العلاقات الاسرائيلية مع دولة جنوب السودان وتداعياتها على الأمن القومي العربي

اعداد : م. م حسناء رياض عباس  – ماجستير في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية ، كلية العلوم السياسية –الجامعة المستنصرية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة :

حاولت (إسرائيل) أن تضع لها دور فاعل في القارة الافريقية ،لأن  المنطقة ذو اهمية استراتيجية، فسارعت بمد جسور التعاون مع دول المنطقة للحصول على فوائد اقتصادية وسياسية واستراتيجية،  وانطلاقاً من إدراك (إسرائيل) لأهمية المنطقة فقد رسم ساستها استراتيجية تعتمد على أكثر من وسيلة دبلوماسية، واقتصادية وثقافية ، فضلا عن التعاون العسكري، وقد لاقت توجهات (إسرائيل) بترحيب ودعم الولايات المتحدة؛ لوجود مصالح مشتركة بينهما في المنطقة نفسها، لذا اكتسبت دولة جنوب السودان أهمية كبيرة في الاستراتيجية (الإسرائيلية)، وذلك لقربها من منابع نهر النيل والذي تسعى (إسرائيل) للاستحواذ عليه، فقد استثمرت (إسرائيل) حالة التنافر والصراع الدائر بين الحكومة السودانية و(الحركة المسلحة) في الجنوب  آنذاك ،من أجل تعميق حدة ذلك الصراع عن طريق اتباع استراتيجيتها المعروفة بـ(شد الاطراف وبترها) التي وضعها نخبة من ابرز المفكرين في حقبة الخمسينات، و التي على أساسها سعت (إسرائيل) إلى إذكاء الصراع في المنطقة عن طريق اقناع الجنوبيين بأن صراعهم يعد مصيرياً، وهو يدور بين شمال عربي مسلم محتل، وجنوب زنجي مسيحي، وهذا يعني أن (إسرائيل) اعطت الصراع الدائر في جنوب السودان بعداً حضارياً حينما صورت الحرب في الجنوب على أنها حرب بين الحضارة العربية والحضارة الأفريقية بهدف زعزعة الثقة بين العرب والافارقة، وتعميق الفجوة بين الشمال والجنوب وصولاً الى هدف التفتيت ومن ثم الانفصال، وعملت (إسرائيل) على دعم انفصال جنوب السودان عبر أدوات مختلفة منها أداة تقديم المعونات الصحية والإنسانية ، والمعونات العسكرية والاستخباراتية ، أو عبر دعم ناشطين جنوبيين من خلال الالتقاء بهم مباشرة ،أو عبر سفارات الدول المجاورة  للسودان ولا سيما أثيوبيا، وقد كانت (إسرائيل) أول دولة تبادر بالاعتراف بجنوب السودان بعد الانفصال، وساهمت بشكل كبير في الترويج لهذا الانفصال، حتى تستطيع السيطرة على تلك المنطقة المهمة في حوض نهر النيل، شهدت العلاقات (الإسرائيلية) الجنوب السودانية تنامى وتطوراً ملحوظاً عقب الانفصال مباشرة، وذلك من خلال توقيع عدد من الاتفاقيات للتعاون بين الدولتين في المجالات المختلفة، وتبادل التمثيل الدبلوماسي ،وأن خطورة هذا الأمر تمتد إلى  تهديد الأمن القومي العربي  .

مشكلة الدراسة : تحاول الدراسة استعراض تطور العلاقات الإسرائيلية مع دولة جنوب السودان ، وأسبابها، وكيف تستفيد منها إسرائيل لأقصى حدّ لخدمة مصالحها الاستراتيجية ، عبر الاجابة عن التساؤلات  الآتية ، ما هو المسار التطوري  للعلاقات الإسرائيلية  ودولة جنوب السودان؟  وماهي مجالات التعاون الثنائي بينهما ؟ ،  وماهي تداعياتها  على الأمن القومي العربي؟.

فرضية الدراسة :تنطلق الدراسة  من فرضية  مفادها( أن الموقع الجغرافي المتميز لدولة جنوب السودان الذي يربط  الشمال الافريقي المسلم  مع الجنوب الافريقي  المسيحي، فضلا عن موقعها على نهر النيل جعلها تكتسب اهمية في الاستراتيجية الإسرائيلية  التي تهدف الى تحقيق مصالها في الاستحواذ على مياه حوض النيل ، فضلا عن تحقيق اهدافها في تجزئة الدول العربية إلى دول صغيرة متنافرة ،عبر استثمار وتعميق حدة الصراع والتنافر عبر اتباع استراتيجيتها المعروفة بـ(شد الاطراف وبترها ) تناغما مع السياسة الأمريكية في المنطقة المسماة بـ(استراتيجية الفوضى الخلاقة) لتفتيت المنطقة العربية وإضعافها.

منهجية الدراسة:  في هذا تم الاستعانة بالمنهج  التاريخي لإعطاء لمحة تاريخية عن تطور العلاقات بين إسرائيل والحركة المسلحة في جنوب السودان حتى وصولها إلى  الانفصال وإقامة الدولة ، والمنهج الوصفي والتحليلي وذلك عبر جمع المعلومات والحقائق  لإعطاء صورة عن الأهداف والمصالح الإسرائيلية في دولة جنوب السودان .

وتأسيسا على ما تقدم توزعت  الدراسة على  مبحثين فضلا عن المقدمة والخاتمة ، فقد تناول المبحث الاول : لمحة تاريخية عن تطور العلاقات بين إسرائيل ودولة جنوب السودان ، اما المبحث الثاني فقد تناول تداعيات العلاقات الإسرائيلية مع دولة جنوب السودان على الأمن القومي المصري .

المبحث الاول : المسار التاريخي لتطور العلاقات الإسرائيلية مع  دولة جنوب السودان

المطلب الاول :  العلاقات الاسرائيلية مع دولة جنوب السودان قبل الانفصال

إن العلاقات بين  “‘إسرائيل ” ودولة جنوب السودان  ليست جديدة ، وتاريخها الحقيقي يعود إلى نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي ، بعد اندلاع التمرد في مدينة (توريت ) جنوب السودان عام 1958، إذ اهتمت (إسرائيل) بتقديم  المساعدات الانسانية ( الادوية والمواد الغذائية والاطباء ) وتقديم الخدمات الى النازحين الجنوبيين عبر الحدود السودانية  الى اثيوبيا الذين هربوا من مخاطر الحرب، وفي هذه المرحلة بدأت المحاولات الاسرائيلية لاستثمار التباين  القبلي في جنوب السودان ، فضلا عن استثمار  حالة التنافر والصراع  الدائر بين شمال السودان وجنوبه ، لتعمل على  تعميق حدة ذلك الصراع  ومن ثم دعم توجه الجنوب  نحو الانفصال ،ومن هنا  كانت بداية الاتصال (الإسرائيلي)  مع عناصر تمثل الزعامة   لقبائل  جنوب السودان مثل “جوزيف لا قو”  قائد حركة (الانيانيا)،  وتولى القيام  بهذه  الاتصالات  من الاراضي الاوغندية   العقيد “باروخ بار سيفر”  وعدد من أجهزة  الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت تعمل في اوغندا  ، وفي هذه المرحلة تبلورت  قناعة لدى الحكومة  الإسرائيلية  بأن تعميق الصراع  في جنوب السودان  هو الوسيلة الفعالة  لتوريط السودان  في مشكلات  لا تترك له فرصة  لدعم مصر  أو مساندتها  في صراعها  ضد إسرائيل (1)  .

ومنذ بداية عقد الستينيات من القرن العشرين أتخذ الدور (الإسرائيلي) في جنوب السودان أسلوب الاتجاه العملي، إذ استغلت (إسرائيل) بعض دول الجوار ومنها(أوغندا ) التي تحولت منذ عام 1962 إلى قاعدة لإيصال الاسلحة والاعتدة إلى(الحركات المسلحة) في جنوب السودان والتي كان يشرف عليها عناصر من الموساد(الإسرائيلي) وجناح الاستخبارات العسكرية، كما تحولت إثيوبيا هي الاخرى الى أكبر قاعدة لتوصيل المعونات العسكرية ووسائل الدعم إلى (الحركات المسلحة) في جنوب السودان، فضلا عن تدريب عناصر من قادة الحركة المسلحة على فنون الحرب والقتال  ، وهكذا فقد أخذت الاسلحة والمعدات تتدفق إلى الحركات الجنوبية في السودان من عدة قواعد اساسية في الدول الأفريقية المحيطة بالسودان وبأشراف عدد كبير من الضباط والمستشارين (الإسرائيليين )،و معظمها كانت من الاسلحة الروسية  الخفيفة التي غنمتها إسرائيل  من الجيش المصري  اثناء العدوان  الثلاثي على مصر عام 1956، فضلا عن  الرشاش الشهير الاسرائيلي (العوزي)(2)  .

ومع تسلم (أوري لوبراني) منصب السفير (الإسرائيلي) في اوغندا (1965-1966)، ثم منصب سفير (لإسرائيل ) في إثيوبيا (1967-1972) تطور الدعم (الإسرائيلي) إلى الحركات الجنوبية في السودان ليتخذ افاقاً جديدة، من بينها انتقال ضباط وجنود من الوحدات  الاسرائيلية الخاصة (المظليين) لتدريب (الحركات المسلحة) في جنوب السودان والمشاركة معهم في المعارك ، فضلاً عن قيام (إسرائيل) بأنشاء مدرسة لضباط المشاة في (ونجي –كابول ) في الجليل الفلسطيني لتدريب الكوادر العسكرية لقيادة الحركة المسلحة في جنوب السودان، إذ تشير بعض المصادر إلى أن أكثر من(2000) عنصر من الحركة المسلحة في جنوب السودان، قد تلقوا تدريباتهم في (إسرائيل)، ومنهم العقيد (جوزيف لاقو ) زعيم حركة (الانيانيا) والذي بقي هناك لمدة (6)اشهر تلقي التدريبات المكثفة على فنون القتال والقيادة، ونتيجة لذلك الدعم العسكري الواسع تنظيماً وتسليحاً واعداداً ، تمكنت الدوائر (الإسرائيلية ) وبمساندة الاطراف الإقليمية والدولية المعادية للسودان من توسيع نطاق الحرب في الجنوب، وتثبيت دعائم (الحركات المسلحة) وارساء مقومات استمراريتها وقد استمر الدعم العسكري الاسرائيلي حتى عام 1972 عندما تم توقيع اتفاق السلام  في اديس ابابا بين شمال السودان وجنوبه  ، ونتيجة لذلك فقد انحسر الدعم الاسرائيلي لجنوب السودان، ولاسيما  بعد قطع الدول الافريقية علاقتها مع اسرائيل بعد حرب تشرين الاول عام 1973  (3) .

ومع ذلك تمكنت (إسرائيل) خلال حقبة الثمانينات بإعادة نشاطها وبقوة بعد عودة النزاع في جنوب السودان، وذلك من خلال تقديم الدعم الى حركات المعارضة عبر وسائل وإجراءات عدة منها ارسال الخبراء والمسؤولين عن الشؤون العربية والأفريقية لتولي عملية الاتصال بزعماء(الحركات المسلحة) في جنوب السودان، فضلاً عن ارسال الاسلحة والمعدات العسكرية واستقبال عناصر من (الحركات المسلحة) لتلقي التدريب في (إسرائيل) على حرب العصابات، ففي عام 1989 استقبلت (إسرائيل) زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق) والذي طالبها بضرورة تكثيف دعمها لحركة التمرد من خلال قيامها بتدريب عدد من الطيارين على قيادة المقاتلات الخفيفة لشن هجمات خاطفة على مراكز الجيش السوداني المتمركز في الجنوب، كما قدمت (إسرائيل) المساعدات المالية التي وصلت إلى (500) مليون دولار، كان يتم تغطيتها من خزانة وكالة المخابرات الأمريكية وبموجب اتفاق سري مع أجهزة الاستخبارات (الإسرائيلية) في نطاق التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الامريكية (4).

فقد أسهم الدعم (الإسرائيلي) للحركة الشعبية لتحرير السودان في انتقال مشكلة جنوب السودان من إطارها المحلي إلى الإطار الإقليمي والدولي، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الاستقرار السياسي الداخلي للسودان، وبالتالي اضعاف مواقفه الدولية بشكل عام واتجاه (إسرائيل) بشكل خاص، ولا سيما أن (إسرائيل) عمدت إلى تقديم المزيد من الدعم للحركة الشعبية في جنوب السودان من خلال تدريب بعض قيادات الحركة على الطيران بهدف استخدامهم ضد القوات الحكومية المتمركزة في الجنوب، فضلاً عن تزويد هذه الحركة بصواريخ ومدافع مضادة للطائرات واسلحة متطورة، والاستمرار بتقديم الدعم السياسي لها، وقد انطلقت (إسرائيل) باستراتيجيتها هذه من رغبتها في دفع الحكومة السودانية باتجاه الامتناع عن مناهضة الدور (الإسرائيلي) في المنطقة الأفريقية، والحد من تصدير توجهاتها الإسلامية إلى حليفتها ارتيريا التي اصبحت بفعل المؤثرات الإقليمية دولة ذات تأثير سلبي في الأمن العربي ولا سيما الأمن السوداني (5) .

ومع بداية التسعينات تكشف النشاط (الإسرائيلي) في دعم (الحركات المسلحة) في جنوب السودان، إذ استغلت (إسرائيل) الأحداث التي شهدتها المنطقة ومنها الحرب الأمريكية على العراق، وسقوط نظام الحكم الاثيوبي، ودخول القوات الأمريكية إلى أرض الصومال بدعوى التدخل الإنساني، وبداية استقلال إرتيريا عن أثيوبيا لتسريع وتيرة التدخل (الإسرائيلي) لدعم النزاع في جنوب السودان، ولا سيما بعد أن ارتبطت الحركة الشعبية لتحرير السودان بعلاقات وثيقة مع(إسرائيل)، وبتنسيق من اثيوبيا واوغندا، إذ أخذت (إسرائيل) تمد الحركة بالأسلحة والمعدات العسكرية ومنها الصواريخ والمدافع الثقيلة ووسائل حديثة ومتطورة للتجسس والرصد، فضلاً عن الدور الذي مارسه الخبراء والمستشارين في تقديم المعلومات العسكرية، والتدريب إلى أعضاء الحركة، إذ يوجد في اثيوبيا أكثر من (300) خبير (إسرائيلي) يشرفون على تدريب القوات الاثيوبية وقوات الحركة الشعبية في جنوب السودان، فضلاً عن الزيارات المتكررة لزعيم الحركة الشعبية (جون قرنق) إلى (تل ابيب)، ففي العام 1990 يذكر أن (جون قرنق) زار (تل ابيب) ثلاث مرات والتقى مع قادة الجيش (الإسرائيلي) (6) ، فقد طلب “جون قرنق”  خلال اجتماعه  بالسفير الاسرائيلي   بتزويده  بالقذائف الصاروخية  وقذائف الهاون  والمدافع  الرشاشة ، وشاحنات  عسكرية وجنود  ومنح مالية  بملايين الدولارات ، وكان الهدف من ذلك لاسترداد  بعض المدن الجنوبية والقواعد التي سقطت بيد الجيش السوداني ، ومن أجل تعزيز  موقفه التفاوضي  قبل استئناف  محادثات السلام  السودانية التي ترعاها  نيجيريا ، وهناك أقامت (إسرائيل ) جسر جوي إلى مناطق الحركات المسلحة وقدمت لهم انواع الاسلحة العسكرية ، وكما أوفدت الخبراء العسكريين لتدريبهم ميدانياً، إذ تشير بعض المصادر إلى أن (إسرائيل) دربت في العام 1995 أكثر من سبعة عشر الف  من عناصر (الحركات المسلحة) في جنوب السودان(7)    .

وبعد عام 2001 اتخذت (إسرائيل) قراراً بتطوير مستوى الدعم العسكري لحركة المعارضة في جنوب السودان من خلال وضع مجموعة من الضباط في الجيش (الإسرائيلي) تحت تصرف قيادة حركة المعارضة بزعامة (جون قرنق) لتدريب الجيش الشعبي لتحرير السودان وتسليحه، تزامناً مع طرح مطالب الحركة الانفصالية إعلامياً لحشد تأييد الرأي العالمي تحت عنوان (مجموعة بشرية تعاني الاضطهاد والقمع من جانب سلطة إسلامية متزمتة، فيما تبنى اللوبي (الإسرائيلي) في الولايات المتحدة الأمريكية قضية الجنوب السوداني بما أسفر عن ضم السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتطبيق الحظر الاقتصادي،  كما أسهمت الجاليات اليهودية في دول أخرى مثل( بريطانيا، فرنسا، كندا ) في الترويج لقضية الجنوب على أنها إشكالية (تحرر وانعتاق) (8).

 وفى الواقع، هناك العديد من الأسباب التي دفعت الحركة  المسلحة في جنوب السودان إلى تلقى الدعم من الجانب الإسرائيلي منها: أولا، الحاجة إلى حليف استراتيجي يمد الحركة بالأسلحة والاموال اللازم. من اجل تحقيق أهدافها التي تسعى إليها وعلى رأسها الانفصال وإقامة دولة جديدة في جنوب السودان. ثانيا، إحساس الجنوب بالظلم والقهر نتيجة لنمط التنمية غير المتوازن بين الشمال والجنوب، وتركز التنمية فيما يعرف بالمثلث النيلي دون الجنوب. ثالثا، قيام إسرائيل بتقديم نفسها كحليف استراتيجي لحركة التمرد في الجنوب، ولاسيما مع إغراء الحركة بالدعم المالي والسياسي والعسكري من قبل الجانب الإسرائيلي. رابعا، ساهمت إسرائيل في تحريك دعوى الانفصال من جانب حركة التمرد، وذلك من خلال اتفاقيات السلام الشامل في السودان لعام 2005. إذ أعطت اتفاقيات نيفاشا 2005، الحق للجنوب في تقرير مصيره بعد 6 سنوات، وقد ساهمت إسرائيل بشكل كبير في جعل المسألة تتوجه نحو الانفصال وتكوين دولة جديدة، فقد استقبلت إسرائيل على أرضها مؤيدي الانفصال من الجنوبيين، وفى يوم الانفصال أقامت حفلاً كبيراً حضره 2500 جنوبي، وأعلن فيه عن البدء في إنشاء جيش للجنوب، مما يدل دلالة واضحة  العلاقات المتينة بين إسرائيل وجنوب السودان وعلى الدور الإسرائيلي القوى في عملية الانفصال(9) .

 المطلب الثاني : تطور العلاقات الاسرائيلية مع دولة جنوب السودان بعد الانفصال  .

عقب إعلان استقلال دولة جنوب السودان في 9 تموز 2011، تطورت العلاقات بين (إسرائيل ) ودولة جنوب السودان واتخذت طابعاً رسمياً بعد موجة السرية التي احاطت بها، إذ أعلنت (اسرائيل) عن إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة الوليدة في 28 تموز من العام 2011، وبذلك أصبحت الدولة الرابعة من ناحية التمثيل الدبلوماسي في جنوب السودان بعد (السودان، مصر، الولايات المتحدة الامريكية )، ثم أعقب ذلك تبادل الزيارات على المستوى الرسمي بين الدولتين، إذ نظمت أول زيارة رسمية برئاسة (داني دانوب ) نائب رئيس الكنيست إلى جوبا في 29 آب 2011، وقد كان من أبرز نتائج تلك الزيارة الإعلان عن فتح سفارة لجنوب السودان في (تل ابيب)، كما قام الرئيس(سيلفا كير ميارديت ) بزيارة إلى( تل أبيب) في 20 ايلول من العام 2011، والتي وصفها الجانب (الإسرائيلي) بالزيارة التاريخية،   إذ أنها أعطت قفة نوعية  في تطور العلاقات بين الدولتين ، وقد التقى (سيلفا كير ) خلالها برئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) ، والرئيس الإسرائيلي (شمعون بيريس) ، ووزير الخارجية (أفيجدور ليبرمان)  ووزير الدفاع (إيهود باراك) ، وقد عززت تلك الزيارة  القناعات الخاصة  بالأبعاد الاستراتيجية التي تنطوي عليها العلاقات بين (جوبا) و(تل أبيب) ، وقد عُبر عنها (سيلفا كير) بقوله “وقفتم إلى جانبنا على طول الطريق ، ولولا هذا الدعم لما قامت لنا قائمة” ، وقد جاء ذلك تعليقاُ  على قول الرئيس الإسرائيلي ، فقد تحدث عن العلاقات التاريخية لإسرائيل بقادة التمرد الجنوبي ، الامر الذي مثل كشفاُ لستار  العلاقات السرية بين إسرائيل وحركات التمرد في جنوب السودان(10) ،كما قام (أفيجدور ليبرمان ) وزير الخارجية الاسرائيلي  بزيارة إلى جوبا في شهر ايلول من العام 2012 ضمن جولة شملت خمس دول افريقية ،  ويمكن القول أن الهدف من هذه الزيارة هو تطويق جهود مصر في تحسين علاقاتها بالدول الأفريقية بعد ثورة 25 يناير 2011، واستغلال ملف النيل، إذ يبدي (ليبرمان)  اهتماماُ خاصاً بهذا الملف ، ويرى أنه يمكن الضغط  على مصر بشده من خلاله ، لذلك سارعت (إسرائيل ) بتقديم حزمة من المساعدات إلى دول حوض النيل، ولا سيما دولة جنوب السودان في مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية واستثمارية (11).

ومن هنا يمكن القول إنّ العلاقة بين جوبا و(تل أبيب) قد اتخذت منحى آخر من خلال فتح أطر رسمية للتعاون المختلفة بين البلدين، وذلك عقب زيارة (سيلفا كير) إلى إسرائيل ، اتجهت تل أبيب إلى دفع  العلاقات مع جوبا  وجعلها أكثر انسيابية، فقامت بتعيين أحد اكبر الخبراء الإسرائيليين  في الشؤون السودانية ، فضلا عن اتقانه اللغة العربية وعدة لهجات سودانية ، وهو السفير “حاييم كورين ” كأول سفير لها في دولة جنوب السودان في  10 كانون الاول من العام 2012، كما عمل هذا السفير مدرساً لمدة ثلاثة سنوات  في كلية الأمن الوطني  التابعة لجهاز الاستخبارات  الخارجية الإسرائيلية ، وقد اثار اختياره  العديد من علامات الاستفهام  والريبة معاً(12) .

المطلب الثالث :  مجالات التعاون  في العلاقات الإسرائيلية مع دولة جنوب السودان

يمكن حصر اطر التعاون بين البلدين في :

اولاً- التعاون الاستراتيجي: عبر (سيلفا كير ميارديت ) رئيس دولة جنوب السودان عن رغبته في أن تقيم بلاده علاقات صداقة استراتيجية مع (إسرائيل)، ترقى الى مستوى التحالف الاستراتيجي ذي المضامين المختلفة (العسكرية، والأمنية، والسياسية )، وذلك بشكل يساعد الدولة الوليدة في مواجهة المخاطر التي يمكن أن تهددها، ولقد أثارت مثل هذه التوجهات هواجس بعض الدول المجاورة، مما حدا بدولة جنوب السودان إلى ارسال تطمينات كان جوهرها أنّ العلاقات مع (إسرائيل) لن تكون على حساب دول الجوار، لا سيما دولتي مصر والسودان، وعلى الجانب الآخر لم تخف (تل أبيب) من تأييدها القوي، وبل رغبتها في بلورة تحالف استراتيجي مع جنوب السودان في إطار استراتيجيتها الجديدة في إفريقيا، تمثلت خطوطها العريضة في إنشاء تجمع افريقي تحت القيادة الإسرائيلية يضم كل ( كينيا، اوغندا، واثيوبيا، وجنوب السودان ) (13) ، فضلاً عن ذلك فإن هذا التحالف يهدف إلى إقامة حزام ضد الدول العربية التي تشهد صعود التيارات الإسلامية لنظم الحكم فيها بعد اندلاع ما سمي بحركات التغيير العربي ، ويتناغم ذلك مع المشروع الأمريكي (القرن الافريقي الكبير) (14).

وهكذا فانّ التحالف الاستراتيجي مع دولة جنوب السودان، سيسمح لإسرائيل بامتلاك قاعدة، ونقطة ارتكاز تقنية للطائرات المقاتلة الإسرائيلية كي لا تكون مجبرة على القيام بمهمات بعيدة عن إسرائيل، فإسرائيل ترغب في تعزيز دفاعها وأمنها القومي قبل كل شيء، إذ إنّ الأسلحة التي تصل إلى حركة (حماس) في قطاع غزة تمر عبر السودان، أو الأنفاق والممرات الموجودة في منطقة (سيناء) المصرية، ويكون من السهل على سلاح الجو الإسرائيلي تدمير هذه الأهداف والقوافل انطلاقا من جنوب السودان، كما فعلت ذلك من قبل في شهري نوفمبر وديسمبر من العام 2011م، عندما دمرت الصواريخ والأسلحة والعتاد الذاهب إلى حركة حماس، تلك الأسلحة سواء أكانت إيرانية الصنع، أو الروسية والصينية (15) .

ثانيا –التعاون الأمني والعسكري: يمثل التعاون الأمني والعسكري أمراً ضرورياً بالنسبة لجنوب السودان، نظراً لرغبتها في بناء جيش نظامي قوي يكون عماده جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولما كانت (إسرائيل) لديها من الخبرة ما يكفي في هذا المجال، فقد تم الاتفاق على الشروع في عملية البناء وتوفير التدريب اللازم لهذا الجيش وتطوير سياسته الدفاعية وتعزيز قدرته التسليحية، ومن هنا فقد أسند (لإسرائيل) القيام ببعض المهام مثل بناء ثكنات ومستشفيات عسكرية، وإنشاء مركز لبحوث الالغام في مدينة جوبا، ونصب أبراج للمراقبة الحدودية، وإنشاء قاعدة جوية في منطقة (فلج) بالجنوب بهدف تدريب الطيارين الحربيين الجنوبيين، وفي إطار عمليات التسليح، قدمت (إسرائيل) شحنة من الاسلحة للجنوب شملت أسلحة للمدفعية وأجهزة للرصد والاستشعار الحراري (16) ، وأن التعاون الأمني والعسكري بين جوبا و(تل أبيب)، سوف يصب بدرجة كبيرة في مصلحة (إسرائيل)، لأنه سيمكنها من الحصول على معلومات أمنية دقيقة عن أوضاع المنطقة، ومن ثمّ الاستعداد لمواجهة المخاطر والتهديدات المحتملة الموجهة لها من داخل القارة الأفريقية أو خارجها، وقد سبق  وإنها تمكنت من شن أربع غارات خلال الأعوام الماضية على قوافل عسكرية سودانية محملة بالأسلحة والمقاتلين، فضلا عن  أنها أقامت عدة قواعد عسكرية ضد الدول العربية، ومنها: قاعدة بحرية في ميناء (مصوع) عند مدخل البحر الأحمر، فضلا عن القواعد الجوية في: أثيوبيا، وكينيا، واريتريا، وتشاد، وثلاثة مطارات حديثة في (تشاد) هي: مطار بحيرة (ايرو)، ومطار (الزاكومة)، ومطار (ماقور) من أجل مراقبة الحدود الليبية-السودانية  (17) ، وسيكون  هذا الأمر أكثر خطورة على الأمن القومي المصري، إذ تمكنت (إسرائيل) بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية من أن يكون لها تواجد عسكري في جنوب السودان (18)  .

ثالثا- التعاون الاقتصادي : تزخر  جنوب السودان  بالعديد من الموارد النفطية والتعدينية ،ومن هنا فقد سارعت (إسرائيل ) ببناء علاقات اقتصادية واسعة مع جوبا، إذ قام عدد من رجال الاعمال (الاسرائيليين) بزيارة جوبا عقب الانفصال، وقد أعقب تلك الزيارة بدء الشركات (الإسرائيلية) في ممارسة اعمالها بالفعل في الجنوب في مجالات البنية التحتية  مثل شركة (سوليه بونيه) للمقاولات الصناعية برصف الطرق في عدة مناطق من العاصمة ، كما تعهدت شركات (إسرائيلية) بإنشاء محطة لتنقية المياه بين النيل الأزرق والدولة الاثيوبية، وقد شملت مجالات التعاون المجالات الزراعية والتكنولوجية وقطاع التعدين والكهرباء ،فقد تم توقيع اتفاقية بين البلدين في تل أبيب لتزويد (إسرائيل) بنفط الجنوب، أذ تم الاتفاق على نقل نفط الجنوب إلى (إسرائيل) من أجل تكريره في مقابل نقل المياه إلى (تل أبيب) (19)  .

ويعد انفصال جنوب السودان وقيام دولة مستقلة فيها بمثابة الحلم الذي ظل يراود قادة الكيان الصهيوني لعقود طويلة ،ولاسيما وأنهم يحلمون بوجود كيانات صغيرة تكون أقرب لهم وتقف على مسافة واحدة معهم من العداء والخلاف مع العرب والمسلمين، وكانت إسرائيل بطبيعة الحال أول من اعترف بهذه الدولة؛ لأنهَّا تأمل الارتباط بشكل وثيق معها، وليس هناك شك في أن هذه الدولة الجديدة وعلاقاتها المتوقعة مع الكيان الصهيوني يحمل في طياته أبعاد ودلالات استراتيجية تكون خطراً حقيقياً يهدد الأمن القومي العربي، ولاسيما مصر والسودان (20) .

ومن ثم فإن إقامة علاقات قوية مع جنوب السودان من شأنه أن يحقق مكاسب عديدة لإسرائيل سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً والتي سبق لها وأن استعانت جنوب السودان بها في الماضي، وتهدف إسرائيل من ذلك ان تكون قوة ضاربة سياسياً، واقتصادياً في المنطقة الى جانب بناء علاقات مع دول منابع حوض النيل لحل مشكلة المياه بالنسبة لها (21)  .

في المقابل تسعى دولة جنوب السودان إلى تحقيق العديد من المصالح والأهداف عبر توجهها نحو تعزيز العلاقات مع إسرائيل، فمن ناحية، يمكن التقدير بأن هذه الدولة الوليدة معنيّة بإقامة تحالف دولي، بمضامين استراتيجية، عسكرية وأمنية وسياسية، مع بعض القوى الإقليمية القوية بشكل يساعدها في مواجهة المخاطر التي يمكن أن تهددها، ولاسيما أنها تحاذي دولاً أفريقية لا تربطها بها علاقات ودية، وربما تنشأ نزاعات معها في المستقبل. ويبدو أن إسرائيل هي الدولة المفضلة لدى جنوب السودان لهذا الغرض لتكون دولة حليفة، لا سيما بفعل “ثقلها الدولي”، ممثلاً بعلاقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وثانياً بفضل ما تملكه من خبرات وأسلحة حديثة ، ومن ناحية أخرى تهدف دولة الجنوب إلى الاستفادة من الخبرات الإسرائيلية في مجالات الزراعة والبحث العلمي من أجل تعزيز فرص النمو الاقتصادي لديها، خاصة أنها تعد من أكثر دول العالم فقراً، وتحتاج إلى الدعم والمساندة من دول العالم كافة لترسيخ أركان الدولة الوليدة.

ويمكن القول ، إن زيارة رئيس دولة جنوب السودان إلى إسرائيل وما أسفرت عنه من نتائج تشير إلى أن مستقبل العلاقات بين الجانبين سيكون أكثر تعاوناً، وربما تصبح دولة جنوب السودان خلال وقت قصير قوة إقليمية فاعلة وحليفاً مهماً لإسرائيل والغرب. ورغم ما قد يثيره ذلك من تحفظات، فإنه يشير إلى ضرورة اتخاذ خطوات إيجابية من جانب الدول العربية لاحتضان الدولة الوليدة وتعزيز العلاقات معها لتكون قوة داعمة للعرب وقضاياهم وليس مصدراً إضافياً للتهديد.

المبحث الثاني : تداعيات العلاقات الإسرائيلية مع دولة جنوب السودان على الأمن القومي العربي

أن التغلغل الاسرائيلي  في القارة الافريقية عامة ، والسودان بشكل خاص ، له تداعياته الاستراتيجية  الخطيرة على الأمن القومي  العربي، وفي القلب منه الأمن القومي  المصري ، فالتحرك الإسرائيلي  في الدول الافريقية المحيطة  بمصر يتم عبر  ما يعرف  باستراتيجية  شد الاطراف ، التي تهدف بالأساس  إلى زعزعة  منظومة  الأمن القومي  المصري  في دائرته  النيلية وحرمان مصر من أي نفوذ داخل القارة الافريقية ، فضلا عن إسرائيل تحاول دائماً استغلال وتعميق الخلافات  العربية مع بعض الدول الافريقية ، وتهديد أمن الدول العربية  المعتمدة  على نهر النيل  بمحاولة زيادة نفوذها  في الدول المتحكمة  في مياه النيل من منابعه ، مع التركيز على إقامة  مشاريع زراعية  تعتمد على سحب المياه  من بحيرة فكتوريا ، ومن في هذا المبحث سوف يتم التطرق إلى اهم  عناصر التهديد الإسرائيلي للأمن القومي العربي عبر المطالب الاتية :

المطلب الاول : اختراق  النظم الأمنية  والإقليمية الخاصة بالقرن الافريقي : شكلت  منطقة القرن الافريقي أهمية في السياسة الخارجية (الإسرائيلية) ، لما تشكله هذه المنطقة  من أهمية قصوى  في الحفاظ على منظومة الأمن القومي(الإسرائيلي)  ومصالحها الاستراتيجية، نظراً للارتباط الوثيق لمنطقة القرن الأفريقي  الوثيق بالصراع العربي (الإسرائيلي) ، ويرجع  الاهتمام (الإسرائيلي ) بمنطقة القرن الافريقي  بصفته أهم موقع استراتيجي أمني منذ قيام (إسرائيل)  في قلب المنطقة العربية ،إذ تدخل المنطقة  فيما يسمى بالمجال الحيوي الاستراتيجي (لإسرائيل) ، طبقا لما حدده رئيس الوزراء  (الإسرائيلي)  الاسبق  (أرئيل شارون)  أمام  لجنة الشؤون الخارجية والأمن  في الكنيست (الإسرائيلي)  بتاريخ  12 كانون الثاني 1982، حينما كان وزيراً للدفاع ، إذ قال  (من أجل اقامة دولتنا  الكبرى ذات الهوية اليهودية النقية  كقوة إقليمية في المنطقة  يجب علينا تأمين دائرة المجال الحيوي لها ، وهي المنطقة  التي تضم  مصالح (إسرائيل)  الاستراتيجية ، وتشمل  جميع مناطق العالم العربي المتاخمة ، فضلا عن ايران وتركيا  وشمال شرق أفريقيا (22) ، لذلك تبنى صانعوا القرار (الإسرائيلي)  سياسات خاصة  بالتعامل مع تلك المنطقة وفق خطط وأهداف محكمة للتغلغل  داخلها، إذ تعد المنطقة موقعاً استراتيجياً هاماً لإشرافها على شواطئ البحر الأحمر من جهة  ومضيق باب المندب وخليج عدن  من جهة اخرى ، مما يمهدها للارتباط تلقائياً بمنظومة الأمن القومي (الإسرائيلي)  (23) ،  لذلك سعت إسرائيل بكل قوتها لإيجاد موطئ قدم لها في دول القرن الافريقي حتى تتمكن من تحقيق  اهدافها السياسية  والاقتصادية  والأمنية ، ولضمان حقها في الملاحة  على البحر الاحمر معتمدة  على قوتها العسكرية، إذ تعد  محاولة السيطرة على البحر الاحمر  من اهم الاهداف الاستراتيجية (لإسرائيل) في القارة الافريقية التي بدأت منذ عام 1949بعد تأسيس الكيان ا(لإسرائيلي) في خليج العقبة ، وبهدف الاتصال مع العالم الخارجي عن طريق البحر الاحمر ولتحقيق هذا الهدف ،بدأت (إسرائيل)  بتأسيس وجود لها  على البحر الاحمر من أجل استخدامه لتحقيق  أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية(24) ، تسعى (إسرائيل) إلى تدويل البحر الأحمر والحيلولة دون أن يصبح بحيرة عربية بل أن (إسرائيل) بدأت تربط بين مفهومها للأمن الإسرائيلي والامتداد الجيواستراتيجي في جنوب البحر(25)  ،إذ تعد (اسرائيل) البحر الاحمر منفذها الحيوي باتجاه أسيا وافريقيا ، إذ إن تحركاتها الاقتصادية الأمنية تمر عبره ولذلك فهي لا تسمح لقوى اقليمية اخرى بتهديد حركتها الاقتصادية والأمنية(26)  .

وقد نال البحر الاحمر أهمية متزايدة  في الاستراتيجية (الإسرائيلية ) الأمنية بعد حدثين  هامين ، هما حرب حزيران  1967،إذ حصلت (إسرائيل)  على مساعدات عسكرية قتالية من قواعد امريكية في اثيوبيا وتم نقلها إلى (إسرائيل) عبر البحر الاحمر ، وحرب تشرين الاول  1973 ، إذ عانت (إسرائيل) من فرض الحظر عليها  من قبل القوات البحرية المصرية بعد قيامها بإغلاق مضيق باب المندب  في وجه مصالحها  بعد أن أصبح  المرور (الإسرائيلي)  في هذه المياه مسألة استراتيجية بالنسبة لها، مما جعلها تتبنى سياسة  بحرية خاصة بهذا المنفذ ، إذ عملت على  نشر قوات بحرية قادرة على مواجهة أي تهديدات جديدة ، وإقامة  تعاون بحري كامل مع الأسطول الأمريكي  الخامس في الخليج العربي  والأساطيل  الغربية الأوروبية  المنتشرة  في خليج العرب والبحر الأحمر والمحيط الهندي  ، وقد ساعدها في ذلك  تواجدها في دول القرن الأفريقي  (ارتيريا ) على وجه الخصوص في احكام  سيطرتها على المناطق والجزر الاستراتيجية  في البحر الأحمر  من خلال نشر قواتها البحرية  على امتداد الشواطئ الارتيرية  واحكام سيطرتها  على مضيق باب المندب  من خلال نشر  القوات البحرية المشتركة وتدشين ابراج المراقبة البحرية واجهزة التصنت في ميناء مصوع الارتيري (27)   .

لذا فإن الوجود الراسخ والقوي (لإسرائيل ) في هذه المنطقة يمكنها من مزايا أهمها :النفاذ إلى دول القرن الأفريقي التي تعد الظهير الاستراتيجي لبعض البلدان العربية، وثانيا السيطرة التامة على البحر الأحمر ومن ثم التحكم بالأمن في المنطقة وهذا ما أوضحه “ابا ابيان “وزير الخارجية الاسرائيلية الأسبق قائلا “من أجل تقويض إسرائيل عن الحصار الإقليمي المفروض عليها بإمكانها أن تتحول إلى جسر عبور لكل القارات عبر المحيطات الشرقية والغربية بقطاع ضيق من الأرض, ومن ثم تحرير شعوب أسيا واوروبا بالاعتماد على قناة السويس، أي أن أمن إسرائيل يرتبط مباشرة بسيطرتها الدائمة على ممرات حره تجاه البحر الأحمر” (28)  .

وتعد “إسرائيل “البحر الأحمر في الوقت الحاضر بمثابة العصب الحيوي بموجب استراتيجيتها المتبعة للنفاذ إلى الدول الافريقية عامة لاعتبارات سياسية واقتصادية ,أما السياسية فأن اهميتها بتركيز على الصراع العربي الاسرائيلي ، وما يمكن أن تحدثه الدول الأفريقية من تأثير فيما يتعلق بالقوة التصويتية في الأمم المتحدة وعن الاعتبارات الاقتصادية فإن للبحر الأحمر مكانة متقدمة لدى (اسرائيل) إذ إن 20%من حجم التجارة (الاسرائيلية) الاجمالية تمر فيه كما تتم عملية الاتصال المباشر عن طريقة بالدول المتشاطئة ولاسيما ارتيريا التي تضع مجالها الجوي في خدمة الرحلات (الاسرائيلية)المتجهة إلى دول الشرق الاوسط(29) .

وتسعى (إسرائيل)  لتحقيق عدة أهداف استراتيجية في البحر الاحمر، تتمثل في توسيع وجودها العسكري وترسيخه ، وتأمين مصالحها  بما يتيح لها من أمكانية الهجوم المباشر على العرب  في باب المندب ، وإيجاد عمق  استراتيجي  في البحر الأحمر ، يتيح لها رصد  أي نشاط عسكري  عربي في المنطقة ،  وكسر أي حصار عربي قد يحدث مستقبلاً ضد القوات(الإسرائيلية)  بين المحيط الهندي  والبحر المتوسط الى اسيا وافريقيا ، كما تهدف الى الاحتفاظ  بقوة بحرية وبرية وجوية  في مواجهة  الدول العربية والحيلولة دون نجاح  مساعيها الرامية الى جعل  البحر الاحمر بحيرة عربية ، والاستمرار في تقوية  ميناء (إيلات )  كميناء حربي ، فضلا عن كونه ميناء تجارياً لضمان وجود المنفذ  الذي أوجدته لنفسها  منذ عام 1949  (30) .

المطلب الثاني :– إشعال الخلاف بين دول المنبع والمصب لحوض النيل : إن التوجه الإسرائيلي نحو القارة الأفريقية وجنوب السودان على وجه الخصوص لا يخلو من العديد من المطامع الإسرائيلية، من أجل تطويق الأمن القومي المصري في كل اتجاهاته المختلفة، ولكن تبقى قضية المياه هي رأس الحربة التي تنطلق منها إسرائيل في تلك المنطقة ، إذ لا يخفى على احد  أن لإسرائيل أحلامًا قديمة في الحصول على حصة من مياه نهر النيل ، إذ تعد المياه بالنسبة لإسرائيل ليست قضية اقتصادية فقط وإنما قضية سياسية وعسكرية وديموغرافية، فقد شكلت نظرة إسرائيل تجاه مياه النيل جزءاً من النهج الإسرائيلي تجاه المياه المشتركة بينها وبين الدول العربية، فقد كانت المياه حاضرة في الفكر الإسرائيلي منذ مشروع (هرتزل )1903 لري صحراء النقب ،الذي تقدم به إلى الحكومة البريطانية ، والذى استند إلى توطين اليهود في سيناء كمنطقة لاحتلال فلسطين  واستغلال ما فيها من مياه جوفية، وقد تتابعت تلك الفكرة وصولاً إلى مشروع “اليشع كالي”  الذي طرحه المهندس الإسرائيلي(اليشع كالي )عام 1974، والذى كان يقضي بتوسيع “قناة السلام” بتصميم ترعة لسحب المياه من أسفل قناة السويس وتوصيلها إلى إسرائيل . كما قدم الخبير الإسرائيلي (أرلوزوروف)  مشروع “شاؤول” عام 1977، الذي تضمن شق ست قنوات مياه  تحت قناة السويس ، إذ بإمكان هذا المشاريع  تزويد صحراء النقب بنصف مليار متر مكعب، ولكنها قوبلت بالرفض المصري على الصعيدين الرسمي والشعبي، لأن من ثوابت السياسة المائية المصرية الراسخة في وجدان وذهن صانعي القرار الهيدروبولتيكى في مصر، هو رفض تحويل المياه خارجة المجرى الطبيعي لحوض نهر النيل، و بالتالي هذه المشروعات لم تجد طريقها للتنفيذ لكونها كانت ترمى دوماً إلى تحقيق مصالح إسرائيل المائية فقط(31)  .

لذلك وضعت إسرائيل استراتيجية خاصة من اجل التحكم بمنابع نهر النيل كونها ورقة ضاغطة على مصر والسودان لأنَّ الموارد المائية من أهم القضايا التي تواجه السياسات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لإسرائيل نظراً لمحدودية الموارد المائية فيها، وتعد مصدر قلق لإسرائيل لأنَّ الارض والمياه هي من اهم الاستراتيجيات الاسرائيلية، وهذا انعكس على سياستها الاستيطانية ضد العرب ولاسيما أنَّ اسرائيل تعاني من قلة المياه(32)  .

وتسعى اسرائيل للحصول على حصة من مياه النيل نتيجة ندرة الموارد المائية المتاحة فيها، إذ يبلغ اجمالي الموارد المائية لديها (1.8 مليارم3) وهذه الكمية من المياه لا تكفي لاحتياجات إسرائيل على الرغم من استغلالها لكل قطرة من تلك الكمية وقامت بترشيد الاستهلاك واستخدام التنقيط في ري المزروعات وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي وغيرها من الوسائل، وعلى الرغم من ذلك تشير الدراسات الاسرائيلية إن اسرائيل ستواجه عجزاً مستقبلياً في المياه وحل هذه المشكلة لا يكون إلا باستيراد المياه من مصادر خارجية (33)  .

ويعود العجز المائي في اسرائيل نتيجة تفاعل مجموعة من المتغيرات مثل زيادة السكان الطبيعية وتدفق الهجرات من اليهود والتوسع الزراعي، وتزايد معدلات التنمية الصناعية والتلوث البيئي ، لذلك تسعى اسرائيل للحصول على حصة ثابتة من مياه النيل التي ترد الى مصر(34) .

تحاول اسرائيل الحصول على مياه النيل بنحو(1%) او حتى (0.5%) عن طريق مصر؛ لأنها كانت ترى أنَّ مصر لديها فائض مقداره (10) مليارات م3 اذا اكتملت قناة (جونقلي) كما أنَّها ترى أن المياه المصرية الضائعة في البحر المتوسط في الشتاء والمستخدمة لتوليد الكهرباء ينبغي الاستفادة منها بإنشاء مشروع مقترح لنقل المياه الى اسرائيل يمد من ترعة السلام الى صحراء النقب وبالتعاون مع كل من (اثيوبيا، وكينيا، واوغندا، والكونغو وراوندا ) من أجل تحقيق ذلك لابد من الضغط على مصر(35)  .

لذا اكتسبت دولة جنوب السودان أهمية كبيرة في الاستراتيجية الإسرائيلية ،لوقوعها على اعالي منابع نهر النيل ،و لكونها تمثل اداة  الوصول الإسرائيلي إلى منابع النيل بما يمكنها من استخدام هذه القضية كورقة ضغط  على مصر والسودان والتي تسعى إلى بيع المياه على غرار ما تفعله تركيا ، او على الأقل المضي قدما في مشروع توصيل مياه النيل اليها، لذلك فإن إسرائيل تحرص على توقيع دولة جنوب السودان على اتفاقية (عنتيبي) التي ترفض الاعتراف بالحقوق التاريخية السودانية في المياه، كما تمثل العلاقات الوثيقة بين إسرائيل ودولة جنوب السودان خطراً  جسيماً يتمثل بمحاصرة الأمن القومي العربي ,ولاسيما في امتداده المصري-السوداني على وفق استراتيجية (حلف حزام المحيط) أي اقامة تحالفات مع الدول والجماعات الأثنية والدينية المعادية للعرب هذا من ناحية ،  ومن ناحية اخرى  الاستفادة من تواجدها  في المنطقة للتلويح بورقة المياه  في مواجهة السياسة المصرية ، فضلاُ عن  تمهيد الطريق أمام النفوذ الأمريكي للدخول إلى هذه المنطقة المحورية بالنسبة لمصر والسودان(36) ، إذ تعتمد إسرائيل في تنفيذ سياستها على الدور الامريكي ، ولاسيما هناك سعي حثيث لتأسيس مناطق نفوذ في دول منابع النيل ووسط افريقيا ، باختيارها قادة لتنفيذ هذا المخطط واغلب القادة الجدد الذين ترعاهم يمثلون زعماء حوض النيل ،كما اقدمت  دول اوربية وغربية عدة على شراء مساحات واسعة من الاراضي الاثيوبية، واوغندا، وكينيا بهدف زراعتها بمياه النيل لتوفير احتياجاتها من الحبوب الغذائية وهذا له تأثير على الموارد المياه من الناحية الاقتصادية والسياسية.(37) .

وفي هذا الاطار جاءت  زيارة  وزير الخارجية الإسرائيلي (أفيغدور ليبرمان ) إلى افريقيا  وكانت ثلاثة من خمس دول زارها  من دول حوض النيل  الإسرائيلية  تجاه هذه الدول العربية  والتي تهدف لحصارها  مائياً  من  جهة  حوض النيل  والترويج لمشاريع تدويل المياه ومن ثم تشجيع الدول الافريقية على احتجاز  المزيد من مياه هذا النهر ، ببناء سدود تشجع (اسرائيل) على بنائها وتساعد في تمويلها  تمهيداً  لبيع المياه إلى دول اخرى  مثل (إسرائيل)  نفسها ، وإن المساعي من بناء السدود  والمشروعات المائية تدفع باتجاه مطالبة دولة المنبع مستقبلاً بتعديل اتفاقيات  توزيع الحصص المائية ، سعياً لتخفيض حصة  مصر التي تعدها حقاً تاريخياً والتي يقلقها أن حصة بلادها  التي تبلغ ( 55،5) مليار م3 تتقلص احياناً إلى (51،5)مليار م3 ، بسبب انشاء اثيوبيا  وبعض دول حوض النيل  لسدود على النهر احتجزت كميات من مياه وأن انشاء المزيد منها سيقلص حصص بلاد المجرى والمصب وهي مصر والسودان (38) ، لذلك فإن إسرائيل تحاول  دائما  استغلال وتعميق  الخلافات العربية  مع بعض الدول الافريقية ، وتهديد أمن  الدول العربية  المعتمدة على نهر النيل  بمحاولة زيادة  نفوذها  في الدول المتحكمة  في مياه النيل من منابعه ، مع التركيز على إقامة  مشروعات زراعية  تعتمد على سحب  المياه من بحيرة فكتوريا  ، ولعل الأزمة التي ثارت بين دول المنبع وكل من مصر والسودان في اجتماع الإسكندرية في يوليو 2009 ، وحالت دون توقيع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل تعزى بدرجة كبيرة إلى الأيادي الإسرائيلية الخفية. وتستخدم إسرائيل أدوات  دبلوماسيتها وقوتها الناعمة لزيادة نفوذها في حوض النيل بما يمكنها من محاصرة  الأمن القومي لكل من مصر والسودان في المنطقة (39)   .

المطلب الثالث :ضرب المصالح  العربية في العمق العربي : إذ لا يخفى على احد  أنه توجد جاليات عربية مؤثرة في بعض الدول الأفريقية ، ولا سيما في الغرب، وهي تأتي في الغالب الأعم من بلاد الشام. ورغم حالة التمكن الاقتصادي لهذه الجاليات إلا أنها لا تمارس دورًا سياسيًا فاعلاً وربما يعزى ذلك إلى محاولات خفية لإثارة نزعات وطنية وعنصرية. ولعل وجود العديد من المستشارين الإسرائيليين في العديد من دول غرب أفريقيا وكثافة المصالح الإسرائيلية في المنطقة تدفع إلى التساؤل حول حقيقة الأيادي الإسرائيلية في محاربة الوجود العربي في أفريقيا،  وعليه فإنه يمكن القول اجمالاً بأن الاستراتيجية الإسرائيلية في شرق أفريقيا تنال بشكل عام من أسس ودعائم الأمن القومي العربي في صياغاته الكلية، كما أنها تطرح على المحك الدور والمصالح الحيوية لبعض دول الأركان العربية في أفريقيا مثل مصر والسودان والجزائر(40) .

المطلب الرابع : محاولة تفجير مناطق الاطراف  للنظام الاقليمي  العربي  في أفريقيا وخلق بؤر للتوتر  والنزاع  في مناطق التماس  العربية  الافريقية  إذ يرجع الاهتمام الإسرائيلي  بتفتيت الدول العربية  إلى دويلات  صغيرة متناحرة  فيما بينها  إلى مخططات  أقرتها واعتمدتها إسرائيل  منذ  بداية  ستينيات  القرن الماضي ،  إذ تحاول إسرائيل  منذ ذلك الوقت  إلى إيجاد موطئ قدم  لها في تلك البقعة  الاستراتيجية ، حيث الثروات الطبيعية والموقع الجغرافي  المتميز ، كمنطقة تتيح  لها محاصرة  الدول العربية المجاورة  لها ، فقد سعت السياسة الإسرائيلية – وفقًا لمبدأ شد الأطراف – من أجل تفجير بعض الدول من الداخل مثل السودان وموريتانيا. كما أنها عملت من جهة أخرى على خلق بذور العداء بين الشعوب العربية والأفريقية وذلك وفق أسس ودعاوى دينية وعرقية وثقافية. ويبدو أنَّ  هذه المخططات  الإسرائيلية  ، قد تم ترجمتها  على أرض الواقع في السودان ، فقد كانت السودان تمثل  لصانع القرار الإسرائيلي السودان  دولة ذات ريادة  إذا تجنبت  المشاكل والنزاعات القبلية ، ولها موارد  هائلة  تستطيع  أن تتبوأ  موقعاً قيادياً في إفريقيا  وفي منطقة الشرق الاوسط ، وهذا يمثل خطراً على إسرائيل ، مما يستدعي التصدي له  بواسطة تفتيت السودان إلى اربع دول  بالتقسيم السياسي  عبر إثارة المشاكل  بين الاثنيات  والقبائل  واستثمار النزاعات  وتدويلها عملاً بنظرية (شد الاطراف ثم بترها) ، وقد انزلت تلك النظرية على ارض الواقع  تجاه الجنوب  وكانت النتيجة النهائية  بغض النظر  عن العوامل والمتغيرات  الاخرى هي انفصال جنوب السودان ، مما شكل بذلك فرصة ذهبية  لإسرائيل ، تسهل معها إحكام  السيطرة  عليها ، في ظل غياب أي دور  عربي ملموس  إزاء هذه القضية  البالغة الحساسية  على صعيد الأمن  القومي العربي برمته(41)  ، فالأمن  القومي السوداني الذي ضرب  في مفصله  يعد ضربة قوية  وموجعة للأمن  القومي  العربي ، ولا سيما أن لأسرائيل  دوراً  بارزاً في هذا الانفصال  ولها مكاسب كبيرة  جراء هذا التقسيم  الذي احدث في السودان ، ولمنع  تحقيق الأمن  القومي السوداني ، أوجدت  إسرائيل مداخل  جديدة  في السودان ما بعد  الانفصال ، للحيلولة  دون دخول السودان  كلاعب قوي مع العرب  ضدها ، من خلال نقطة الانطلاق  الجديدة وهي جمهورية  جنوب السودان ، إذ تمثل الحدود  الشمالية لدولة جنوب السودان  الحدود الأطول  لها وتمتد  على مسافة( 2010) كم ، لتصبح  بذلك اطول حدود  في القارة الافريقية(42)  ،  فهذا سوف يساعد إسرائيل  على تغذية  الصراعات والتوترات القائمة في شمال  السودان ودعمها  ولا سيما في مناطق  (دارفور، النيل الازرق ، جنوب كردفان ) ، فقد أصبحت دولة جنوب السودان ملاذا ومأوى للعديد من قيادات حركة التمرد ، وهو ما سيسهل على إسرائيل الاتصال بهم، فضلاً عن تحريك محاولات انفصال ولايتي: النيل الأزرق وجنوب كردفان ، فقد منحت إسرائيل  نحو خمسمائة من لاجئي دارفور حق اللجوء السياسي، فهذ يعني إنها تمتلك علاقات وثيقة مع حركة تحرير السودان – جناح عبد الواحد نور – والتي افتتحت مكتب اتصال لها في إسرائيل ، وقد يتم تنشيط  المسرح الشرقي  في المرحلة المقبلة  لإكمال  تجزئة السودان  إلى عدد من الكيانات  الهشة الضعيفة، وتحويله إلى صومال آخر استكمالا لاستراتيجيتها المعروفة بـ(شد الأطراف ثم بترها) ، فإسرائيل  لديها تواجد أمني  في شرق السودان  غير مرئي  بواسطة الجواسيس  والعملاء ، فقد استطاعت  عدة مرات من توجيه  ضربات عسكرية جوية  لقوافل تهريب الاسلحة  من السودان  إلى قطاع  غزة في  فلسطين  عبر مصر ، من غير أن تستطيع  القوة السودانية  الجوية ملاحقتها (43)  ، فضلاً عن أن الدور الاسرائيلي  أوجد حلفاء  من دول محيط السودان  ، والذي يمكن  إسرائيل  من تكوين حلف جديد  ضد العرب  في أي صراع  قادم  أو انشاء صراع    عربي –أفريقي جديد (44)

الخاتمة :

إن المتتبع الموضوعي العلاقات الاسرائيلية مع دولة جنوب السودان ، يحق له القول بأن إن التوجه الإسرائيلي نحو الجنوب لم يكن وليد لحظة الانفصال، بل كانت هناك علاقات غير رسمية بين إسرائيل والحركة الشعبية لتحرير السودان، علاقات “خفية”، تمثلت في دعم تلك الحركة مالياً وعسكرياً، وعقب الانفصال شهدت العلاقات الإسرائيلية الجنوب السودانية تنامى وتطوراً ملحوظاً ، وذلك من خلال توقيع عدد من الاتفاقيات للتعاون بين الدولتين في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية ، ويمكن القول أن هناك العديد من الأهداف والدوافع التي سعت إسرائيل إلى تحقيقها من خلال تقوية علاقاتها بدولة جنوب السودان ، فقد سعت إسرائيل للتغلغل فى جنوب السودان، نظراً لأهمية السودان لمصر، بحسبانها تمثل عمقاً استراتيجياً حيوياً لها. ولذلك نجد أن العديد من الدوافع وراء تحرك إسرائيل نحو جنوب السودان خصوصاً والسودان عموماً منها، دوافع سياسية؛ من أجل تحقيق مزيد من المكاسب السياسية، عن طريق إخراج دولة من أكبر دول الوطن العربي من الاهتمام بالقضية الأساسية للعرب ، وهى الصراع مع إسرائيل،  فضلا عن التأثير السياسي على مصر في إضعافها وتطويقها من ناحية الجنوب، اعتماداً على مبدأ شد الأطراف وخلق معضلات جديدة تواجه الأمن القومي المصري، ولا سيما الأمن المائي،، و دوافع أمنية؛ متمثلة في المزيد من التأمين الملاحة الإسرائيلية في البحر الاحمر، وتأمين مصالحها الحيوية فيه، ودوافع مائية؛ متمثلة في التأثير على حصة  مصر والسودان المائية من مياه نهر النيل، والرغبة الإسرائيلية الواضحة من أن يتم توجيه جزء من تلك الحصة إلى إسرائيل نفسها ،ودوافع اقتصادية؛ على أساس أن السودان يزخر بالعديد من الموارد النفطية والموارد الطبيعية   التي تغرى كافة الدول والتي تسعى أي دولة في العالم للسيطرة عليه.  فضلا رغبة إسرائيل في كسر العزلة مع الدول العربية والتي فرضت عليها منذ البداية ، عن طريق إقامة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الأفريقية تباعاً، وبالتالي فإن كل النتائج تشير إلى أن مستقبل العلاقات بين الجانبين سيكون أكثر تعاوناً، وربما تصبح دولة جنوب السودان خلال وقت قصير قوة إقليمية فاعلة وحليفاً مهماً لإسرائيل والغرب، والحقيقة أن خطورة هذا الأمر تمتد إلى الأمن القومي العربي برمته وليس المصري فقط،ولذلك فمن الضروري الحذر من انعكاسات هذه العلاقات وخطورتها على الدول العربية عن طريق المحاولة بشل فعاليتها باللجوء إلى سياسة عربية متكاملة تهدف إلى احتضان الدولة الوليدة، ودعم العلاقات معها في مختلف المجالات لتفويت الفرصة على إسرائيل ونيّاتها في المنطقة.

المصادر :

1-   ياسر ابو حسن ، التدخل  والدعم الإسرائيلي  للجنوب حتى مرحلة الانفصال ، مجلة المنتدى ، مركز الراصد  للدراسات  السياسية والاستراتيجية  ، السودان ،  العدد  الثامن  والعشرون ، سبتمبر  2014 , ص56

2-     منى حسين عبيد، السياسة الاسرائيلية تجاه دول شرق افريقيا (اثيوبيا- السودان ) أنموذجاً ، مجلة الدراسات الفلسطينية،  مركز الدراسات الفلسطينية، جامعة بغداد، العدد 11، حزيران 2010  ، ص 109.

3-     اماني الطويل، اسرائيل واستراتيجيات تجزئة السودان، (انفصال جنوب السودان، المخاطر والفرص)من كتاب (مجموعة باحثين) ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012، ص 236

4-     دهام محمد العزاوي، التدخل الصهيوني في مشكلة جنوب السودان، قضايا دولية، ، مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد ،العدد 32، تشرين الاول  1999، ص 31.

5-     منى حسين عبيد، السودان ومحيطه الاقليمي، مصدر سبق ذكره، ص 128

6-     منى حسين عبيد، السياسة الاسرائيلية اتجاه دول شرق افريقيا(اثيوبيا- السودان ) أنموذجاً ، مصدر سبق ذكره، ص 110.

7-     ياسر ابو حسن ، مصدر سبق ذكره ، ص60

8-     شريف شعبان مبروك، السياسة الإسرائيلية في جنوب السودان وتداعياتها على الأمن القومي العربي، مجلة شؤون عربية، جامعة الدول العربية، القاهرة ، مصر، العدد 151،نيسان 2012، ص 204.

9-     ابراهيم منشاوي ، تحالف استراتيجي دائم: تداعيات العلاقات الإسرائيلية بجنوب السودان على الأمن القومي المصري ، معهد البحوث والدراسات الافريقية ، جامعة  القاهرة ، 2014 ، ص7.

10-   عبد اللطيف فاروق احمد، انفصال جنوب السودان وتأثيراته على الامن القومي المصري، المكتب العربي للمعارف، القاهرة، 2016، ص193 .

11-   محمد الحسن  عبد الرحمن  فاضل ، أثر علاقات إسرائيل  بدولة جنوب السودان  على العرب ، مجلة الراصد ، الخرطوم ، العدد 364، 2012 ، ص97

12-   25-   عبد اللطيف فاروق احمد، انفصال جنوب السودان وتأثيراته على الامن القومي المصري، المكتب العربي للمعارف، القاهرة، 2016،ص113.

13-   المصدر نفسه ، ص 194.

14-   عبد الحميد الموساوي، العلاقة الاستراتيجية بين اسرائيل ودولة جنوب السودان وانعكاساتها على مصر والسودان، مجلة مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية، الجامعة لمستنصرية، العدد 44، 2013 ، ، ص10.

15-   المصدر نفسه ، ص7

16-   ابراهيم المنشاوي، مصدر سبق ذكره، ص 5.

17-   عبد الحميد الموساوي، مصدر سبق ذكره ، ص  12

18-   عبد المنعم محمد صالح عبد الله، المصالح الاستراتيجية الاسرائيلية في دولة جنوب السودان، مجلة حمورابي للدراسات، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية،  العدد 11، تشرين الثاني 2014، ، ص 110.

19-   ابراهيم المنشاوي، مصدر سبق ذكره، ص5

20-   محمد الحسن عبدالرحمن الفاضل، دلالات وأبعاد علاقات جنوب السودان وإسرائيل، مجلة الراصد، العدد 368، الخرطوم، 2012، ص2

21-   ريم محمد موسى، ، ضـروريات التعاون الاقتصـادي بين السـودان وجنوب السـودان وإمكانيـة تحقـيق التكـامل، معـهد البحـوث والدراسـات الأفريقـية جامعــة القاهـــرة، 2012. ، ص6.

22-   سند وليد سعيد ،  سياسة التغلغل  الاسرائيلي  في منطقة القرن الافريقي ،  المجلة السياسية والدولية ،  الجامعة المستنصرية ، العدد 30 ، 2016 ، ص 264 .

23-   أحمد تهامي عبد الحي ،  الاستراتيجية الاسرائيلية  في البحر الاحمر  ومنابع النيل  الثوابت والمستجدات ، المنظمة العربية  للتربية والثقافة والعلوم ، معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة ، 2003 ، ص 38 .

24-   عامر عبد  ، القرن الافريقي  بين تداعيات الماضي  وآفاق المستقبل  ، جريدة اللواء الدولية على الموقع الالكتروني  http://alewaanewspaper.com/

25-   حمدي عبد الرحمن حسن, التوازن الاقليمي في البحيرات العظمى والامن المائي المصري, ، مجلة السياسة الدولية ، مؤسسة الاهرام ، القاهرة ، مصر ، العدد 135 ، كانون الثاني 1999، ص33

26-     عبد السلام البغدادي ,التحرك الصهيوني المعاصر في افريقيا, سلسلة الدراسات الافريقية رقم(24) ,معهد الدراسات الاسيوية والافريقية,), بغداد, الجامعة المستنصرية ، مطابع جامعة الموصل ,1986م , ,ص23.

27-   سند وليد سعيد ، مصدر سبق ذكره ، ص 265

28-   جاسم يونس محمد, السياسة الخارجية الاسرائيلية تجاه افريقيا بعد انتهاء الحرب الباردة ,دراسة حالة اثيوبيا , العلوم السياسية ,بغداد العدد(35)كلية العلوم السياسية ,جامعة بغداد ,2007م,ص150.

29-   اماني الطويل ,القرصنة في البحر الاحمر ,امن البحر الاحمر الواقع والتحديات , السياسة الدولية, ا لقاهرة مؤسسة الاهرام,العدد176نيسان /ابريل 2009م,ص217

30-   زكريا محمد عبد الله ، امن البحر الاحمر  والامن القومي العربي ، شؤون عربية ،  الامانة  العامة  لجامعة الدول العربية ، العدد 88 ،  القاهرة ، 1996 ،  ص156

31-   ابراهيم منشاوي ، مصدر سبق ذكره ، ص5

32-   محمد الحسن عبد الرحيم، المخطط الاسرائيلي في منابع النيل وأثره على مصر والسودان، من الانترنتhttp://www.arrasid.com/index.php/main/index/conte

33-     احمد بدر شرف الدين، التعاون الاقتصادي بين دول حوض النيل، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الاهرام ، القاهرة ، مصر  العدد181، 2012 ص133.

34-   مثنى محمد تركي ، ازمة المياه في دول حوض النيل، رسالة ماجستير ( غير منشوره) كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2012.ص141

35-   المصدر نفسه ، ص145 .

36-   محمد حسن عبد الرحمن فاضل، اهمية دولة جنوب السودان لإسرائيل، مجلة الراصد، العدد 388،    2012، ص20.

37-   مصطفى شفيق، التغلغل الاسرائيلي في حوض النيل في شد الاطراف الى البتر، مركز الدراسات            الانسانية، 2010  . http://www.arab-center.org/index/php?option.com

38-   مناسك  عبد الوهاب  حكمت ، الاستراتيجية  الإسرائيلية تجاه افريقيا منطلقات جديدة ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية العلوم السياسية ، جامعة النهرين ، 2013 ، ص224

39-   شريف شعبان مبروك  ، ، السياسة الإسرائيلية في جنوب السودان  وتداعياتها  على الأمن  القومي العربي ، مجلة شؤون عربية ،  الامانة العامة  لجامعة الدول العربية ، مصر ، العدد 151 ،  ص  206

40-   شريف شعبان مبروك  ، مصدر سبق ذكره ، ص  207

41-   المصدر نفسه ، ص189

42-   نورا اسامة ، حسابات الدولة الوليدة ، العلاقات الخارجية لجنوب السودان ، مجلة السياسة الدولية ، مؤسسة الاهرام ، القاهرة ، مصر ، العدد 185، 2010 ، ص121

43-   هاني رسلان، زيارة سلفا كير في إسرائيل وقضايا الأمن القومي المصري، جريدة الأهرام، 30 كانون الأول ، 2011 ، ص3

44-   ابراهيم يوسف حمادة ، الدور الاسرائيلي في انفصال جنوب السودان  وتداعياته  على الصراع العربي- الاسرائيلي ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الدراسات  العليا ، جامعة النجاح الوطنية ، فلسطين ، 2014 ، ص116

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=67058

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M