن البعد المؤسسي متعدد الجوانب، فقد أعلن رئيس الحكومة الحالي عن عزمه مواجهة الفساد، ورقمنة الإدارة واعتماد أفضل الممارسات من حيث الحوْكمة. وقد يطول التفصيل في هذا المجال، لكن سنقتصر فيما يلي على المخاطر المتعلقة بعدم الاستجابة إلى الإصلاح المؤسسي.
فقد لوحظ في تونس اتجاه النخبة السياسية منذ انتخابات 2014، نحو اعتبار “التحول المؤسسي قد اكتمل، وأنه لم يبق سوى إنشاء عدد قليل من الترتيبات الدستورية”، وأن المرحلة الحالية إنما هي تلك التي يدب “دعم التحول الاقتصادي”‘ فيها! ونعتبر أن هذا التصور غير سليم؛ إذ يحصر عملية الانتقال الديمقراطي في عملية التصويت وإنشاء ترتيبات دستورية أُخذت في المفهوم المنقوص لــ”المؤسسات”‘، ويؤثر كذلك على الوعي الجماعي بطبيعة الفترة الحاسمة التي تمر بها البلاد، وبالتالي تهدد المرحلة الانتقالية؛ ذلك أن الفرد يمكن أن:
- يلتفت إلى الممارسات غير الديمقراطية من قبل بعض النخب السياسية.
- يتفاجأ من عدم وجود آليات مساءلة فعالة ومُعممة لكل الناس بمختلف مواقعهم في النخبة السياسية أو الاقتصادية.
- يدرك أن “حقوق المواطنة” مهددة عندما لا يسترد حقه.
- يلاحظ أن الدولة غير قادرة على فرض الضريبة على جميع المواطنين على قدم المساواة.
- يلاحظ أن الحرب المعلنة ضد الفساد تبدو له غير حقيقية.
- يلاحظ أن قواعد القانون (نصوص القوانين، والدستور) لا تُحترم بالكامل عندما يتم رفض القوانين المُصادق عليها من قِبل البرلمان بشكل متكرر من قبل السلطة القضائية.
وفي هذا الإطار المؤسسي بالمعنى الضيق للكلمة(12)، يتم بناء المسار الديمقراطي من خلال ثلاثة عوامل أساسية مترابطة ببعضها، وهي: (1) المؤسسات والإجراءات التي يعبِّر المواطنون من خلالها عن تفضيلاتهم فيما يتعلق بالسياسات والقادة. (2) القيود المؤسسية على ممارسة السلطة التنفيذية. (3) ضمانات الحريات المدنية لجميع المواطنين في حياتهم اليومية وفي أعمال المشاركة السياسية. وفي هذا السياق، يقدم “هافارد” و”آخرون” (2012)(13)، استنادًا إلى أشغال “إيكشتاين” (1969) و(1973)(14)، مؤشرَ “الدولة الديمقراطية” مع مراعاة جانبها متعدد الأبعاد، في العرض المبسط التالي:
الرسم البياني (3) الأبعاد المؤسسية الثلاثة لهيكلة السلطة، بين الاستبداد والديمقراطية
يوضح هذا الرسم البياني أعلاه أن عملية الانتقال الديمقراطي من وجهة نظر مؤسسية تقوم على ثلاثة أبعاد، وهي: (1) احترام القيود المؤسسية. (2) احترام معيار المشاركة والمنافسة. (3) الالتزام بمعايير التوظيف في السلطة التنفيذية. وكلما ازداد الالتزام بهذه المكونات الثلاث، زادت ديمقراطية النظام. وبهذه الطريقة، نقترب من الحد الأقصى من الاستبداد، كلما لا يتم احترام أي من أبعاده الثلاثة؛ وتظهر هذه الحالة في الثلاثي (0،0،0) في يسار الرسم على الأسفل؛ كما نقترب من أقصى ديمقراطية عندما يتم احترام الأبعاد الثلاثة بالكامل؛ الذي يظهر في الثلاثية (1،1،1) في أعلى يمين الرسم البياني(15).
(1) القيود التنفيذية
وهي تلك التي تشير إلى القيود التي تؤثر على السلطات أثناء اتخاذ القرار (على المحور الأفقي). وهذا مشابه لمفهوم “المساءلة الأفقية” المعتمد في الأدبيات عن الديمقراطية. وفي واقع الديمقراطيات، تتقيد السلطة التنفيذية بشكل عام بالسلطات التشريعية والقضائية والإجراءات المؤسسية وعدم التعسف عليها، وإلا، فإن مشاريع الانتقال الديمقراطي يمكن أن تواجه خطر التطور نحو أنظمة تنفيذية ذات الاستقرار الهش، أو إلى تحولات عكسية نحو الأوتوقراطية(16). ففي الأنظمة الهجينة، غالبًا ما تكون هذه الأشكال الأفقية للمساءلة ضعيفة، مما يقلِّل من الفوائد المفترضة للديمقراطية من الجوانب الأخرى للحكم المتعلقة بسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان…، ويمكن أيضًا فرض القيود المؤسسية على السلطة التنفيذية من قبل أية “مجموعة مساءلة” تابعة لأية مجموعة خارج الحكومة، مثل المجتمع المدني، وهي “المساءلة الرأسية”. ويوضح الرسم البياني أعلاه أنه كلما زادت القيود المؤسسية، زادت السلطة التنفيذية ديمقراطيةً.
(2) التوظيف التنفيذي
يشير التوظيف التنفيذي (في المحور الرأسي) إلى الطريقة التي يأتي بها كبار مسؤولي السلطة إلى منصبهم في السلطة السياسية (إيكستين وجور، 1975)(17). وغالبًا ما يتم التقاط هذه الجوانب الإجرائية للديمقراطية من خلال: (1) مدى إضفاء الطابع المؤسسي (أو التنظيم) على عمليات التحويلات التنفيذية. (2) المنافسة بين المسؤولين عند اختيارهم. (3) الإعلان للعموم لفتح باب التوظيف. وعلاوة على ذلك، يجب أن تحدد لوائح التوظيف ما إذا كانت هناك طرق محددة يتم من خلالها اختيار المديرين. إلا أن التعيينات في مفاصل الدولة في الحكومة الماضية كانت في أغلب الحالات وفق الانتماءات السياسية أو معايير غير مُعلنة. وأما في حكومة الفخفاخ، فعلاوة على التقسيم السياسي المُعلن في جزء من تعيينات المستشارين، فإن هناك شعورًا لدى العامة بالمقياس الجهوي في اختيار حصة مهمة من الوزراء البارزين.
(3) المشاركة
ونُقدمها على المحور الأفقي باللون الأزرق، تعني حقوقًا تشاركية لجميع السكان وهي استجابة لسلسلة من المعايير المؤسسية المرتبطة بالمنافسة السياسية. ولا تشمل حقوق المشاركة في الأنشطة السياسية فحسب، والتي يُنظر إليها غالبًا على أنها دعم للديمقراطية (بيرسون وتابليني، 2006)(18)، بل أيضًا في “المساءلة الاجتماعية” التي تستند إلى المشاركة المدنية. وبهذا المعنى، فإن المواطنين العاديين و/أو منظمات المجتمع المدني هم الذين يشاركون بشكل مباشر أو غير مباشر في المساءلة (مالينا، وآخرون، 2004)(19)، وأنه إذا تبين أن الحكومة قد تجاوزت قواعد القانون، فإنهم سيقاضونها أمام المحاكم. وقد تمت هذا في تونس خلال المدة النيابية السابقة من خلال العديد من القضايا ضد الحكومة أو بعض الوزراء. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي المستويات الأعلى من المشاركة والمساءلة إلى زيادة قدرة الدولة (باك وهادينيوس، (2008))(20).
أخيرًا، أفرزت التشكيلة الجديدة للسلطات الثلاثة نوعًا من التجاذبات بينها سواء بين رئيس الجمهورية الذي أعلن عند التوقيع على قرار منح الثقة للحكومة الحالية أن “إدارة الحُكم خلال النيابة القادمة لن تكون مثل سابقاتها”. وقد عمد رئيس الجمهورية إلى ترؤس عدد من الاجتماعات الوزارية بخطاب نقدي وتوجيهي غير معهود، يتوجه من خلاله مباشرةً إلى “الشعب”، ورئاسة البرلمان والتكتلات البرلمانية الموالية لها التي تباطأت في منح الصلاحيات لرئيس الحكومة للتصرف بالمراسيم خلال أزمة الفيروس التاجي، بل قلَّصت مما طلبته رئاسة الحكومة، وفي ذات الوقت لم يتجنب رئيس الحكومة الانتقادات التي وجهها للبرلمان. ولا نعتقد أن هذا يعكس أفضل الطرق لبداية مدة نيابية جديدة. وقد يرجع ذلك إلى طبيعة الحكم، ولكن البلاد في وضع مؤسسي هش، يسمح باحتمال التعدي على القيود التنفيذية، بتطويعها لمآرب انتخابية أو نفعية مباشرة أو لفائدة الباحثين عن الريع، أو كذلك باحتمال تثبيت المواقع السياسية من خلال التوظيف في المراكز العليا للدولة. فإلى حد الآن لم يتم الإعلان عن المعايير التي يتم وفقها التوظيف.
II. تحديات اقتصادية مستحدثة في تونس بسبب جائحة الفيروس التاجي المستجد
توجه الاقتصاد العالمي نحو الركود منذ منتصف عام 2018
تتنزل الأزمة الحالية في إطار منحى تنازلي في النمو العالمي منذ منتصف عام 2018؛ ذلك أن الاقتصاد العالمي لم يُتعافَ كليًّا منذ أزمة الرهن العقاري 2007، إضافةً إلى ما تحمله من تداعيات التوترات في التجارة العالمية ضمن سياسات الحماية التجارية بين أميركا والصين، وصعود الإقليميات. ولذلك، تعالت الأصوات والمنبهات حيال ما سُمي بتراخي زخم العولمة Slowbalization)) في العديد من المناسبات المهمة (مثل اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي 2018) وفي التقارير الاقتصادية لمنظمات الأمم المتحدة والمؤسسات المالية(21). والأسباب الرئيسة لذلك تتمحور حول صعوبة إدارة مخاطر هذا التراخي، ولعل أهمها حسب تقديرنا:
– بُطء النمو العالمي وتأثيراته السلبية على الدول ذات الدخل الفردي المتوسط والضعيف والتي تلعب دورًا هامشيًّا في سلاسل القيمة العالمية بالاقتصار على تصدير المواد الخام واستيراد أهم حاجياتها من معدات وسلع غذائية مُصنَّعة وأدوات إنتاج. وقد خضعت التقديرات إلى المراجعة نحو الأسفل في حجم التجارة العالمية والنمو سواء من صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي أو الاتحاد الأوروبي أو كذلك الأونكتاد(22).
– تصاعد التوترات بين البلدان أو مجموعات من البلدان وإقامة الحواجز وزيادة شعور السكان بانعدام الأمن (المكسيك/الولايات المتحدة، فنزويلا/الولايات المتحدة، أسكتلندا/المملكة المتحدة/الاتحاد الأوروبي، …إلخ).
– حجب العديد من قنوات نقل التكنولوجيا مثل التدفقات التجارية للسلع والخدمات، والاستثمار الأجنبي المباشر.
– زيادة التفاوتات العالمية من حيث مسارات النمو الاقتصادي.
– التشوهات في نُظم الأسعار التي تؤدي إلى تخصيص غير أمثل للموارد والثروات. ومن أسباب هذه التشوهات استحداث حواجز جمركية (باون، سي 2019)(23)، ودعم المنتجات المحلية من قِبل السلطات الرسمية، استجابةً للضغوط الداخلية من كبار الشركات وكذلك الضغوط الشعبوية(24).
– صعوبات إضافية في سياسات التنمية الاقتصادية خاصة في الدول المستوردة لأغلب حاجياتها من معدات وتجهيزات.
– محدودية مصادر التمويل الدولية سواء من الأسواق المالية التي تميزت بزيادة “عدم الاستقرار” وعدم اليقين، أو من المنظمات متعددة الأطراف التي تفرضُ مُصاحبةَ التمويل لإصلاحاتٍ قد لا يرى القائمون المحليون على الشأن العام حاجةً ملحَّة لها.
وفي هذا الإطار، انخفضت نسب النمو في أغلب الأقاليم في العالم بين عامي 2018 و2019(25)، كما ازدادت نسب التداين في العالم(26) إلى غاية بعض الأزمات في المديونية مثل لبنان التي أعلنت عن عدم السداد أو تونس التي تأكدت من عدم استدامة دينها لارتفاع منسوب الهشاشة الاقتصادية الكلية. (الشابي، 2020)(27).
وإطار الركود هذا إنما يدل على أن أزمة الفيروس التاجي المُستجد ستُرهق الاقتصادَ العالمي وتؤثر أكثرَ على الاقتصادات ذات الهشاشة العالية والسياسات الاقتصادية محدودة الأداء والنظم الإنتاجية الأكثر خضوعًا لسلاسل القيمة.
(1) يمكن أن نجد تقريبًا نفس التداعيات السلبية على النمو والتوظيف لهبوط سعر العملة المحلية في واقع الدول النامية انطلاقًا من هذا المقال للحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، بول كروجمان، وللمؤلف المشارك، لنس تايلور:
Krugman, P, and L. Taylor (1978): ”Contractionary effects of devaluation”. Journal of International Economics. Volume 8, Issue 3, August 1978, Pages 445-456.
(2) أهم العلماء الاقتصاديين الذين أسسوا لمفهوم وآليات “استقلالية البنك المركزي”، هم كالآتي:
Kydland, F.W. and E.C. Prescott, 1977, Rules Rather than Discretion: The Inconsistency of the Optimal Plans, Journal of Political Economy 85, 473-491.
Barro, R.J. and D. Gordon, 1983, Rules, Discretion, and Reputation in a Positive Model of Monetary Policy, Journal of Monetary Economics, 12, 101-121.
Rogoff, K., 1985, The Optimal Degree of Commitment to an Intermediate Monetary Target, Quarterly Journal of Economics, 100, 1169-1190
(3) وقد تم إدراج هذا القرار في بند ضمن مشروع “قانون التحفيز الاقتصادي”، بعنوان قانون لتعبئة الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال، تم تقديمه في 5 مارس/آذار إلى مجلس نواب الشعب.
(4)- Real Business Cycle Models.
(5) المعهد الوطني للإحصاء وتقديرات Oxford Economics لعام 2019.
(6) وهذا حسب رأينا راجع إلى عدم التحقق من نظرية المرونة المزدوجة (Cross Elasticities) لــمارشال-ليرنر، (Marshall-Learner) والتي تنص على أن هبوط سعر العملة المحلية لا يُفيد في تحسين الميزان التجاري إلا في ظل عدد من الشروط التي هي ليست متوفرة في مسار الاستيراد والتصدير في تونس.
(7) انظر المرجع أسفله والذي يليه.
(8) الامتيازات في القطاعات التالية: قطاعات التوزيع: منتجات العطور والجمال ومستحضرات التجميل-الملابس الجاهزة-الأحذية-السلع الجلدية-السلع والأحذية الرياضية-منتجات الحمية الغذائية-صناعة الساعات-الهدايا-النظارات-الأدوات المنزلية لعامة الناس-الأثاث-النباتات الداخلية والأزهار-الأجهزة والأدوات الصحية-المعدات الإلكترونية والكمبيوتر-مكتبة-قطاع السياحة.
(9) هذه شهادة أحد أكبر رجال الأعمال في تونس في عام 2012، وهو صاحب “مجموعة بولينا” متعددة الأنشطة. وفي المقال التالي الذي نُشر بمجلة “ليدرز”، عام 2013، توجه هذا المستثمر نحو إنشاء مصانع للمواد الغذائية في مختلف الجهات في البلاد؛ مصانع صغيرة ومتوسطة الحجم، ذات كثافة رأسمالية منخفضة ولا تتطلب مهارات عالية:
‘’ Abdelwahab Ben Ayed lance de nouveaux projets de Poulina : 300 MD d’investissement’’
(30)- Chebbi, A. (2015) : ”Baisse du Prix du Pétrole, Dépréciation du Dinar et Inaction de la Politique Macroéconomique en Tunisie” Babnet.
————- (2013) : ‘‘Tunisie : Une vulnérabilité macroéconomique aux causes multiples”. Espace Manager.
————- (2016) :”L’insoutenabilité de la dette tunisienne est due au mode de gestion des finances durant les dernières années”. Espace Manager.
(10) لا نقصد هنا من له تكوين أو تجربة في مجالات قريبة من المالية أو التجارة أو الهندسة المالية في الشركات الخاصة بل الذي نقصده هو التكوين والتجربة في المجال الاقتصادي العام الذي تتطلبه المرحلة على غرار التجارب العالمية المقارنة.
(11) أي بالمعنى التشغيلي المباشر خارج إطار المناقشات ضمن أدبيات علم الاجتماع السياسي أو الاقتصاد السياسي.
(12)- Strand Havard., H. Hegre, S. Gates, et M. Dahl (2012): ‘’ Why Waves? Global Patterns of Democratization, 1816–2008’’, 3rd International Conference on Democracy as Idea and Practice, Oslo, 12-13 January 2012: 3
(13) المرجع السابق.
(14)- Eckstein, H. (1969): ”Authority Relations and Government Performance: A Theoretical Framework.” Comparative Political Studies 2(2):305–322
Eckstein, H. (1973): “Authority Patterns: A Structural Pattern for Inquiry.” American Political Science Review 67(4):1142–1161.
(15) وفي نفس الوقت، يمكن قياس عملية التحول الديمقراطي في أبعادها المؤسسية الثلاث.
(16)- Fritz, V. and Rocha Menocal, A. (2006): ‘’ (Re-) building Developmental States: From Theory to Practice’’. ODI Working Paper No. 274. London. Carothers, T. (2002): ‘Tthe End of the Transition Paradigm’’, Journal of Democracy 13 (1): 1-21..
(17)- Eckstein, H. and T. R. Gurr (1975): ”Patterns of Authority: A Structural Basis for Political Inquiry”. New York: Wiley-Interscience.
(18)- Persson, T., and G. Tabellini (2006): Democracy and Development: The Devil in the Details. NBER Working Paper No. 11993
(19)- Malena, C., R. Forster, and J. Singh (2004): “Social Accountability: An Introduction to The Concept and Emerging Practice.” Social Development Paper 76. Washington, DC: World Bank
(20)- Back, H, and A. Hadenius (2008):’’ Democracy and State Capacity: Exploring a J-Shaped Relationship.” Governance: An International Journal of Policy, Administration, and Institutions 21(1): 1–24.
(21) يقول التقرير السنوي “The World Economic Situation and Prospects, 2020”: “قد يؤدي التدهور واسع النطاق للآفاق الاقتصادية العالمية إلى انتكاسات في السعي لتحقيق الأهداف الإنمائية (…) انخفض نمو الناتج الإجمالي العالمي إلى 2.3٪ في عام 2019، وهو أدنى معدل منذ الأزمة المالية العالمية في 2008-2009.
(22) صندوق النقد الدولي، أبريل/نيسان 2019. World Economic Outlook Reports، كما تمت مراجعة توقعات النمو نحو الانخفاض عدة مرات؛ ذلك أن اقتصاديي صندوق النقد الدولي توقعوا في ديسمبر/كانون الأول عام 2018 نموًّا عالميًّا بنسبة 3.5٪ في عام 2019 و3.6٪ في 2020، أي على التوالي 0.2 نقطة و0.1 نقطة أقل من توقعاتهم الاقتصادية في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
(23)- Bown, C (2019), “US-China Trade War Tariffs: An Up-to-Date Chart.” Peterson Institute for International Economics.
(24)- Rodrik, D (2018), “Is Populism Necessarily Bad Economics?” American Economic Review, Papers and Proceedings 108: 196–199
(25) تقارير ” World Economic Situation and Prospects 2019″ و2020 وتقرير صندوق النقد الدولي وتقديراته المستقبلية لعام 2020.
(26) أظهر التقرير الذي أصدره المعهد الدولي للتمويل في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (1) أن الدَّيْن العالمي ارتفع بمقدار 7.5 تريليونات دولار في الأشهر الستة الأولى من عام 2019، (2) كان ارتفاع الديون في جميع أنحاء العالم مصدر قلق كبير للمستثمرين، (3) أن الدين الحكومي العالمي سوف يتجاوز 70 تريليون دولار في نهاية عام 2019، ارتفاعًا من 65.7 تريليون دولار في عام 2018، مدفوعًا بارتفاع الديون الفيدرالية الأميركية.
(27)- الشابي، عـ. (2020): ” La crise d’endettement au Liban: Quelles leçons pour la Tunisie” ليدرز– 11 مارس/آذار.
رابط المصدر: