جذور الأمراض العقلية

مايكل مارشال

هناك اعتقادٌ سائد بأنَّ الأمراض النفسية منفصلةٌ عن بعضها البعض، لكنَّ الباحثين بدأوا يكشفون غموض العوامل البيولوجية المشتركة التي تربط بينها. 

في عام 2018، كان الطبيب النفسي أوليجير بلانا ريبول يسعى جاهدًا لفهم حقيقة محيرة تتعلق بالاضطرابات العقلية، إذ وعى أنَّ كثيرًا من الأشخاص يعانون أمراضًا عقلية متعددة في الوقت ذاته، منها -على سبيل المثال- القلق، والاكتئاب، أو الفصام والاضطراب ثنائي القطب. وأراد أن يعرف مدى شيوع تشخيص إصابة المرضى بأكثر من مرضٍ عقلي في آنٍ واحد. ولهذا الغرض تمكن من الحصول على قاعدة بيانات، تحتوي على البيانات الطبية لما يقترب من 5.9 مليون مواطن دنماركي.

وقد أدهشه ما اكتشفه في تلك البيانات، إذ وجد أنَّ كل اضطرابٍ عقلي يُصاب به المريض يجعله عرضةً للإصابة بجميع الاضطرابات الأخرى، بغض النظر عن مدى اختلاف أعراضها1. وعن ذلك.. يقول بلانا ريبول، الذي يعمل في جامعة آرهوس بالدنمارك: “كنا نعلم أنَّ تزامن الأمراض مع بعضها البعض هو مسالةٌ مهمة، لكنَّنا لم نتوقع أن نكتشف علاقات ارتباط بين كل زوجٍ من تلك الأمراض”.

تتناول دراسة بلانا ريبول سؤالًا أساسيًّا حيَّر الباحثين لأكثر من قرن، يتعلق بماهية جذور الأمراض العقلية.

وأملًا في العثور على إجابةٍ لذلك السؤال، جمع العلماء كميةً هائلة من البيانات على مدار العقد الماضي، من خلال دراساتٍ على الجينات، والنشاط الدماغي، وتشريح الجهاز العصبي. ووجدوا أدلةً على أنَّ كثيرًا من الجينات يسبب الواحد منها ما يبدو لنا اضطراباتٍ مختلفة عن بعضها البعض، كالفصام والتوحد، وأنَّ التغيُّرات التي تطرأ على أنظمة اتخاذ القرار بالدماغ يمكن أن تلعب دورًا في الإصابة بالعديد من الأمراض العقلية.

ويعكف الباحثون حاليًّا أيضًا على إعادة النظر بصورةٍ جذرية في تلك النظريات التي تفسر كيفية حدوث الخلل بأدمغتنا. فقد ثبت -إلى حد كبير- خطأ الفكرة القائلة إنَّ الأمراض العقلية يمكن تصنيفها إلى فئاتٍ منفصلة ومختلفة، مثل «القلق»، أو «الذهان». فعلى العكس.. تتداخل الاضطرابات مع بعضها بعضًا، وليست هناك حدودٌ واضحة تفصل بينها، كما يتجلى بوضوح شديد في دراسة بلانا ريبول.

والآن، يحاول الباحثون فهم العوامل البيولوجية التي تسبب هذه المجموعة الواسعة من الأمراض العقلية المختلفة. ولديهم بالفعل بعض النظريات حول هذه المسألة، أحدها أنَّه قد تكون هناك أبعاد عدة للأمراض العقلية. واعتمادًا على مدى اتفاق حالة الإنسان مع كل بُعدٍ منها، ربما يكون أكثر عُرضةً للإصابة ببعض الاضطرابات، مقارنةً بغيرها. وهناك نظريةٌ بديلة، لكنَّها أكثر تطرفًا، مفادها أنَّ هناك عاملًا واحدًا يجعل الناس عُرضةً للإصابة بالأمراض العقلية عمومًا، وأنَّ هناك عوامل أخرى تحدد لاحقًا الاضطرابات التي سيعانونها. وينظر الباحثون إلى كلتا الفكرتين بجدية، رغم أنَّ فكرة الأبعاد المتعددة للأمراض العقلية تحظى بقدرٍ أكبر من القبول.

وبينما ما زالت تفاصيل تلك المسألة غامضةً، يتفق معظم الأطباء النفسيين على أنَّ فكرةً واحدة قد باتت واضحة، وهي فشل النظام القديم لتصنيف الاضطرابات العقلية ضمن قوالب محددة. ويأمل هؤلاء أيضًا في أن يؤدي إحلال إطار عمل قائم على العوامل البيولوجية محل إطار العمل القديم ذاك إلى ابتكار عقاقير وعلاجاتٍ جديدة على المدى البعيد. يهدف الباحثون -على سبيل المثال- إلى كشف كل من الجينات الرئيسة، ومناطق الدماغ، والعمليات العصبية التي تسهم في الإصابة بالأمراض النفسية، بالإضافة إلى استهداف تلك العوامل بالعلاجات. ورغم أنَّ تحقيق ذلك قد يستغرق بعض الوقت، يقول ستيفن هيمان -الباحث بمعهد برود، التابع لكل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة هارفارد في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية- إنَّه “متفائل بما سيؤول إليه الوضع على المدى الطويل، بشرط أن يؤدي مجال الطب النفسي واجبه حقًّا”.

مجموعة متنوعة من الاضطرابات

التحدي الأكثر إلحاحًا في تلك المسألة هو التوصل إلى طريقةٍ لتشخيص المرضى. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، يستخدم الأطباء النفسيون مرجعًا شاملًا يُسمَّى الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM)، الذي صدرت منه حتى الآن خمس طبعات. ويسرد الدليل جميع الاضطرابات المعروفة، من التوحد والوسواس القهري إلى الاكتئاب والقلق والفصام، مع تحديد أعراض كل منها. والفرضية الأساسية التي ينبني عليها هو أن كل اضطراب يختلف عن غيره، وينتج عن أسباب مختلفة.

ومع ذلك.. فحتى قبل نشر الطبعة الخامسة من الدليل في عام 2013، حاجج عديدٌ من الباحثين بأنَّ نهجه معيب. وعن ذلك.. يقول هيمان، الذي أسهم في وضع مسودة الطبعة الخامسة من الدليل: “لعل أي طبيبٍ إكلينيكي كان ليخبرك بأنَّ المرضى لم يقرأوا الدليل، وأنَّ حالاتهم لا تتفق مع ما ورد فيه”، إذ إنَّ قليلًا من المرضى تتفق حالاتهم مع أيٍّ من مجموعات المعايير العامة التي يذكرها الدليل. وبدلًا من ذلك.. يُظهِر المرضى -في كثيرٍ من الأحيان- مزيجًا من أعراضٍ تخصّ اضطراباتٍ مختلفة. وحتى إذا شُخِّصت حالة مريضٍ بوضوحٍ كافٍ على أنَّه مصابٌ بالاكتئاب، على سبيل المثال، ففي كثيرٍ من الأحيان تبدو على هذا المريض أعراض اضطرابٍ آخر، مثل القلق. وعن ذلك.. يقول تيد ساترثوايت، المتخصص في الأمراض النفسية والعصبية بجامعة بنسلفانيا في ولاية فيلادلفيا الأمريكية: “إذا كنتَ مصابًا باضطرابٍ ما، فمن المرجح بشدة أن تكون مصابًا في الوقت نفسه باضطرابٍ آخر”.

المصدر: مرجع 8.

يعني هذا أنَّ النهج الذي اتبعه الأطباء الإكلينيكيون لتصنيف الاضطرابات العقلية هو نهجٌ خاطئ. وقد حاول الأطباء النفسيون حل هذه المعضلة عن طريق تقسيم الاضطرابات إلى أنواعٍ فرعية، بينها اختلافات أكثر دقة. ويقول ساترثوايت موضحًا في هذا الصدد: “إذا نظرتَ إلى تطور الدليل بمرور الوقت، فإنَّه يزداد ضخامةً أكثر فأكثر”، لكنَّ المشكلة لم تُحَل بعد، فتلك الأنواع الفرعية من الاضطرابات ما زالت لا تعكس بدقة مجموعات الأعراض التي يعانيها كثيرٌ من المرضى.

ونتيجةً لذلك.. فإنَّ المعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية، الذي يُعَد أكبر الجهات الممولة لدراسات الصحة العقلية في العالم، غيَّر طريقة تمويله للأبحاث العلمية. فبدايةً من عام 2011، بدأ المعهد يطالب بمزيدٍ من الدراسات التي تتناول الأسس البيولوجية للاضطرابات العقلية، بدلًا من أعراضها، وذلك في إطار برنامجٍ يُعرف باسم برنامج «معايير النطاق البحثي» Research Domain Criteria. ومنذ ذلك الحين، زاد عدد الأبحاث التي تتناول الأسس البيولوجية للأمراض النفسية ازديادًا هائلًا، وركزت الدراسات والبحوث على الجينات والتشريح العصبي، إضافةً إلى مجالاتٍ أخرى، لكنْ إذا كان الباحثون يأملون في كشف غموض الأمراض النفسية، فما زال أمامهم طريقٌ طويل، لأنَّ أهم ما توصلوا إليه حتى الآن يتلخص في مدى تعقيد تلك الأمراض في الواقع.

مجموعاتٌ مثيرة للجدل من الأعراض

من الناحية الإكلينيكية، فإنَّ الشواهد على وجود أعراضٍ مشتركة بين الاضطرابات، أو على أنَّ الناس كثيرًا ما يكونون مصابين بأكثر من اضطرابٍ نفسي واحد، صارت أقوى بلا شك. ولهذا السبب.. رغم إمكانية تشخيص الأعراض المفردة على نحو موثوق، مثل تغيرات المزاج، أو قصور التفكير المنطقي، فمن الصعب تصنيف المصابين بهذه الأعراض وفق تصنيفاتٍ عامة، مثل الإصابة بـ«الاضطراب ثنائي القطب».

وحتى الاضطرابات التي تبدو منفصلةً عن بعضها البعض توجد بينها علاقات ارتباط. وعلى سبيل المثال.. في عام 2008، اكتشفت عالمة الجينات أنجيليكا رونالد -التي كانت تعمل آنذاك في معهد الطب النفسي بجامعة كنيجز كوليدج في لندن- وزملاؤها أنَّ هناك تداخلًا بين كل من اضطراب التوحد، واضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة (ADHD). وتقول رونالد عن ذلك: “حينها، لم يكن مسموحًا بتشخيص إصابتك بكلا الاضطرابين”، وكان ذلك بسبب قاعدة مذكورة في طبعةٍ سابقة من الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية، لكنَّ رونالد وفريقها اكتشفوا ارتباطًا وثيقًا بين سمات الاضطرابين، وأنَّ هذه السمات تتحكم فيها -جزئيًّا- عوامل جينية2.

وإضافةً إلى ذلك.. يبدو أنَّ هناك مجموعات من الأعراض تتجاوز الحدود الفاصلة بين الاضطرابات، إذ فحصت دراسةٌ3 أُجريت خلال عام 2018 مرضى شُخِّصت إصابتهم إما باكتئابٍ حاد، أو اضطراب الهلع، أو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). وقُيِّمت حالة المتطوعين في الدراسة بناءً على الأعراض التي يعانونها، وعلى أدائهم الإدراكي، ونشاطهم الدماغي. ووجد الباحثون أنَّ المشاركين يمكن تقسيمهم إلى ست مجموعات، تتسم بحالات مزاجية مختلفة، مثل “التوتر”، و”السوداوية”. وتتجاوز هذه المجموعات الحدود الفاصلة بين فئات الاضطرابات النفسية الثلاث سالفة الذكر، كما لو لم تكن هناك حدودٌ فاصلة بين هذه الأمراض من الأساس.

ويتفق الكثيرون الآن على خطأ تلك الفئات التشخيصية المختلفة. وبما أنَّ تشخيص تلك الفئات له أساسٌ بيولوجي يوجهه، فإنَّ السؤال المطروح حاليًّا يتعلق بالنهج البديل الذي ينبغي أن يستند إليه تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها.

أبعادٌ متعددة

أحد النماذج البارزة المقترحة لهذا النهج هي فكرة وجود عددٍ من السمات أو “الأبعاد” النفسية العصبية، التي تختلف من شخصٍ إلى آخر. وتُحدِّد كل سمةٍ منها قابلية الإنسان للإصابة بأنواع معينة من الاضطرابات. وعلى سبيل المثال.. قد يكون شخصٌ ما عرضةً للإصابة باضطرابات المزاج، مثل القلق، لكنَّه ليس عُرضةً للإصابة باضطرابات التفكير، مثل الفصام.

وهذا يشبه الطريقة التي يفكر بها علماء النفس في أنواع الشخصيات. ففي واحدٍ من نماذجهم، هناك خمس سماتٍ للشخصية تصف معظم التباين بين شخصياتنا، منها -على سبيل المثال- يقظة الضمير، والعصابية.

ويحاول بالفعل بعض الأطباء النفسيين وضْع تصورٍ جديد لمجالهم، مع أخذ فكرة الأبعاد هذه في الاعتبار. ففي أوائل العقد الثاني من القرن الحالي، كانت هناك جهودٌ لحذف فئات الاضطرابات من الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية، وإحلال نهج مبنٍ على فكرة الأبعاد محلها، يستند إلى الأعراض المفردة، لكنّ تلك المحاولة أخفقت، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنَّ رعاية المرضى، وتمويل خدمات الرعاية الصحية يستندان إلى فئات الاضطرابات المذكورة في الدليل. ورغم ذلك.. فقد اتجهت أدلةٌ أخرى إلى استخدام نهج الأبعاد. ففي عام 2019، أقر مجلس الصحة العالمي التصنيف الدولي الأخير للأمراض (ICD-11)، الذي قُسِّمَ فيه بعض الأمراض النفسية من جديد باستخدام الأعراض التي تنتمي إلى أبعادٍ مختلفة، بدلًا من الفئات.

وتواجه فرضية الأبعاد هذه تحديًا واضحًا، يتعلق بتحديد عددها، وماهيّتها. ويصف ساترثوايت هذا التحدي بأنَّه “معضلةٌ كبيرة للغاية”.

وفيما يتعلق بهذا.. هناك نظريةٌ شائعة4أيَّدَتها دراسات عديدة على مدار العقد الماضي، تدعم وجود بُعْدين فقط. يشمل الأول جميع الاضطرابات «المُوجَّهة نحو الداخل»، مثل الاكتئاب، الذي تؤثر فيه الأعراض الأساسية على الحالة الداخلية للإنسان. ويقابله بُعْد الاضطرابات «المُوجَّهة نحو الخارج»، مثل فرط النشاط، واضطراب السلوك المُعَادِي للمجتمع، اللذين تتأثر فيهما استجابات الشخص للعالم الخارجي. وإذا شُخِّصَت أعراض شخص ما باضطرابين أو أكثر، تشير الدراسات إلى أنَّهما سيكونان من النوع نفسه على الأرجح.

لكنَّ الدراسات التي تتضمن كمياتٍ كبيرة من بيانات التصوير الدماغي، وتَستخدِم تقنيات تعلُّم الآلة، توصلت إلى نتائج مختلفة، وحدث ذلك حتى في تلك الدراسات التي يجريها المختبر نفسه. وعلى سبيل المثال.. في العام الماضي، نشر ساترثوايت ومجموعته دراسةً5 ضَمَّت 1141 شابًّا يعانون أعراضًا مُوجَّهة إلى الداخل، ووجدوا فيها أنَّه يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين، استنادًا إلى بِنْية الدماغ، ووظائفه. وفي عام 2018، قاد ساترثوايت دراسةً مماثِلة6، كشف من خلالها أربعة أبعاد، يرتبط كلٌّ منها بنمطٍ مختلف من الروابط الدماغية.

ويقول هيمان إنَّه في النهاية يمكن أن تحتوي طبعةٌ مستقبلية من الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية على فصولٍ مخصصة لكل بُعد، تسرد الاضطرابات المنتمية إليه، وأعراضها، وأي مؤشراتٍ حيوية استُدل عليها من أسسه الفسيولوجية والجينية. ويمكن في تلك الحالة أن يختلف تشخيص حالتين تعانيان أعراضًا متشابهة، لكن لديهما مجموعاتٌ مختلفة من الطفرات، أو التغيرات التشريحية العصبية، وأنْ تُعالَجا بطرقٍ مختلفة.

في الجينات

إحدى الركائز التي يعتمد عليها هذا النهج المستقبلي هي تحسين فهْمنا للأسس الجينية للأمراض العقلية. وفي العقد الماضي، صارت الدراسات التي تتناول تلك المسألة كبيرةً بما يكفي للخروج باستنتاجاتٍ مُحكمة.

تكشف الدراسات أنَّه ليس هناك جينٌ يسهم بمفرده إسهامًا كبيرًا في زيادة احتمالية الإصابة بمرضٍ نفسي ما، بل إنَّ هناك مئات الجينات، لكل منها تأثير صغير، إذ وجدت دراسةٌ7أُجريت في عام 2009 أنَّ هناك آلافًا من التغيرات الجينية تعزز قابلية الإصابة بمرض الفصام. وكان كثيرٌ من تلك التغيرات مرتبطًا أيضًا بالاضطراب ثنائي القطب، وهو ما يشير إلى أنَّ بعض الجينات يسهم في الإصابة بكلا الاضطرابين.

لا يعني ذلك أنَّ الجينات نفسها ضالعةٌ في جميع اضطرابات الدماغ، بل إنَّ الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ففي عام 2018، اكتشف فريقٌ بحثي يقوده كلٌّ من بنجامين نيل، عالِم الجينات بمستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن، وأيدن كورفن، أستاذ الطب النفسي بكلية ترينيتي في دبلن، أنَّ الاضطرابات العصبية -مثل الصرع، والتصلب المتعدد- تختلف من الناحية الجينية عن الاضطرابات النفسية، مثل الفصام، والاكتئاب8 (انظر شكل «الخريطة العقلية»).

بحثت هذه الدراسات جميعها في التغيرات الجينية الشائعة، التي تُعَد الأسهل في كشْفها، لكنَّ بعض الدراسات الحديثة ركّز -بدلًا من ذلك- على تغيراتٍ نادرة للغاية، تشير بالفعل إلى وجود اختلافاتٍ جينية بين الاضطرابات، إذ وجدت دراسةٌ أُجريت على أكثر من 12 ألف شخص9أنَّ المصابين بالفصام لديهم معدل مرتفع للغاية من الطفرات شديدة الندرة، وأنَّ تلك الطفرات كانت تختلف من فردٍ إلى آخر في كثيرٍ من الأحيان.

والنتيجة هي حالةٌ من الفوضى، إذ من الصعب في تلك الحالة توقُّع عوامل الخطر المشتركة بين الأمراض. وعن ذلك.. يقول نيل: “بعض تلك العوامل مشترَك على نطاقٍ واسع بعض الشيء بين الأمراض النفسية، في حين بعضها يخص بدرجة أكبر نوعًا واحدًا من الأمراض النفسية، أو بضعًا منها”.

العامل (بي)

“إذا كنتَ مصابًا باضطرابٍ ما، فمِن المرجح بشدة أن تكون مصابًا في الوقت نفسه باضطرابٍ آخر”.

طَرَحَ بعض الأطباء النفسيين فرضيةً متطرفة، يأملون في أن تتيح لهم فهْم حالة الفوضى هذه، إذ رأوا أنَّه إذا كانت الاضطرابات تشترك في الأعراض، أو تتزامن مع بعضها، وإذا كان كثيرٌ من الجينات يُسهم في الإصابة باضطراباتٍ متعددة، فربما يكون هناك عاملٌ واحد يجعل الناس عرضةً للإصابة بالأمراض النفسية.

اقترح تلك الفكرة للمرة الأولى في عام 2012 بنجامين لايهي، المتخصص في الصحة العامة بجامعة شيكاجو في ولاية إلينوي الأمريكية10. درس لايهي وزملاؤه أعراض 11 اضطرابًا، واستعانوا بعلم الإحصاء، لبحث ما إذا كان النمط الناتج يمكن تفسيره بوجود ثلاثة أبعادٍ مختلفة للأمراض النفسية، أم أن وجود مَيْل “عام” للإصابة بالأمراض النفسية إلى جانب تلك الأبعاد الثلاثة معًا يقدم تفسيرًا أدق. ووجدوا أنَّ النموذج الإحصائي يقدم نتائج أفضل عند تضمين عامل الميل العام.

وفي العام التالي، حظيت الفرضية بمزيدٍ من الدعم من الزوجين؛ أفشالوم كاسبي، وتيري موفيت، عالِمَي النفس بجامعة ديوك في مدينة دورهام بولاية كارولينا الشمالية، وأطلقا عليها كذلك اسمًا جذَّابًا، إذ استخدم الباحثان بياناتٍ خاصة بدراسةٍ طويلة الأمد، شملت 1037 شخصًا، ووجدا أنَّه يمكن تفسير معظم التباين في الأعراض بعاملٍ واحد فقط11. وأطلق كلٌّ من كاسبي، وموفيت على هذا العامل اسم “العامل (بي)”. ومنذ عام 2013، توصلت دراساتٌ متعددة إلى تلك النتيجة الجوهرية نفسها.

وأوضح كاسبي، وموفيت أنَّ “العامل (بي)” لا يمكن أن يفسر كل ما يتعلق بالأمراض النفسية، ولم يطرحا أي فرضياتٍ بشأن أسسه البيولوجية، لكنْ توقعا فقط أنَّ هناك مجموعةً من الجينات، ربما تكون سببًا في وجوده. ومن جهة أخرى.. اقترح باحثون آخرون أنَّ هذا العامل هو ميلٌ عام للإصابة بالأمراض النفسية، لكنَّهم أضافوا أنَّ هناك عوامل أخرى، مثل التجارب الضاغطة، أو تغيراتٍ جينية ما، تدفع الشخص ليعاني أعراضًا مختلفة12. وإذا صح ذلك الافتراض، فإنَّه يشير إلى أمرٍ مذهل، هو احتمالية وجود عاملٍ واحد يمكن استهدافه لعلاج الاضطرابات النفسية.

وهناك بالفعل مؤشراتٌ على أنَّ العلاجات المُعمَّمة للأمراض النفسية يمكن أن تتسم بالفعالية ذاتها التي تميز العلاجات الموجَّهة، إذ قَسَّمت دراسةٌ13 أُجريت خلال عام 2017 عددًا من المرضى المصابين باضطرابات القلق -مثل اضطراب الهلع، أو اضطراب الوسواس القهري- عشوائيًّا على مجموعاتٍ مختلفة، لتلقِّي إما علاجٍ خاص بالاضطراب الذي يعانونه، أو علاجٍ عام. وقد كان نوعا العلاج فعَّالَيْن بالقدر ذاته.

وتتمثل الخطوة الأولى نحو تطوير علاجاتٍ قائمة على “العامل (بي)” في اكتشاف أساسٍ فسيولوجي له، لكنَّ الباحثين لم يلحظوا إشاراتٍ على وجوده في البيانات الجينية، وبيانات التشريح العصبي، سوى في السنوات القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال.. كشفت دراسةٌ14 تتناول الأسس الجينية للأمراض النفسية في مجموعة من المرضى بالمملكة المتحدة “صورةً جينية من ذلك العامل”، تتمثل في مجموعةٍ من الجينات، بها تغيراتٌ أسهمت في زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية.

وفي الوقت نفسه، بحثت فِرَق بحثية أخرى عن تغييرٍ تشريحي عصبي يحدث في أمراضٍ نفسية متعددة. وكانت النتائج مثيرةً للاهتمام، لكنَّها متناقضة، إذ وجدت دراسةٌ15 تناولت ستة أمراضٍ نفسية أنَّ المادة الرمادية في الدماغ قد انكمش حجمها في ثلاث مناطق تسهم في معالجة المشاعر، هي: الجزء الظهراني من القشرة الحزامية الأمامية، والجزءان الأيمن والأيسر من القشرة الجزيرية، لكنَّ الدراسات اللاحقة التي أجرتها أدريان رومر، المتخصصة في علم النفس الإكلينيكي، التي تعمل حاليًّا في كل من كلية الطب بجامعة هارفارد، ومستشفى ماكلين في مدينة بلمونت بولاية ماساتشوستس، حددت ثلاث مناطق مختلفة تمامًا، تؤدي وظائف تشمل إدارة الحركات والوظائف الجسدية الأساسية16، ألا وهي جسر فارول، والمخيخ، وجزء من القشرة الدماغية. وربما يكون أحد مفاتيح فهْم ذلك التناقض هو التركيز على الوظيفة التنفيذية للدماغ، أي قدرته على تنظيم السلوك، عن طريق التخطيط، والانتباه، ومقاومة الرغبات، وهو ما يعتمد على عديدٍ من مناطق الدماغ. وقد وجد كلٌّ من رومر وساترثوايت في دراساتٍ منفصلة اختلالاتٍ في الوظائف التنفيذية للدماغ في مجموعةٍ مختلفة من الأمراض النفسية18،17، وأثار ذلك شكوكهما في أنَّ هذه الاختلالات يمكن أن تكون أساس “العامل (بي)”.

ويتفق معظم العلماء على أنَّ ما نحتاج إليه هو مزيدٌ من البيانات، وما يزال الكثيرون غير مقتنعين بهذه التفسيرات البسيطة. يقول نيل: “لستُ واثقًا تمامًا مِن أن هذا هو ما سنكتشفه في النهاية”. ويضيف أنَّه على المستوى الجيني -على الأقل- هناك كثير من الاضطرابات التي ما زالت غير مفهومة بوضوح، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب القلق العام.

ويرى هيمان أنَّ جميع هذه الفرضيات العامة سابقة لأوانها، ويضيف قائلًا: “أعتقد أنَّ الوقت قد حان لقَدْرٍ أكبر من البحوث التجريبية، بدلًا من هذه التنظيرات العامة”.

References

  1. Plana-Ripoll, O. et al. JAMA Psychiatry 76, 259–270 (2019) | article
  2. Ronald, A., Simonoff, E., Kuntsi, J., Asherson, P. &Plomin, R. JChild Psychol. Psychiatry 49, 535–542 (2008) | article
  3. Grisanzio, K. A. et al. JAMA Psychiatry 75, 201–209 (2018) | article
  4. Krueger, R. F. & Eaton, N. R. World Psychiatry 14, 27–29 (2015) | article
  5. Kaczkurkin, A. N. et al. Biol. Psychiatry 87, 473–482 (2020) | article
  6. Xia, C. H. et al. Nature Commun. 9, 3003 (2018) | article
  7. The International Schizophrenia Consortium. Nature 460, 748–752 (2009) | article
  8. The Brainstorm Consortium et al. Science 360, eaap8757 (2018) | article
  9. Genovese, G. et al. Nature Neurosci. 19, 1433–1441 (2016) | article
  10. Lahey, B. B. et al. J. Abnorm. Psychol. 121, 971–977 (2012) | article
  11. Caspi, A. et al. Clin. Psychol. Sci. 2, 119–137 (2014) | article
  12. Lahey, B. B., Krueger, R. F., Rathouz, P. J., Waldman, I. D. & Zald, D. H. Psychol. Bull. 143, 142–186 (2017) | article
  13. Barlow, D. H. et al. JAMA Psychiatry 74, 875–884 (2017) | article
  14. Selzam, S., Coleman, J. R. I., Caspi, A., Moffitt, T. E. & Plomin, R. Transl. Psychiatry 8, 205 (2018) | article
  15. Goodkind, M. et al. JAMA Psychiatry 72, 305–315 (2015) | article
  16. Romer, A. L. et al. Mol. Psychiatry 23, 1084–1090 (2017) | article
  17. Elliott, M. L. et alBiol. Psychiatry 84, 452–459 (2018) | article
  18. Shanmugan, S. et alAm. J. Psychiatry 173, 517–526 (2016) | article

 

رابط المصدر:

https://arabicedition.nature.com/journal/2020/06/d41586-020-00922-8/%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A9

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M