بقلم : منصور أبو كريم – باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
الصورة السلبية التي ظهرت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية التي اندلعت فيها المظاهرات الشعبية في كامل انحاء أمريكا على مقتل المواطن الأمريكي من أصول أفريقية “جورج فلويد” على يد الشرطة الأمريكية كانت عامل مساعد في تردي صورة أمريكا كدولة عظمي مدافعة عن حقوق الإنسان في نظر شعوب العالم.
الوضع المضطرب التي ظهرت عليها الولايات المتحدة خلال الأيام الماضية سواء لجهة سلوك أجهزة الشرطة وطريقه تعاملها مع المواطنين أو أعمال النهب والسلب للمتاجر والمحلات الكبرى من قبل المتظاهرين والعصابات الإجرامية لا تؤشر أبدأ أن هذه الأعمال تحدث في دولة عظمي مثل الولايات المتحدة بل دول من دول العالم الثالث، كما أنها لا تؤشر أنها جاءت كردة فعل حول حادثة مقتل مواطن على يد الشرطة.
من الواضح أن اتساع دائرة المظاهرات في الولايات المتحدة الأمريكية وحديتها دليل على أنها ليست موجهة فقط ضد ممارسات الشرطة ضد المواطنين من أصول أفريقية التي تتسم بالعنف، بل هي رسالة شعبية لرفض الخطاب الشعبوي الذي يمثل ترامب واليمين القومي الأمريكي، بعد أن استمت معظم خطابات وتوجهات ترامب لخدمة فئات معينة من المواطنين الأمريكيين.
الدليل على هذه المقاربة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها قتل مواطن (ذو بشرة سمراء) على يد الشرطة الأمريكية لكنها المرة الأولى التي يتم فيها انتقال التظاهرات لمعظم المدن الكبرى الأمريكية كما أنها المرة الأولى التي يتم فيها حصار البيت الأبيض، الأمر الذي أدى لاستدعاء فرق التدخل والحرس الوطني ونقل ترامب إلى المخبئ السري.
خطابات ترامب ونزعته العنصرية تمثل الوقود الأساسي لاستمرار هذه الحالة الغريبة، (حرق العلم الأمريكي أعمال تخريب وقتل، تظاهرات حاشدة في المدن الكبرى)، وهي أعمال غريبة عن الثقافة الأمريكية وتؤشر لمستوى الاحتقان الداخلي، ورفض كامل لقرارات ترامب وسلوكه السياسي.
هذه الأعمال أطلقت عليها (ثورة التنفس) أو (ثورة فلويد) نسبة إلى اسم القتيل وهي تؤشر إلى دخول الولايات المتحدة مرحلة الاضطراب السياسي والشعبي في عام الانتخابات، وهي مرحلة تشبه إلى حد بعيد المرحلة التي دخلت فيها الدول العربية مع انطلاقة ما يعرف (بالربيع العربي)، الأمر الذي قد يؤثر على نتائج الانتخابات الأمريكية، في ظل المكاسب التي يحققها المرشح الديمقراطي جو باين في استطلاعات الرأي خلال الأيام الماضية.
أحداث الفوضى والقمع الوحشي من قبل أجهزة الأمن الأمريكية واستعداء الجيش الأمريكي من قبل الرئيس ترامي تساهم بشكل جدي في التأكيد على مدى التراجع في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، وانعكاس ذلك على الصراع المحتدم بين أمريكا والصين على عالم ما بعد كورونا.
تراجع مكانة الولايات المتحدة في الساحة الدولية لم يكن وليد هذه المرحلة الحالية، بل كان امتداد لسياسات عديدة اتخذتها إدارة ترامب على المستوى الداخلي والخارجي، أفضت إلى تراجع مكانة أمريكا في الساحة الدولية نتيجة لسلوك إدارة ترامب، وهي تشبه إلى حد بعيد الوضع الذي كانت عليه صورة أمريكا خلال فترة حكم جورج بوش الأبن، حيث تراجعت صورة الولايات المتحدة نتيجة سياسات الضربات الوقائية والحروب الاستباقية التي أدت إلى احتلال العراق وأفغانستان، بداية القرن الحادي والعشرون.
رؤية ترامب تجاه العالم تقوم على أساس رفض الاستثناء الأميركي، فبعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة توسعت وتمددت أمريكا في العالم عبر آليتين: الرأسمالية التجارية والآلة العسكرية لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ترامب الذي يرفض مصطلح الاستثناء الأميركي ويراه مهينا للدول الأخرى بحسب تعبيره، دشن بداية نهاية التدخل الأميركي باسم نشر القيم الغربية.
المقصود بالسلطة الأخلاقية هي مساندة القيم الدولية لحقوق الإنسان بصفة عامة، وفي هذا الشأن تفاخرت الإدارات والشعب الأميركي، على مدار عقود التفوق والقيادة، بأن أمريكا هي أرض الحرية والفرص المتساوية للجميع، وشعار “مدينة على التل” ونموذج يحتذى عالميًا كان يتردد دائماً في خطابات الرؤساء الذين سبقوا ترامب. وتكمن أهمية تلك السلطة في تعزيز صورة الدولة الرائدة عالميًا، فمن دونها تصبح القوة فقط غير كافية لانتزاع القيادة عالميًا، وهو ما نجحت فيه الولايات المتحدة بصورة أو بأخرى على مدى عقود، لكن هذه الصورة اختلفت تمامًا مع وصول ترامب للبيت الأبيض.
مواقف وسياسات الرئيس ترامب، تفارق بمسافة كبيرة التوجهات السابقة لجميع الإدارات الأميركية السابقة، حيث أن إدارة ترامب نزعت كل ما يمت إلى “المثالية الأخلاقية” التقليدية الأميركية التي تتصور أن الولايات المتحدة تمثل “قوة كونية من أجل الخير” على حدّ تعبير أوباما الديمقراطي، أو “مدينة مضيئة على التل” على حدّ تعبير رونالد ريغان الجمهوري. وثيقة ترامب للأمن القومي لا تعرف شيئا من هذه التعبيرات “المزهرية” التي تمجّد الأخلاقيات الأميركية وأهدافها التي تصلح الكون كله.
إنها أول مرة في التاريخ الأميركي يصل شخص للسلطة في البيت الأبيض يعلن بشكل علني معارضته للسرد الأخلاقي الذي قامت عليه السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، فلم تتضمن استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب أي التزام أمريكي بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميا، على عكس استراتيجيتي الأمن القومي للرئيسين السابقين، واللتين رأتا أن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يخدم المصحة القومية الأميركية، لكن الرئيس “ترامب” تحدث عن تعزيز الولايات المتحدة تلك القيم والمبادئ من خلال الالتزام الأميركي بها؛ لتكون مصدرا لإلهام الدول الأخرى، وأن الولايات المتحدة لن تفرض قيمها على الآخرين.
وضعت أزمة المظاهرات المستمرة في المدن الأمريكية مرة أخرى إدارة ترامب أمام تحديات جديدة على المستوى الداخلي والخارجي بعد انتساع نطاق المظاهرات ووصولها لأوروبا واستخدام قضية مقتل المواطن الأمريكي في الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين على المستويات السياسية والاقتصادية، فما يحدث من أعمال قمع وحشية للمتظاهرين من قبل الشرطة الأمريكية يضع امريكا في مصافي الدول البوليسية ويجعلها غير جديرة لقيادة العالم الحر.
على المستوى الداخلي أدخل ترامب أمريكا في فوضى عارمة، فوضى سوف يصعب الخروج منها خلال الفترة المقبلة، فحالة الانقسام السياسي والرفض الشعبي المتزايد لقراراته وتصريحاته تؤشر إلى استمرار حالة الصدام وتطورها في الأيام القادمة، ما ينذر بتعقد المشهد الداخلي الأمريكي.
أما على المستوى الخارجي، فقد وصلت صورة أمريكا إلى الحضيض في عهد ترامب، بسبب الفشل الزريع الذي منيت به هذه الإدارة على المستوى الدولي نتيجة الانسحاب من العديد من الاتفاقيات الدولية والتخلي عن أصدقائها خلال جائحة كورونا، إضافة للتحديات الخارجية الناتجة تراجع صورة أمريكا نتيجة ما يحدث في المظاهرات من أعمل وعنف وسلب ونهب منظم، فكل ذلك يؤكد أن أمريكا ليست أرض الحرية ولا تصلح أن تكون مثال للحرية والعدالة والديمقراطية في العالم ولا يجب أن تكون منظر لها، وهذا يؤكد أن فكرة التنظير للديمقراطية وحقوق الإنسان خلال العقود الماضية كانت مجرد وسيلة للتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت دعاوي حقوق الإنسان التي يتم انتهاكها أمام العالم.
رابط المصدر: