مفتتح:
التنوع والتعدد في الآراء والقناعات والميولات، ظاهرة أصيلة وراسخة في حياة الإنسان الفرد والجماعة، ولا يمكن أن نتصور حياة إنسانية بدون هذه الحقيقة.. فإذا تشابه واتحد الناس في اللون، فهم مختلفون ومتنوعون في القناعات الدينية والثقافية.. وإذا تشابه الناس في القناعات الدينية والثقافية، فهم متعددون في القوميات والأثنيات..
وهكذا تصبح حالة التعدد والتنوع، حالة طبيعية في الوجود الإنساني.. ولكن هذه الحالة الطبيعية، قد تتحول إلى عبء على استقرار الناس وأمنهم..
حينما لا يتم التعامل مع هذه الحالة الطبيعية بعقلية استيعابية، تبحث عن سبل لإدارة هذه الحالة، دون توسل أساليب عنفية وقسرية لاستئصالها..
فالتعامل الإنساني الخاطئ مع هذه الحقيقة الإنسانية، هو الذي يحولها، من مصدر جمال وحيوية للوجود الإنساني، إلى فضاء للتناحر والتقاتل.. ومن منبع للخير المعرفي والاجتماعي، إلى مبرر للنبذ والاستئصال وتغييب المختلف..
وبفعل هذه الممارسة الخاطئة والقاتلة في آن، تجاه هذه الحقيقة الملازمة للوجود الإنساني، تنشأ ظاهرة تصنيف البشر وتوزيعهم ضمن دوائر انتماءهم التقليدية.. وبفعل هذا التصنيف الاجتماعي، تبرز الفروقات والتمايزات الحادة بين أبناء المجتمع الواحد، وتزداد الحواجز النفسية بينهم، وتتغذى الإحن والأحقاد..
فيصبح لدينا وتحت سماء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، مجموعة من المجتمعات، لكل مجتمع عالمه الخاص ورموزه الخاصة وهمومه واهتمامه الخاص، مع انعزال وقطيعة تامة مع المجتمع الخاص الآخر..
وهكذا تتحول التعددية الدينية والمذهبية والقومية، من حالة طبيعية في الوجود الإنساني، إلى مصدر للشقاء والتباغض والإحن المفتوحة على كل احتمالات الخصومة والنزاع..
لهذا فإننا نفرق بين ظاهرة التنوع والتعدد في الوجود الإنساني، التي نعتبرها ظاهرة صحية وحيوية وذات آفاق ثرية على أكثر من صعيد.. وبين خلق الحواجز بين الناس وتصنيفهم التصنيفات الحادة على أساس انتماءاتهم التاريخية والتقليدية، والتي نعتبرها ظاهرة مرضية، ومؤشر على فشلنا في إدارة تنوعنا بطريقة سلمية وحضارية..
فنحن مع احترام كل أشكال التنوع في الوجود الإنساني، والذي نعتبره جزء من الناموس الرباني، ولكننا في ذات الوقت لا نرى أن ظاهرة تصنيف الأفراد اجتماعيا بفعل انتماءاتهم التاريخية ظاهرة صحية، بل نعتبرها من الظواهر التي تساهم في تمزيق مجتمعاتنا وخلق الإحن والبغضاء بين أطرافه وأطيافه.. ولن نتمكن من إنجاز هذه المعادلة التي تحترم التنوع الإنساني ومقتضياته، دون أن نسمح أن تبرز ظاهرة التصنيف الاجتماعي، التي توزع الناس وتفصل بينهم شعوريا واجتماعيا، على أساس انتماءات لا كسب حقيقي للناس فيها..
وعلى المستوى المعرفي، من الطبيعي أن يلتزم الإنسان الفرد والجماعة إلى منظومة عقدية وفكرية واجتماعية، لأن الإنسان بطبعه يبحث عن من يشترك معه ويتشابه معه في فكرة أو انتماء أو أي دائرة اجتماعية أو معرفية، لكي يلتقي معه، ويحول الاشتراك في الدوائر المعرفية والاجتماعية إلى شبكة مصالح تديم العلاقة وتطورها أفقيا وعموديا..
لهذا فإننا ننظر من هذه الزاوية المعرفية إلى حقيقة الانتماء الفكري والاجتماعي نظرة طبيعية وصحية.. ولكن هذه الظاهرة الصحية والطبيعية، قد تتحول إلى ظاهرة سلبية ومرضية.. حينما يتحول الانتماء إلى مبرر للاعتداء على حقوق الآخرين المادية أو المعنوية، تتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة سلبية.. حينما أمارس التعصب بكل صنوفه، بحيث أرى شرار قومي أفضل من خيار قوم آخرين، يتحول الانتماء إلى ظاهرة مرضية..
لهذا فإننا نعتقد أن التصنيف العقدي أو الفكري أو الاجتماعي في حدوده الطبيعية ظاهرة صحية، ومستساغة معرفيا واجتماعيا.. ولكن هذه الظاهرة تتحول إلى ظاهرة سلبية حين يتصف أهل هذا الانتماء بالصفات والممارسات التالية:
1- الانغلاق والانكفاء والديماغوجية في النظر إلى الأمور والقضايا، بحيث لا يتسع عقل الإنسان إلا لمحيطه الخاص، ويمارس نرجسيته المرضية تجاه قناعات وانتماءات الذات..
2- التعصب الأعمى للانتماء الخاص ونبذ كل المساحات المشتركة التي تجمعه مع أبناء المجتمع والوطن.
3- ممارسة الاعتداء على الحقوق المادية أو المعنوية على الآخرين بدعوى خروجهم عن الانتماء الصحيح أو ما أشبه ذلك.
حين تتوفر هذه القيم والممارسات (الانغلاق المرضي – التعصب الأعمى- الاعتداء على الحقوق) تتحول هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية إلى ظاهرة سلبية ومرضية..
وفق هذه الرؤية المعيارية، نتعامل مع ظاهرة التصنيفات في المجتمعات العربية.
وهي ظاهرة تتوالد باستمرار، بحيث ينتقل التصنيف من العنوان الكبير إلى العنوان الصغير ويستمر في سياق دوائر صغيرة عديدة، بحيث يهدد هذا التصنيف المرضي نسيج المجتمع والوطن..
ولا خيار أمامنا للعودة بهذه الانتماءات إلى حالتها المعرفية والطبيعية والمقبولة اجتماعيا، إلا ببناء وعي اجتماعي وطني جديد، لا يحارب الانتماءات التقليدية للإنسان وإنما يشبعها لدى كل إنسان دون أن ينحبس فيها، يحترم خصوصياته دون أن يتحول هذا الاحترام إلى مبرر لبناء كانتونات اجتماعية مغلقة..
والطريق إلى ذلك هو بناء حقائق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات..
بحيث يتحول هذا العنوان بحمولته الدستورية والقانونية والحقوقية إلى مرجعية عليا لكل مواطن..
ومن منطلق رفضنا للفتن الطائفية، والتصنيفات الاجتماعية التي يترتب عليها المنع من بعض الحقوق أو المنح للحقوق بدون كسب حقيقي يقوم به، وكل أشكال التحريض المذهبي نحاول أن نقترب معرفيا وسياسيا من مسألة أساسية مطروحة في دوائر الفكر والسياسة وهي طبيعة رؤية وموقف الشيعة العرب من تطورات الربيع العربي. ونحاول أن نوضح هذه الرؤية والموقف من خلال النقاط المحورية التالية:
الربيع العربي.. ولعبة المصالح:
أولا: أعتقد إن ما جرى من تحولات سريعة في العديد من الدول العربية، هي تحولات نابعة من الإرادة الداخلية وبفعل هيمنة الأنظمة الشمولية على كل المقدرات والإمكانات، مما فجر الأوضاع باتجاه الانعتاق والتحرر من كل القيود..
ولكن ولاعتبارات عديدة ذاتية وموضوعية، دخل على خط هذه التحولات القوى الدولية وبالذات الغربية وبعض القوى الإقليمية لتوجيه هذه التحولات والسيطرة على حركتها.. وثمة مؤشرات عديدة على أن بعض القوى الدولية والإقليمية تمكنت من الوصول إلى هدفها والتحكم في مسيرة ومصائر هذه التحولات والتطورات الدراماتيكية..
لهذا فإن هذه التحولات هي ثورات لم تكتمل.. ويبدو أن الإرادة الغربية وبالخصوص الأمريكية، اتجهت صوب التفاهم مع القوى الإسلامية المعتدلة والقبول بها كنخبة سياسية جديدة تحكم في دول الربيع العربي.. ضمن قناعة إستراتيجية أمريكية مفادها: إننا لا يمكن أن نواجه الشيعية السياسية واستمرار النفوذ والتمدد الإيراني بدون خلق وبعث السنية السياسية من جديد.. لهذا فإن الربيع العربي، يشكل لحظة الانبعاث الجديد للحركية الإسلامية-السنية، وإن هذه الجماعات تعيش في هذه الحقبة أزهى عصورها، إذ تمكنت شعوبها من إسقاط رموز بعض الأنظمة السياسية العربية التي مارست كل أنواع الظلم والحيف بحق الحركة الإسلامية..
وإزاء هذا المتغير الاستراتيجي نحن بحاجة إلى التأكيد على العناصر التالية:
العنصر الأول: صياغة رؤية فكرية واستراتيجية وخطاب سياسي يواكب هذه المتغيرات ويساهم في تبريد التوترات ذات الطابع المذهبي من جراء التباين في القناعات والمواقف تجاه بعض تطورات وتحولات المنطقة..
العنصر الثاني: القيام بمبادرات وخطوات عملية مدروسة، تستهدف نسج علاقات إيجابية وحيوية مع القوى الصاعدة والجديدة في مناطق التحول والمجتمعات التي شهدت الربيع العربي..
العنصر الثالث: تشجيع الوجودات الشيعية في تونس ومصر وبقية دول الربيع العربي، على الانفتاح على الساحة العامة وعدم الانغلاق، والانخراط في مشروعات سياسية وطنية وعدم التفكير في بناء أحزاب سياسية شيعية في هذه المناطق.. فنحن نرى أن المصلحة تقتضي أن تعمل الوجودات الشيعية على ضوء هذه المتغيرات على محورين أساسيين وهما:
1- بناء الجمعيات والهيئات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، التي تمارس النشاط الثقافي والاجتماعي على قاعدة المشترك الإسلامي والوطني، وتخفف من الأنشطة ذات الطابع المذهبي.. فهذه الوجودات على هذا الصعيد، من الضروري أن تقدم نفسها بوصفها جماعات ثقافية وفكرية، تحمل مشروعا ثقافيا لوطنها ومجتمعها..
2- المساهمة مع بقية القوى الوطنية في بناء أحزاب وتكتلات سياسية وطنية بعيدا عن النزعات الفئوية والحزبية.. فلا مصلحة في تقديرنا للوجودات الشيعية في هذه الدول في بناء مشروعها السياسي على قاعدة مذهبية.. فنحن نرى أن المصلحة تقتضي أن تنشط هذه الوجودات على المستويات الثقافية والفكرية والإعلامية ضمن مؤسسات وأطر رسمية، وعلى المستوى السياسي الانخراط في مشروعات سياسية تلتقي معها في الرؤية وطبيعة الخطاب والأولويات السياسية والوطنية..
3- لقد أبانت تحولات الربيع العربي عن مستوى من التضامن والتعاون والاستفادة من الإمكانات على نحو متبادل بين الجماعات الإسلامية–السنية، مما شكل كتلة عربية وإسلامية كبيرة تدافع عن مصالحها وأولوياتها وأهدافها..
وأعتقد أن النخب الإسلامية–الشيعية، معنية في ظل هذه الظروف الحساسة إلى تطوير نظام العلاقة والتعاون بين مختلف أطرافها ومكوناتها..
فهناك العديد من المجالات والمشروعات، التي تتطلب التضامن والتعاون لإنجازها بشروط مهنية متقدمة، حتى تترك بصماتها الإيجابية على مسيرة مجتمعاتنا.. فالربيع العربي بكل تحولاته وتطوراته، بمقدار ما أعطانا فرصا سياسية وإستراتيجية جديدة، بذات القدر، فإنه خلق لنا تحديات جديدة على أكثر من صعيد.. وهذه التحديات تتطلب مضاعفة الجهود من أجل النجاح في مواجهة هذه التحديات المعقدة والمركبة في آن.. فالذي يقرأ التقرير الصادر عن معهد بروكنز التابع للمحافظين الجدد المعنون بـ(ما هي الطرق إلى بلاد فارس) سيدرك حجم التحديات التي تواجه المنطقة على أكثر من مستوى وصعيد. ولعل الملفت للنظر والذي يتطلب المزيد من التمعن والتأمل هو طبيعة التحالف التي بدأت تبرز بعض معالمه بين المحافظين الجدد الأمريكيين والبريطانيين مع بعض الإسلاميين والذين رأينا بعض ثماره في الحكومات الجديدة التي تشكلت في بعض دول الربيع العربي وطبيعة مواقفها الجديدة من بعض قضايا الأمة والمنطقة..
وإن اللحظة التي نعيشها بكل زخمها وعقدها، تتطلب منا قراءة دقيقة وعميقة لها، وذلك حتى نقف في الجانب الصحيح من حركة التاريخ، وحتى نحافظ على كل مكاسبنا النوعية. ولا خيار أمامنا إلا القبض على مصيرنا، وذلك لأنه (لم تعد هناك إلا وسيلة واحدة للتنبؤ بالمستقبل، هي أن نبتكره) على حد تعبير ستيف جوبز..
تيارات وأطياف متعددة:
ثانيا: من الضروري في هذا السياق، بيان حقيقة اجتماعية–ثقافية–سياسية، وهي أن الشيعة في كل مناطقهم ودولهم، ليسوا حزبا واحدا أو رأيا واحدا.. وإنما هم كبقية المجتمعات الإنسانية في أوساطهم تيارات فكرية وسياسية عديدة.. ولذلك لا يصح التعامل معهم، بوصفهم كتلة بشرية واحدة ومتجانسة في كل شيء..
كما أن غيرهم من المجتمعات، ينبغي أن لا يتم التعامل معهم بوصفهم كتلة واحدة، متجانسة.. فمجتمعاتنا جميعا بصرف النظر عن دينها أو مذهبها أو قوميتها، وسواء كانت تشكل أكثرية في مجتمعها أو أقلية، لا فرق.. هي مجتمعات متعددة ومتنوعة فكريا وسياسيا وثقافيا، وتحتضن توجهات وأطياف وتيارات عديدة، سواء كانت دينية أو فكرية أو سياسية..
وعلى ضوء هذه الحقيقة، ينبغي أن نتعامل مع كل الملفات والقضايا الشيعية.
الانقسام الطائفي.. البحرين وسوريا نموذجا:
ثالثا: يبدو من الكثير من الشواهد والمعطيات، أن الانقسام الطائفي والمذهبي في الأمة، انقسام حقيقي، وموجود في كل المجتمعات بمستويات متفاوتة.. فكل المجتمعات وبسبب عوامل موضوعية وذاتية عديدة، تعيش مرحلة انبثاق هوياتها الفرعية، وهي هويات متصارعة، وتستدعي باستمرار أحن التاريخ وذكريات الحروب والانفصال بينها..
وأعتقد أن التشظي المذهبي الذي تشهده أمتنا في هذه اللحظة الحساسة من تاريخنا الجماعي والمشترك، انعكس بطريقة أو أخرى على حدثين أساسيين في المنطقة وهما:
1- الحدث البحريني وما رافقه من تطورات سياسية واجتماعية، تطالب بالحرية والانصاف وانجاز تحولا ديمقراطيا حقيقيا في المشهد السياسي..
وأعتقد أن الكثير من الأطراف الإسلامية (السنية)، تعاطت مع هذا الحدث، الذي هو في دوافعه وشعاراته وأهدافه، جزء أصيل من حركة الربيع العربي، بخلفية التوتر الطائفي الموجودة في كل الساحة الإسلامية.. لذلك اعتبرت ما يجري في البحرين حركة خارجية في دوافعها وأهدافها وتعاملت بإهمال حقيقي ومؤسف مع تطورات الأحداث في البحرين. وعلى افتراض صحة التحليل السائد في الإعلام العربي، وهو أن ما يجري في البحرين هو تدخلات إيرانية–صفوية–مذهبية، لذلك وقفت غالبية الجماعات الإسلامية (السنية) موقف المتفرج أو المؤيد للسلطة ومنطقها وخطابها حول ما يجري في البحرين.. وتغافلت عن حقيقة المطالب المحقة التي يطالب بها شعب البحرين، وهي مطالب في شعاراتها الجوهرية وأهدافها السياسية بعيدة كل البعد عن النزعات الطائفية والمذهبية..
2- الحدث الآخر هو الحدث السوري، والذي اندفعت فيه غالبية القوى الإسلامية (السنية) في تأييد الثورة، وساهمت بطريقة أو بأخرى في الحشد الطائفي والمذهبي، وتغافلت عن كل السياقات الإقليمية والدولية والتي وقفت وتدخلت بأشكال عديدة في الواقع السوري..
وفي المقابل وقفت غالبية القوى الشيعية موقف التأييد للنظام السياسي في سوريا، لأسباب متعلقة بطبيعة موقف النظام من المشروع الصهيوني والصراع العربي–الصهيوني. وحين التأمل في موقف غالبية القوى الشيعية من الحدث السوري، فإننا نجده يحتوي على مكونين أساسيين:
المكون الأول: القبول التام بمنطق ضرورة الاصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي والديمقراطي في الواقع السوري، وإن النظام السياسي يمتلك القابلية للقبول بكل مقتضيات وآليات الإصلاح السياسي والدستوري في سوريا..
المكون الثاني: رفض السياقات والتدخلات الإقليمية والدولية، والتي دخلت على خط مطالب الشعب السوري المحقة في الإصلاح والديمقراطية..
وأعتقد أن غالبية القوى الشيعية على هذا الصعيد، لم تتمكن لاعتبارات عديدة من تظهير موقفها الاستراتيجي والسياسي ببعديه من الأحداث في سوريا..
فهي مع الإصلاح والتحول الديمقراطي، وفي ذات الوقت ضد المخططات الإقليمية والدولية، التي اغتنمت فرصة الأحداث في سوريا، ودخلت على خط هذه الأحداث الأهداف ليست بالضرورة هي أهداف الثوار في سوريا..
وعلى كل حال ما أود أن أقوله في هذا السياق، هو أن غالبية القوى والجماعات الإسلامية السنية والشيعية وقعت من جراء أحداث البحرين وأحداث سوريا في مأزق أخلاقي وفي بعض جوانبه مبدئي..
لهذا فإننا نعتقد أن الأجندة المذهبية أو واقع الانقسام الطائفي الموجود في الأمة، ساهم بطريقة أو بأخرى في المأزق الأخلاقي والوقوف مع طرف ضد آخر.. مما أفضى إلى المزيد من التوتر والتخندق الطائفي في الأمة. وأبانت تطورات الربيع العربي، وطبيعة الانقسام الطائفي والمذهبي الذي برز في الساحة وتفاقم من جراء الموقف من الأحداث في البحرين وسوريا، عن حاجة الساحة الإسلامية إلى تطوير العلاقات والتواصل والتفاهم بين القوى الإسلامية السنية والشيعية. وإن الاكتفاء بالخطابات العمومية والمواعظ الأخلاقية، لم يعد مجديا، ولم تتمكن على المستوى الواقعي هذه الخطابات العامة، من صياغة رؤية مشتركة للطرفين.. واعتقد أن جميع القوى بمستوى من المستويات، خضعت للعصب المذهبي والقاعدة الاجتماعية الخاصة، وصاغت بعض مواقفها على ضوء شبكة المصالح الخاصة.. فبدل أن تكون هذه القوى طاقة توحيدية وجامعة في الأمة، تحولت لأسباب ذاتية وموضوعية إلى جزء من حالة الانقسام المذهبي في الساحة الإسلامية.
وأعتقد أن الخروج من حالة الانقسام، تقتضي العمل على بناء حالة جديدة من التفاهم والتلاقي على قاعدة تشبيك المصالح والاستقلال في القرار السياسي بعيدا عن عمليات الاستقطاب العملي أو الدولي.. وأعتقد أن الحل الأمثل وفق المعطيات القائمة وحقائق الأرض، هو العمل على بناء تسوية سياسية بين المعارضة والنظام في سوريا.. وبدون هذه التسوية، سيستمر الدم السوري بالنزف، لأن هناك توازن دولي وإقليمي، يحول دون التدخل العسكري الخارجي، كما أنه على الصعيد الداخلي، يبدو أن قدرة كل طرف على كسر الآخر وإنهاء وجوده محدودة..
وهذا يعني استمرار القتال والتدمير، وهذا بطبيعة الحال يكلف سوريا كلها الشيء الكثير. فمن موقع حرصنا على الشعب السوري، نرى أن الحل المناسب، هو التسوية السياسية التي تضمن تحقيق الإصلاحات السياسية، وتقف عمليات القتل والمواجهات المسلحة.. والوطنية وهذا الكلام موجه للنظام والمعارضة بكل أطيافها معا، لا تساوي أن تدمر وطنك وتقتل شركاءك في الوطن والمصير..
فالوطنية السورية اليوم تقتضي من جميع القوى والأطراف، وقف عمليات القتل والتدمير والجلوس معا على طاولة واحدة، لتدارس أمر الوطن والخروج بتسويات مشتركة تنقذ الجميع من أتون التدمير المتبادل..
ومن المؤكد أن الانكشاف الأمني والسياسي لسوريا أمام التدخلات الإقليمية والدولية، يفضي إلى تعقد الأزمة، لأن لهذه التدخلات أجندة، ليست بالضرورة منسجمة ومصالح الشعب السوري..
ويبدو أن الرهان على الأجنبي على إحداث التحول الديمقراطي في سوريا، سيفجر المنطقة سياسيا وأمنيا وعسكريا في ظل اجتماع جميع الخيوط والمصالح الإقليمية والدولية في الواقع السوري.. فهذه المصالح متناقضة والإرادات متباينة، والطرف الأول الذي سيدفع ثمن هذا التناقض والتباين هو الشعب السوري..
لهذا كله فإننا نعتقد أن المصلحة الوطنية العليا لسوريا، تقتضي انجاز مصالحة وطنية حقيقية، تفضي إلى تحولات سياسية وديمقراطية حقيقية في المشهد السوري..
الشيعة.. جزء أصيل من المنظومة العربية:
رابعا: يبدو أن بعض الأطراف في الساحة العربية والإسلامية، تتعامل مع النظام العربي الرسمي القائم على إقصاء الشيعة وعدم إشراكهم الحقيقي في الحياة السياسية لأوطانهم، بوصفها ثابتة من الثوابت التي ينبغي أن لا يمسها أحد.. فالشيعة هم طيبون ومندمجون في أوطانهم، ما داموا بلا نخبة سياسية ودينية تطالب بإنصافهم وإعطاءهم حقوقهم الدينية والمدنية..
أما إذا عمل الشيعة على تنظيم أحوالهم، وصياغة خطاب سياسي لشؤونهم، وعملوا على معالجة حالات التمييز الطائفي الذي يتعرضون إليه في أكثر مناطق وبلدان تواجدهم، فإنهم بقدرة قادر، يتحولون إلى طابور خامس، ويتحركون وفق أجندة خارجية وخاضعون للنفوذ الإيراني..
وأنا هنا لا أريد أن أبرء الواقع الشيعي من بعض العيوب سواء في خياراته الثقافية أو السياسية.. ولكنني أعتقد أن الإشكالية الحقيقية تتجسد في إصرار بعض الأطراف على إدامة المعادلة القائمة التي صاغها وكرسها أساطين النظام العربي الرسمي، والذي في أحد جوانبه يعني بقاء الشيعة في أوطانهم بعيدا عن المشاركة السياسية والمدنية وعدم نيلهم حقوقهم كبقية المواطنين..
وفي سياق دهاء النظام العربي الرسمي وبالذات بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فإن النظام الرسمي عمل بطريقة أو بأخرى على التعامل مع الملفات الشيعية في كل المنطقة العربية عبر البوابة الإيرانية.. فحينما يتحركون ويطالبون بحقوقهم المشروعة، فإن إيران هي التي تحركهم.. فالشيعة في المنطقة العربية ليسوا إيرانيين، ويعتزون بأوطانهم، ويعملون بكل إمكاناتهم لرفعة أوطانهم.. ولن تتجلى هذه الحقيقة بشكل ناصع لا لبس فيه إلا مع تغيير المعادلة الطائفية التي أرسى دعائمها ومبرراتها النظام العربي الرسمي منذ زمن بعيد..
فالشيعة في كل أوطانهم العربية حقيقة اجتماعية وثقافية، ولا يصح تجاهلهم أو نكران حقوقهم العامة، أو التعامل معهم بوصفهم طارئين على الحياة والواقع العربي..
مسؤولية الأكثرية:
خامسا: إن المسئول الأول عن دمج الأقليات في أوطانها ومجتمعاتها، هي الأكثرية.. فإذا تعاملت هذه الأكثرية بكل أطيافها وتياراتها، بانفتاح ومرونة مع الأقليات وحقوقها وهمومها، فإن هذا التفاعل الإيجابي، سيفضي إلى المزيد من دمج الأقليات في محيطها الاجتماعي والوطني..
أما إذا تعاملت الأكثريات بعصبية مذهبية وبانغلاق طائفي وببث لثقافة المفاصلة والكراهية لاعتبارات عقدية وأيدلوجية تجاه الأقليات، فإن النتيجة هي المزيد من تشبث الأقليات بهويتها وخصوصيتها كخط دفاع أخير عن الذات..
من الضروري أن تنفتح الأقليات على محيطها، وتتفاعل على نحو إيجابي مع فضائها الوطني.. ولكن فعالية هذا الانفتاح، مرهون على قدرة الأكثريات على تجاوز عصبياتها، والتعامل مع الأقليات على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.. فالتمييز الطائفي الذي يتعرض إليه الشيعة العرب في أغلب مناطق وجودهم، هو يحمل الواعين والمخلصين من أبناء الأكثرية، مسؤولية العمل والنضال من أجل إنهاء كل أشكال التمييز الذي يتعرض إليه شركاءهم في الوطن لاعتبارات مذهبية..
ومن الضروري في هذا السياق القول: أن المشكلة الطائفية، ليست مشكلة خاصة بالأطراف التي تتعرض للتهميش والتمييز، وإنما هي مشكلة وطنية، ومن الضروري والواجب الأخلاقي والوطني، أن يتحمل الجميع مسؤولية العمل لتفكيك كل الحوامل التي تغذي نزعات التمييز والتهميش في كل المناطق والبلدان..
حماية الأقليات:
سادسا: معالجة مشكلات أهل السنة في البلدان والمناطق ذات الأكثرية الشيعية..
لا ريب أن أحد روافد التوترات الطائفية والمذهبية في المنطقة، يعود إلى واقع الأقليات سواء كانت سنية أم شيعية في مناطقها.. لهذا فإننا نعتقد أن معالجة مشكلات أهل السنة في البلدان والمناطق ذات الأكثرية الشيعية، يساهم في إزالة الكثير من عناصر الالتباس والتوتر، كما أنه ينسجم ومطالباتنا بالإنصاف والعدالة.. فالمجتمع الذي يطالب بالعدالة، ويناضل ضد التمييز والتهميش، ينبغي أن لا يقبل أي شكل من أشكال الظلم والتمييز يقع على أي إنسان بصرف النظر عن دينه أو مذهبه..
ونحن نعتقد أن لكل بلد خصوصيته وظروفه، ولكن نجاح أية دولة في إدارة أقلياتها على نحو صحيح وإيجابي، يساهم في تعميم النموذج الصالح، وإزالة بعض عناصر الالتباس والتوتر..
ومن هذا المنطلق نحن نرفض أي شكل من أشكال التمييز يقع على أهل السنة وبالذات في المناطق الذين يشكلون هم فيها أقلية.. فنحن مع إنصاف الجميع، ونيلهم لكل حقوقهم، والتعامل معهم بوصفهم مواطنين كاملي المواطنة في الحقوق والواجبات..
ولا ريب أن سعي الحكومات والدول التي تحكم من قبل أكثرية شيعية، إلى تحقيق العدالة والإنصاف مع الأقلية السنية، سيساهم في تطوير العلاقات السنية–الشيعية على مختلف الصعد والمستويات..
رهاب الطائفية:
سابعا: لأسباب سياسية وطائفية ومجتمعية عديدة، انتشرت في المنطقة العربية ما يمكن تسميته (شيعة فوبيا)، بحيث ازدادت عمليات التحريض التي يصل بعضها إلى حد التحقير لكل ما يمت بالشيعة من تاريخ وشخصيات وعقائد، وبرزت على السطح مقولات تبث الكراهية المذهبية، وتدعو إلى الاستئصال والمفاصلة الشعورية والعملية والاجتماعية..
فتحول الشيعة من جراء ذلك إلى عدو يجب محاربته، أو ما يشبه العدو، أو العدو المحتمل إذا استمر بعض أطرافه في خياراتهم السياسية والثقافية والوطنية.. ونحن إذ نسجل هذه الظاهرة الخطيرة التي بدأت بالبروز في المنطقة العربية، نود أن نؤكد على مسألتين أساسيتين وهما:
1- لا سبيل أمام المسلمين من سنة وشيعة، إلا التعايش والقبول بمقتضيات الاحترام المتبادل.. وإن نزعات التحريض والتحقير وصناعة العداوة الدائمة، تضر بالجميع، وتدخل المنطقة بأسرها في أجواء ومناخات كارثية على الجميع..
2- ضرورة أن يسعى أهل الاعتدال والتعايش من مختلف المواقع المذهبية والاجتماعية إلى الانفتاح والتواصل وعدم الخضوع لمقتضيات الاصطفافات الطائفية المقيتة..
وسنعمل في السطور القادمة، على توضيح تفصيلي لهاتين المسألتين:
1- الطريق إلى التعايش..
2- التواصل الوطني..
الطريق إلى التعايش:
حين الحديث عن التعايش بين مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن الواحد، فإننا حقيقة نتحدث عن قيمتين أساسيتين وهما قيمة الاختلاف وقيمة المساواة..
فينبغي أن نعترف بحقنا جميعا بالاختلاف، وهذا الاعتراف ينبغي أن لا يقود إلى التحاجز وبناء الكانتونات الاجتماعية المنعزلة عن بعضها، كما أنه ينبغي أن لا يقود إلى التعدي على الحقوق..
فالتعايش هو حصيلة بناء علاقة إيجابية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة.. وأي خلل في هذه المعادلة، يضر بحقيقة التعايش في أي مجتمع ووطن..
ومفهوم التعايش بطبيعته ومضمونه، لا يلغي التنافس أو الخلافات بين المكونات والتعبيرات والأطياف، وإنما يحدد وسائلها، ويضبط متوالياتها.. فالتعايش لا يساوي السكون والرتابة، وإنما يثبت الوسائل الإيجابية والسلمية لعملية التنافس والاختلاف، ويرفض الوسائل العنفية بكل مستوياتها لفض النزاعات أو إدارة الاختلافات والتباينات..
كما أن مفهوم التعايش، لا يرذل الاختلافات والتباينات بكل مستوياتها، وإنما يعتبرها حالة طبيعية وجزء أساسي من الوجود الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول عناوين الاختلاف والتباين، لوسيلة لامتهان كرامة المختلف أو التعدي على حقوقه الخاصة والعامة. فالتعايش كمفهوم وممارسة، لا يشرع بأي نحو من الأنحاء،لأي طرف مهما كان الاختلاف والتباين، إلى التعدي على الحقوق أو تجاوز الأصول والثوابت في التعامل مع المختلف وفق ضوابط العدالة والمناقبية الأخلاقية.. لذلك يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه [ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..
لذلك فإن خلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي الاختلاف والمساواة، هو جذر التعايش وجوهره النوعي.. فالاختلاف لا يقود إلى الظلم والافتئات، بل يؤكد قيم العدالة والمساواة.
إذا تحققت هذه المعادلة، تحقق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي والوطني.. وبدون هذه القيم والحقائق لا ينجز مفهوم التعايش في أي مجتمع وفضاء إنساني..
ووفق هذه الرؤية فإن التعايش، لا يساوي أن يتنازل أحد عن ثوابته ومقدساته، وإنما يساوي الالتزام بكل مقتضيات الاحترام والعدالة لقناعات الطرف الآخر، بصرف النظر عن موقفك الحقيقي أو العقدي منها..
وهذه ليست حفلة تكاذب أو نفاق، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بل هي جهد إنساني متواصل لتدوير الزوايا ومنع تأثير العوامل السلبية، التي توتر العلاقات بين المختلفين أو تعيدها إلى المربع الأول..
فالتعايش لا يقتضي الانشقاق أو التفلت من الثوابت أو الأصول لدى الأطراف، وإنما يقتضي الإصرار على خيار التفاهم وتوسيع المشترك وإدارة نقاط التباين وموضوعات الاختلاف بعقلية حضارية، توفر للجميع حق التعبير عن قناعاتها ووجهة نظرها، بعيدا عن الإساءة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى..
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن خيار التعايش بين مختلف الأطياف والمكونات، التي يتشكل منها المجتمع والوطن الواحد، هو من الضرورات الدينية والأخلاقية والوطنية،لأنه السبيل لضمان حقوق الجميع بدون تعدٍ وافتئات، كما أنه الإمكانية الوحيدة وفق كل الظروف والمعطيات لصيانة الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي والوطني.. ومن يبحث عن الحقائق الأخيرة بعيدا عن مفهوم التعايش ومقتضياته، فإنه يساهم في تأسيس بذور الكثير من الأزمات والكوارث الاجتماعية والسياسية.. فالمجتمعات المتعددة والتي تحتضن تنوعات عمودية وأفقية إذا صح التعبير، بحاجة إلى جهد لإدارة هذه التنوعات بعيدا عن إحن الماضي أو هواجس الخصوم..
فالاستقرار العميق في كل الأوطان والمجتمعات، هو وليد شرعي لحقائق التعايش ومتطلباته حينما تسود المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأطيافه..
وعليه فإن صناع الوعي والمعرفة والكلمة في مجتمعنا، يتحملون مسئولية عظيمة في هذا الصدد.. فهم معنيون راهنا ومستقبلا، بصناعة المعرفة التي تؤكد خيار التعايش، وتعمق أواصر التفاهم بين مختلف الأطياف.. وهذا لا يتأتى إلا باشتراكهم الفعال في محاربة كل الأفكار التي تزرع الشقاق والأحقاد بين أبناء المجتمع والوطن الواحد..
لهذا فإن خطابات التحريض والتشدد والغلو ضد المختلف في الدائرة الوطنية والاجتماعية، لا تبني تعايشا ولا تحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنها وببساطة شديدة، تؤدي إلى خلق الحواجز النفسية والاجتماعية ضد المختلف، كما تساهم في إذكاء أوار التوتر والصدام.. لهذا فإن الحديث عن التعايش، أو بالأحرى تبني هذا المفهوم وهذه المقولة، يقتضي الوقوف بحزم ضد كل مقولات التعصب والغلو والتشدد ضد المختلف.لأن الآثار الخاصة والعامة المترتبة على نزعة التعصب والغلو، كلها آثار مناقضة ومهددة إلى أسس وحقائق التعايش في الفضاء الاجتماعي..
لهذا فإن الصمت إزاء نهج التعصب والمقولات التحريضية، يعد مساهمة مباشرة وغير مباشرة في إفشال نهج التعايش في المجتمع والوطن..
وعليه فإننا نعتقد وبعمق أن التعايش هو وليد منظومة مفاهيمية واجتماعية وثقافية متكاملة. وإن من يتبنى نهج التعايش عليه أن يصيغ منظومة فكرية واجتماعية متكاملة، حتى يكون سلوكه وكل مواقفه منسجمة ومقتضيات التعايش، وحتى يتمكن من موقع الأنموذج والقدوة للتبشير بهذا الخيار، ودعوة أبناء المجتمع إلى تبني هذا النهج كنهج يحفظ حقوق الجميع، ويصون استقرارهم، ويحافظ على مكتسباتهم.. ومن الضروري أن ندرك جميعا أن نقص أو ضمور حقائق التعايش في أي مجتمع وتجربة وطنية، يساهم في تقويض مشروعات التنمية البشرية، ويزيد من الفجوات العمودية والأفقية بين مختلف التكوينات الاجتماعية مما يجعل الأرضية الوطنية مهيئة للكثير من الانقسامات والتشظيات.
وبمقدار ما نتمسك بقيمة المواطنة كوعاء حاضن لنا جميعا، بذات القدر نعيد صياغة علاقتنا بانتماءاتنا الخاصة.. فالمواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية، هي القادرة على استيعاب كل التنوعات والتعدديات.. وهي التي تحول دون انحباس أحد في انتمائه الخاص. وهذا يتطلب منا جميعا مواطنين ومؤسسات رسمية وأهلية، العمل على صياغة مشروع وطني يستهدف تعزيز قيمة المواطنة.. وإن تعزيز هذه القيمة في فضائنا الاجتماعي والوطني، يقتضي العمل على تفكيك كل الحوامل والحواضن الثقافية لظواهر التعصب والغلو والتشدد بكل مستوياتها.. لهذا فإننا مع كل مبادرة، تعزز قيمة التفاهم بين الأشخاص والأطياف، ومع كل خطوة تساهم في تدوير الزوايا الحادة بين مختلف الفرقاء..
التواصل الوطني وقضايا المستقبل:
ثمة معطيات عديدة، تدفعنا إلى القول أن التواصل الإنساني بكل صوره ومستوياته، من الضرورات القصوى في حياة الإنسان الفرد والجماعة، وهو مساحة حرية وتفاعل متبادل، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة..
لذلك فإن تطلعنا جميعا، ينبغي أن يتجه إلى ضرورة إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف التعبيرات والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصلي شامل..
وفي منظورنا وتقديرنا، أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء..
ولا تواصل فعال ودينامي، بدون تسويد قيم الحرية والنقد والتسامح.. ففي كنف الحرية وثقافة الحوار والتسامح، تذوب الفروقات والاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق..
وفي رحاب النقد البناء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتثرى مصادر التجديد والتطوير في الأمة والوطن.. من هنا فإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، يجعل وعي الاختلاف وعيا جماليا كتنوع أغصان الشجرة..
ومهمة المنابر الإعلامية في هذا الصدد، احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي.. كما أن الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة، هي أن تفتح عقولها وتوفر الاستعداد النفسي اللازم، للقبول بخطاب النقد والإبداع..
وهذا القبول لا يعني بأي حال من الأحوال، أن ننخرط في المضاربات الأيدلوجية والفكرية، بل يعني توفير الظروف الذاتية والموضوعية لترجمة المفردات الجديدة إلى حقائق شاخصة ووقائع راسخة..
ولا نعدو الصواب حين القول: أن هذه العملية بحاجة إلى تكريس قيم الحرية والعدالة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأنه إذا توفرت الحريات العامة، توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته، وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن..
ويخطئ من يتصور أن الإقصاء والنفي والنبذ، هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة وحالة الولاء إلى الوطن..
إننا نرى ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي الكفيلة بتعميق حس المواطنة الصالحة.. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز..
وحدها الحرية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة وطنه وعزته..
وأن القواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تنمية وحقائق وحدوية ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم المشتركة دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق..
لذلك فإن المطلوب، أن ننفتح على مساحات التنوع ونتواصل مع المختلفين من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من شبكة العجز والاستكانة، وتجعلنا نقتحم آفاقا جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفاهيم الحرية والنقد والتواصل والوطن..
وعلى هدى هذه العلاقة الجديدة، وذات المضامين الحضارية والإنسانية، نخلق فضائنا النقدي، ونمارس تنوعنا وتعدديتنا، ونجسد حضورنا وشهودنا..
والنقد لا يعني بأي حال من الأحوال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف، وإنما يعني استخدام إرادتنا والتعامل مع راهننا بتحولاته وتطوراته بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان..
فالنقد المنضبط بضوابط الحكمة والمصلحة العليا، من وسائل التطور والتقدم.. لذلك ينبغي أن لا نخاف من النقد أو نرذله، وإنما من الضروري التعامل الفعال والإيجابي مع عمليات النقد عن طريق الآتي:
• ثقافة جديدة:
1- من المؤكد أن تثمير النقد في عمليات التقدم الاجتماعي، بحاجة إلى ثقافة جديدة تدخل في النسيج الاجتماعي، قوامها قيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.. فالنقد يتطور ويؤتي ثماره الإيجابية، حينما تسود ثقافة تسمح للجميع بممارسة حقائقهم وقناعاتهم، وتعطيهم حق التعبير عن آرائهم وأفكارهم.. فلا فعالية للنقد، بدون ثقافة تعتني بعملية الحوار وتنبذ كل خيارات الإقصاء والنبذ والعنف.. فبمقدار تواصلنا المعرفي وحوارنا الثقافي مع الآخرين، تتجلى فعالية النقد في الفضاء الاجتماعي..
• حيوية اجتماعية:
2- لا يتطور النقد، ولا يعطي ثماره الإيجابية، إلا في فضاء اجتماعي يستوعب ضرورات النقد، ويوفر متطلبات استيعابه..
فالحيوية الاجتماعية، ووجود أطر ومؤسسات وقنوات لتداول الرأي وممارسة النقد والمراجعة والتقويم، كلها عوامل تساهم في توظيف عملية النقد والمراجعة في تقدم المجتمع ورقيه الحضاري..
لذلك فإن المطلوب من جميع الشرائح والتعبيرات الاجتماعية، أن تتحلى بسعة الصدر وحسن الظن والحكمة من أجل تثمير عملية النقد في البناء والعمران..
• حوار النخب:
3- من البديهي القول: أن المشاكل في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة للمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك أو من تخريب هذا النظام من بعد إيجاده..
وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كما هو، شريكا مختلفا مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه واعتباره حافزا على التكامل لا داعيا إلى الافتراق، وقدرة نفسية وعملية تتطلب رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بلحاظ اعتباراته ومعاييره الخاصة..
فحوار النخب من الأطر الهامة، لاستيعاب عملية النقد والمراجعة، والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج.. كما أن هذا الحوار من الخطوات الجوهرية التي تساهم في تأسيس نظام مشترك وصيغة فعالة وعملية للتنسيق والتعاون..
وجماع القول: إننا لا يمكن أن نمنع النقد والتفكير الحر، وأن أي جهد يبذل في سبيل منعهما، يدخل الجميع في متاهات ودهاليز، لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور والدخول في معارك هامشية، تشتت الطاقات، وتبعثر الجهود، وتكثف من حالات التردد وجلد الذات..
بينما المطلوب هو الإنصات الواعي لعملية النقد والتفكير الحر، واستيعاب القضايا الرئيسية المطروحة والمتداولة، وذلك لإحداث نقلة نوعية في مسيرة مجتمعنا ووطنا باتجاه أكثر حيوية وفعالية نحو التطلعات والطموحات المشروعة..
وفي الختام إن التمادي في تسعير الفتن الطائفية والمذهبية، سيدمر الأمن القومي للمنطقة، وسيدخلها في أتون الحروب الداخلية،التي لن تبقي وتذر. لهذا فإنه من أجل الأمن والاستقرار والحفاظ على الجغرافيا السياسية للمنطقة تعالوا جميعا نقف ضد الفتن الطائفية، ونحمي تنوعنا المذهبي بالقانون والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.