حامد عبد الحسين الجبوري
إن الدول التي تعتمد المنطق السليم لإدارة شؤونها تتخذ سلم الأولويات منهجاً لها لتلبية الحاجات ولتجنب الفوضى والخسائر واكتساب الوقت، مُحققة بذلك التنمية والرفاه لمجتمعاتها بشكل حقيقي.
ويبدو من خلال الواقع المُعاش، إن العراق بعيد كل البعد عن هذا المنهج، كونه لم يسهم في بناء المجتمع ورفع رفاهيته بل ظل يعاني النقص في إشباع الحاجات واستمرار الفوضى وتفاقم الخسائر وضياع الوقت ولا يزال الحال كذلك.
السبب، النظام السياسي
السبب الرئيس وراء غياب منهج الأولويات التي يحتاجها المجتمع ليصبح مجتمعاً يمتلك قوة البقاء، هو النظام السياسي الذي تبناه العراق قبل عام 2003 والذي لايزال يُعاني من آثاره المتمثلة بالثقافة التي طبعها على المجتمع، وأصبحت أحد العوائق الرئيسة أمام التحول نحو النظام الجديد، إضافة إلى سوء عملية التخلص من النظام القديم والتحول نحو النظام الجديد، التي تسببت في تفاقم سوء الوضع العراقي بعد 2003.
إذ كان النظام السائد آنذاك، هو نظام الحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي اتخذ من الحكم العسكري طريقاً له، أي تم إيلاء الجانب العسكري المزيد من العناية والاهتمام، على حساب الجوانب المدنية والسلمية، لتعزيز قوته وإحكام السيطرة على الداخل والبقاء في السلطة أطول مدة ممكنة، وتنفيذ أهدافه الخارجية المتمثلة بالدفاع عن العروبة والعرب والتدخل في شؤون الآخرين وتوحيد العرب تحت شعار “وحدة عربية اشتراكية”
أبرز الأحداث
من أبرز الأحداث التي حصلت إبان الحكم العسكري هو قيام الحرب مع إيران التي دامت لثمان سنوات، والتي أدت لانخفاض الإيرادات النفطية نتيجة انخفاض الصادرات النفطية بسبب توقف تصدير النفط عبر الخليج العربي عام 1980 وعبر الجمهورية العربية السورية عام 1982، أضافه لانخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من 36 دولار عام 1980 إلى 14 دولار للبرميل الواحد عام 1988، ثم تعرض العراق لحرب الخليج الثانية 1991 إثر قيام الحكم العسكري بغزو الكويت 1990 بهدف ضمها للعراق، وأعقبها الحصار الاقتصادي الذي تم تخفيف حدته من خلال اتفاقية النفط مقابل الغذاء عام 1996، واستمر الحكم العسكري بمهاجمته الدول الكبرى وإن كانت هذه الأخيرة تبحث عن حجج لمهاجمته، حتى كانت نهايته على يد الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003.
إن نظام الحزب الواحد القائم على الحكم العسكري وبسبب تركيزه على الجانب العسكري وقيام الحروب، عمل على تسخير أغلب الموارد نحو الجانب العسكري لتغذية متطلباته ومواجهة الحرب وهذا ما انعكس على الاقتصاد العراقي، وأصبح يتصف بـ”اقتصاد الحرب” بعد إن كان يتصف بـ”اقتصاد السلم”، ونجم عن ذلك عسكرة المجتمع، بمعنى هناك تنمية عسكرية على حساب التنمية البشرية وكانت النتيجة ارتفاع معاناة المجتمع العراقي وآلامه وانخفاض رفاهيته حتى 2003.
بعد 2003
بعد مغادرة نظام الحزب الواحد القائم على الحكم العسكرية واللجوء للنظام الديمقراطي القائم على تعدد الأحزاب، يظل السؤال المطروح، هل تم تغيير الأولويات تجاه التنمية من التنمية العسكرية إلى التنمية البشرية؟ أم ظل الوضع كما هو كان سائداً قبل 2003؟
يمكن الإجابة على هذا التساؤل من خلال النظر للمالية العامة واستخراج نسب الإنفاق على التنمية العسكرية والتنمية البشرية وعندها سنلحظ الفرق ويتضح الجواب بشكل تلقائي.
التنمية العسكرية
يمكن ملاحظة مدى الاهتمام بالتنمية العسكرية من خلال معرفة وزن وزارتي الداخلية والدفاع في الموازنة بشكل عام ونسب الإنفاق الجاري والاستثماري من موازنة هاتين الوزارتين بشكل خاص.
حيث شكل الإنفاق بشقيه، الجاري والاستثماري، على وزارتي الدفاع والداخلية ما نسبته 20.94% من الإنفاق العام في عام 2015، ثم انخفض إلى 15.26% عام 2019، ويمكن أن يعزى هذا الانخفاض نتيجة لانحسار عصابات داعش الإرهابي إضافةً لانخفاض أسعار النفط.
وبينما شكل الإنفاق الجاري على وزارتي الداخلية والدفاع، ما نسبته 20.58% من الإنفاق الجاري العام، والإنفاق الاستثماري ما نسبته 18.73% من الإنفاق الاستثماري العام عام 2015، شكل الأول ما نسبته 17.67% والثاني ما نسبته 7.99% في عام 2019، بمعنى إنه أتجه إلى الانخفاض بشكل عام.
وعلى المستوى الخاص، فقد شكل الإنفاق الجاري ما نسبته 65% من موازنة وزارتي الداخلية والدفاع، في الوقت الذي شكل الإنفاق الاستثماري ما نسبته 35% من موازنة الوزارتين عام 2015. لكن هذه النسب اختلفت بشكل كبير في عام 2019، حيث شكل الإنفاق الجاري ما نسبته 85.88% بينما شكل الإنفاق الاستثماري 14.12% من موازنة هاتين الوزارتين.
التنمية البشرية
كما ويمكن ملاحظة مدى الاهتمام بالتنمية البشرية من خلال معرفة نسب التعليم والصحة في الموازنة بشكل عام، ونسب الإنفاق الجاري والاستثماري من موازنة التعليم والصحة.
حيث شكل الإنفاق بشقيه، الجاري والاستثماري، على وزارة التربية والتعليم والصحة والبيئة ما نسبته 13.06% من الإنفاق العام عام 2015، ثم انخفض إلى 6.46% عام 2019.
وبينما شكل الإنفاق الجاري على وزارة التربية والتعليم والصحية والبيئة ما نسبته 19.15% من الإنفاق الجاري العام، شكل الإنفاق الاستثماري ما نسبته 1.22% من الإنفاق الاستثماري العام عام 2015، فيما شكل الأول ما نسبته 7.66% شكل الثاني ما نسبته 1.77% في عام 2019.
وعلى مستوى موازنة هذه الوزارات، فقد شكل الإنفاق الجاري ما نسبته 95.18% وشكل الإنفاق الاستثماري ما نسبته 4.82% من موازنة هذه الوزارات مجتمعةً في عام 2015. ثم شكل الأول ما نسبته 93.06% وشكل الثاني ما نسبته 6.94% من موازنة هذه الوزارات مجتمعةً عام 2019.
الاتجاه، انخفاض أم ارتفاع؟
من خلال ما سبق يمكن ملاحظة الآتي:
1- إن حجم الإنفاق العام على التنمية العسكرية، وزارتي الداخلية والدفاع، أكبر من الإنفاق على التنمية البشرية، وزارة التربية والتعليم والصحة.
2- انخفاض الإنفاق العام على التنمية العسكرية في عام 2019 مقارنة بعام 2015 كان اقل من الانخفاض على التنمية البشرية.
3- حجم الإنفاق الاستثماري من الإنفاق العام على التنمية العسكرية أكبر بخمسة عشر ضعفاُ عام 2015، حتى مع الانخفاض في عام 2019 حيث كان عشرة أضعاف.
4- الإنفاق الاستثماري من وزارتي الدفاع والداخلية كان أكبر بسبعة أضعاف الإنفاق الاستثماري من وزارة التربية والتعليم والصحة والبيئة عام 2015، ومع الانخفاض في عام 2019 ظل هو أكبر بضعفين.
التنمية العسكرية في المقدمة
بناءاً على ما سبق، إن العراق لم يجعل التنمية البشرية في مقدمة الأولويات وكانت التنمية العسكرية تحتل مكانة مهمة في سلم الأولويات، وذلك لاعتبارات مبررة لمواجهة الإرهاب من جانب وغير مبررة لترك التنمية البشرية عرضة للإهمال من جانب آخر، علماً إن هذا الإهمال للتنمية البشرية هو الذي تسبب في تعرض العراق للإرهاب والفوضى وعدم الاستقرار وتكبد الخسائر.
بعبارة أخرى لو تم وضع التنمية البشرية في مقدمة الأولويات وتم تسخير الإمكانيات من أجل الارتقاء بها تربوياً وتعليمياُ وعلمياً وطبياً وصحيّاً لتحسن الوضع الاجتماعي اقتصادياً ولما ظهر الإرهاب والفوضى وعدم الاستقرار وتم تلافي الخسائر التي صرفت واكتسب الوقت لكن ما حصل هو العكس تماماً!!
إن الخلاص من الإرهاب والفوضى وعدم الاستقرار واكتساب الوقت يكُمن في إيلاء التنمية البشرية الأهمية القصوى ووضعها في مقدمة سُلم الأولويات وتسخير كل الإمكانيات نحوها من اجلها الرُقي بها وعندها سيرتقي العراق سُلم التقدم.
رابط المصدر: