د. عماد عبد اللطيف سالم
يبدأ هذا التقرير الموسوم بـ “تخفيض سعر صرف الدينار العراقي، المحددات والبدائل” (الصادر عن البنك المركزي العراقي)، بالتأكيد على أنّ تخفيض قيمة العملة المحليّة DEVALUATION لهُ معنىً مختلف في بقية دول العالم، مقارنة بالعراق. فهذا “التخفيض” يعني (في بقية دول العالم): “خفض سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية مقابل عملة دولية مرجعية، بحيث يقلّ عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة من العملة الوطنية .. أمّا في حالة العراق، فيُقصد بذلك تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي .. وهو يختلف عن انخفاض سعر الصرف DEPRECIATION الخاضع لآلية العرض والطلب في السوق”!.
ماهو الفرق بين الحالتين بالضبط؟، أقسم لكم بأنّني لا أعرف ما هو الفرق، ولا عيب أبداً في هذا “الإعتراف”، فكلُّ ما تمكّنتُ من فهمه من هذه المُقدمّة الملغومة بالمفاهيم “المُعقدّة”، (و بعقل محدود الإدراك كعقلي)، هو أنّ هناك من يُطالِب البنك المركزي بـتخفيض قيمة الدينار “العراقي”، مقابل قيمة الدولار “الأمريكي” .. فهل أنّ على البنك المركزي أن يفعل ذلك ؟ الجواب هو : لا طبعاً .
هل تقبلونَ بأن يفعل البنك المركزيّ ذلك؟ الجواب هو: لا طبعاً وألفُ لا، وعلى امتداد 14 صفحة، هي الحجم الكامل للتقرير، فإنّ البنك المركزي لا يقولُ لنا ماهو دور السياسة النقدية في الظروف الحالية، ولا يُقدّم لنا أيّ عونٍ للخروج من الأزمة الكارثية التي نخوض في وحلها وسبَخها الآن .
إنّهُ يتحدث فقط (وعلى أمتداد 13 صفحة) عن “المحدّدات”، أمّا “البدائل” فلا وجود لها إلاً في النصف الثاني من الصفحة 14 (والأخيرة) من التقرير . وهذه “البدائل” من وجهة نظر البنك تتلخّص فيما يجب على “الاخرين” القيام به، وليس بما يمكن للبنك المركزي أن يفعلهُ هو أيضاً، للمساعدة على تجاوز محنة العراق الراهنة ( وليس لقيامه طبعاً، بكامل الدور).
إنّ هذا التقرير يستعرض كلّ الإخفاقات، والإختلالات البنيوية المزمنة في الإقتصاد، وسوء إدارة الملف الاقتصادي، وهذه كلّها يتحمّل وزرها “الآخرون”، وتتحمّل تبعاتها جهات أخرى كثيرة، أهمها وزارة المالية (وهي لسوء حظّها، وحدها من يعرفها عامّة الناس)، أمّا “هو”(أي البنك المركزي)، فقد قام بدوره الرئيس: تحقيق احتياطي أجنبي قدره 70 مليار دولار، والمحافظة على معدّل تضخم يتراوح بين 2.O %3.0 – (وهو أفضل من معدّل التضخم السائد في الولايات المتحدة الأمريكية) .. وكلّ هذا قد تحقّق فعلاً، ولكن دون الإشارة إلى جدوى ذلك في بلد يبلغ معدل البطالة “الرسمي” فيه 12 % (باستبعاد العمالة الناقصة) وحوالي 40% معها.
ماذا عن الدور الرئيس للسياسة الإقتصادية (و منها السياسة النقدية)، في تحقيق “المقايضة” الحسّاسة بين التضخم والبطالة في بلدٍ كالعراق؟، حسناً نحنُ لا نعرفُ شيئاً، فلماذا لم يخبرنا البنك المركزي (في تقريره هذا)، عمّا يمكن أن يفعلهُ هو، أمام عجز الجميع (عداه) عن تقديم الحلول ؟
ونلمسُ في التقرير بوضوح شيئاً من “الشعبوية”، التي ينبغي أن لا نتوسّل اليها للدفاع عن “اسلوبنا” في الحفاظ على قيمة الدينار مقابل الدولار (وليس عن سياسة سعرالصرف التي يعتمدها البنك حاليّا، على وفق التمييز الوارد في مقدمة التقرير). ففي الكثير من صفحات التقرير تتكرّر الإشارة إلى “بديهيّة” لا يختلف عليها، لا بسطاء الناس، ولا النُخَب الاقتصادية (بإمكاناتها العقلية الهائلة، وقدراتها الخارقة).
وهذا “الخطاب” الشعبوي – البديهي، هو: أيها الفقراء .. يا صغار الموظفين .. أيها المتقاعدون المساكين .. أيّها المستفيدون من إعانات الرعاية الإجتماعية الشحيحة .. إنتبِهوا .. فإنّ أيّ محاولة لإعادة النظر بسعر صرف الدينار مقابل الدولار، ستجعلكم (أنتم بالذات، وليس غيركم)، تدفعون ثمناً باهظأ جداً، وستكون عواقب ذلك عليكم ( وليس على غيركم) .. وخيمةً جداً .. بل وقد تموتونَ، أنتم وعوائلكم، من الجوع!.
عندما نكتب ما نكتبه هنا الآن، فنحنُ لسنا سُذّجاً لنُطالبَ بـ “التعويم” ، ولا “مُجرمينَ” لنطالبَ بالعمل بإسلوب “الصدمة” سيءَ الصيت ولا “خونة” لندافع عن الإنبطاح أمام “وصفات” صندوق النقد الدولي .. بل نعتقد بأنّهُ قد آن الأوان الآن، بل ومن الضروري الآن، أن يقوم البنك المركزي بـدراسة مقترحات تتعلق بضرورة العمل(تدريجياً) بسعر صرف واقعي، و”مُدار”، ومحسوب بدقة، بحيث يكون تأثير سعر الصرف “الجديد” أقلُّ ضرراً، وكُلفة، على الفئات الهشّة من السكان .. ومن البديهي أيضاً أن نعرف، أنّ لا قرار دون “كلفة”، ولا سياسة دون “عائد”.
إنّ أهم حُجج البنك المركزي في دفاعه عن “قُدسيّة” (قيمة) الدينار العراقي الحالية مقابل (قيمة)الدولار الأمريكي، هي الحُجّة (أو العامل رقم 1) الواردة في الصفحة 3 من التقرير.
هذا “العامل 1″ يتناول حالة القطاع الخارجي”ميزان المدفوعات” . ومع أن التقرير يُقِرُّ بـ “ريعية” الإقتصاد العراقي، وأُحاديّته، وإنفتاحه الشديد على الخارج، وعلى إختلاله البنيوي المزمن، والممتدّ من عقود طويلة سابقة .. إلاّ أنّهُ يؤكّد مع ذلك على أن العراق يتمتّع بـ “موقف قوي في قطاعه الخارجي”، ويظهر ذلك جليّاً من خلال ” الفائض في الحساب الجاري المُعدّل”، ومن خلال كفاية الإحتياطي الأجنبي البالغ 70 مليار دولار..
وانّ العراق “لايُعاني من عجز ميزان المدفوعات” (دون أن يقول أنّ هذا طبيعي جداً، لأن العراق مايزال يُصدّر النفط بقيمة أكبر من جميع الإستيرادات).
ومع ذلك .. ورغم كلّ ذلك، فإنّ التقرير يعرضُ لنا في الصفحة 10 منه جدولاً يتناول تأثير تخفيض “سعر صرف” الدينار مقابل الدولار، على الأبواب الرئيسة للموازنة العامة للدولة، ويفتَرِض نسبتين للتخفيض هما 10% و 20%، لبيان أثر “التخفيض” على الموازنة العامة في الحالتين.
هذا الجدول يعتمد على بيانات الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2019، وعلى بيانات مشروع الموازنة العامة “التقديرية” لعام 2020، وبالإعتماد على سعر نفط مُصَدّر قدره 56 دولار للبرميل، وعلى معدّل تصدير قدره 3.880 برميل يوميّاً ، فهل هذا معقول، ومقبول، في تقرير صادر عن أهم مؤسسة اقتصادية، هي المؤسسة الصانِعة للسياسة النقدية في العراق ؟؟
هل من المعقول، والمقبول، أن يقول التقرير (في الصفحة 4 منه) ..” أنّ الحساب الجاري المُعدّل حقّق فائضاً بنسبة 5.75 % من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2019، ويُتوقّع استمراره في سنة 2020 وما بعدها “!.
كيف تمّ بناء هذه التوقعات “المستقبليّة” بهذه الدرجة من الثقة، خلافاً لتوقعات جميع الخبراء الإقتصاديين، على امتداد هذا العالم، بما فيهم خبراء المنظمات الإقتصادية الدولية؟؟.
أخيراً لقد كان البنك المركزي، دائماً، هو المدرسة التي عمل فيها، وتخرّج منها، أفضل الخبراء، والأساتذة، وعلماء الإقتصاد في العراق، لذا نأملُ أن لا يتبرّعً أحدٌ بالدفاع عن هذا التقرير، أو مهاجمة النقد الموجّه له.
كان هذا التقرير جهداً مُخلصاً ونبيلاً للدفاع عن سياسة نقدية، كانت وستبقى، وفي جميع دول العالم، موضوعاً للجدل والخلاف الدائم بين أطرافها الرئيسة، وهم: أصحاب المصلحة، و صنّاع القرار، والقادة السياسيين، والمُهتمّين بالشأن الإقتصادي، و المُشتغلين بالسياسة الإقتصادية العامة، نحنُ لسنا في معركةٍ (أو حربٍ) مع بعضنا البعض، نحنُ ننتمي جميعاً للعراق، ونبحثُ، ونعملُ معاً، لمصلحة هذا العراق قبل أيّ إعتبار آخر.
رابط المصدر: