هدى رؤوف
تطرح التحرّكات التركية الأخيرة في ليبيا، ودخولها بشكل معلن على خط الحرب الليبية، وتقديم الدعم العسكري إلى حكومة الوفاق المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، كثيراً من التداعيات الخطيرة غير المرتبطة بمنطقة شمال أفريقيا فقط، إذ يرتبط التدخل التركي بأهداف النظام ذي التوجه الإسلامي، الراغب بقوة في عودة الخلافة العثمانية المنهارة.
التطورات الأخيرة في ليبيا تحديداً سلّطت الضوءَ على ما يُعرف بالنظام الإقليمي العربي، وضرورة إحيائه، أو الاتفاق على خطوط عريضة، تضمن مصالح أطرافه الرئيسة التي تواجه تحديات تستهدف تغيير ميزان القوى بالمنطقة لصالح الأطراف غير العربية، مثل تركيا وإيران.
الدولتان لا تختلفان عن بعضهما بعضاً، كما تستهدف سياستهما الخارجية الوصول إلى الغاية نفسها، وهي فرض إمبريالية تركية، وهيمنة إيرانية على المنطقة. إذ عملت أنقرة على تتريك الهُوية العربية في شمال سوريا التي احتلت أراضيها، كما توظّف العامل الأيديولوجي والهُوية مثل إيران، فتحاول تتريك المدن السورية من خلال إطلاق أسماء العسكريين الأتراك على المدارس السورية، وفرض اللغة التركية. الأكثر سوءاً في السلوك التركي هو احتلال أراضٍ عربية، فضلاً عن نقل معدات وجنود وميليشيات مرتزقة بشكل معلن إلى ليبيا.
هنا الخطر في ليبيا متشابك ومتداخل. أولاً هذا السلوك العسكري الأخير ينذر بانهيار ملامح النظام الإقليمي العربي، ليحلّ محله نظام شرق أوسطي السيادة فيه لتركيا، ففي أدبيات العلاقات الدولية يوجد تعريفٌ للنظام الإقليمي بأنه حال قدرة دولة على نقل جيشها إلى عاصمة دولة أخرى، هذا يوحي بأنه نظام إقليمي، وهذا ما تريد أن تؤسسه تركيا. ثانياً، تحاول أنقرة من خلال دعم حكومة الوفاق وعبر الارتباط العضوي والأيديولوجي مع تنظيم الإخوان المسلمين إعادة دمجهم في النظام السياسي بكثير من الدول العربية، التي عرفت تظاهرات منذ 2011. لكن، فشل المشروع التركي بقيام ثورة الـ 30 من يونيو (حزيران) في مصر، ليسقط المشروع الإخواني.
وشكّل التحالف العربي المكوّن من مصر والسعودية والإمارات دعامة أساسية لحفظ الأنظمة العربية من المشروع التركي. إلا أن تدخل أنقرة المعلن في ليبيا ودعم حكومة الوفاق التي تدعمها ميليشيات الإخوان المسلمين يعدُّ محاولة جديدة من جانب تركيا لإعادة تمكين المشروع الإخواني، الذي لن تقتصر أطماعه على النظام السياسي بليبيا فقط، بل سيحاول التمدد نحو باقي دول المنطقة العربية. انطلاقاً من الارتباط العضوي والأيديولوجي الذي يدفع بالعضو الإخواني إلى دعم نظيره في أي قطر عربي.
ولا شكّ أن وجود حكومة ليبية ذات توجه إسلامي سيدفع إيران إلى فتح علاقات معها على غرار التعاون مع حماس والتنظيمات الفلسطينية، فضلاً عن محاولتها إعادة العلاقات مع مصر خلال حكم الإخوان المسلمين، بالتالي دعم التأثير الإيراني في شمال أفريقيا.
وعملت إيران على تقديم نموذج إسلامي عابر حدودها، وتسعى إلى نشره بالمنطقة، وفي المقابل تتصدّى السعودية إلى النموذج الإيراني، وتعتبره تهديداً للداخل، لا سيما في ظل علاقتها بالشيعة في كثير من دول الخليج، وفي الوقت نفسه تعدُّ السعودية حليفة لمصر، ومع ذلك لم تنجح في تشكيل تحالف سنّي يشمل مصر وتركيا. إذ تشهد العلاقة بين أنقرة (تحت حكم حزب العدالة والتنمية) والقاهرة صداماً في ظل دعم تركيا جماعة الإخوان المسلمين، التي في صراع مع نظام الحكم الحالي بمصر.
كما أنّ السعودية تخشى النفوذ التركي المنافس لها، إذ تقدّم أنقرة صورتها دولةً مسلمةً سنية داعمة الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي، عبر تأييد تنظيمات الإسلام السياسي بالتشارك مع دولة قطر. ثالثاً، تحاول تركيا تقديم نفسها نموذجاً للعالم الإسلامي السُّني، وممثلة له أمام العالم، وأنها داعمة الإصلاح السياسي، ومِفتاح الحل في كثير من ملفاته، فضلاً عن محاولة إظهار أنها ذات قوة على سواحل البحر المتوسط، وهو ما يتشابه مع النهج الإيراني الذي يقوم على نسج علاقات بأساس شيعي. ربما كان الأخطر في النهج التركي أن تركيا دولة سنية، وتؤسس علاقتها بالأحزاب السياسية في المجتمعات العربية، في حين إيران لا يمكنها ادّعاء تمثيل العالم الإسلامي، نظراً إلى قلة عدد الشيعة بالمنطقة.
وجدير بالذكر، أن أهم العوائق التي حالت دون تشكيل تحالف سني في مواجهة إيران هو العلاقات بين تركيا وإيران، إذ تشترك مع طهران في الحدود، وأنقرة عضو في “الناتو”، وتعدّ إيران هي المورّد الرئيس للنفط والغاز الطبيعي إلى تركيا من خلال خط أنابيب مشترك، كما أن هناك تفاهماً في ما يتعلق بالموقف من القضية الكردية بالمنطقة، ومنع محاولات إقامة دولتهم الخاصة، كما دعّمت تركيا إتمام خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والغرب، ودانت انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق بعد مجيء الرئيس دونالد ترمب.
وبعد الانقلاب عام 2016، شهدت العلاقات الثنائية بين أنقرة وطهران دفعة كبيرة، جرى تعزيز هذا التقارب من خلال المواقف المتقاطعة بين البلدين بشأن كل من الموقف المشترك المؤيد قطر في الخلاف الأخير بين الدوحة وبعض الدول العربية، وتزايد العلاقات المضطربة مع الولايات المتحدة.
والتفاهم والتنسيق الإيراني التركي في المنطقة لهما أسبابهما السياسية والاقتصادية والأمنية. فإيران المورّد الثاني للغاز الطبيعي لتركيا بعد روسيا. فضلاً عن صفقات لها علاقة باستكشاف شركات تركية الغاز الطبيعي في إيران، لتصديره من تركمانستان إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا عبر خط أنابيب من إيران. والجليّ في تلك العلاقة كيفية توظيفها من قِبل الجانبين لتطويق المصالح العربية بالمنطقة من جانب لجهة مصالحهما وتوظيف كل منهما الآخر.
إن تحرّك الدولتين معاً وزيادة نفوذهما ستضعهما الولايات المتحدة ودول أوروبا في الحسبان عند رسم السياسات المستقبلية بالمنطقة. وليس صحيحاً أن الماضي الذي شهد عداءً بين الصفويين والعثمانيين يُلقي بظلاله على العلاقات التركية الإيرانية المعاصرة، بل إن العامل الحاسم والمتحكّم في مسار علاقتهما، وفقاً لمتغيرات الشرق الأوسط والنظام العالمي حاليّاً، هو تعزيز مصالحهما الوطنية، وهو ما يفسّر صيغة التنافس، لكن غلب التنسيق في معظم الملفات الإقليمية لإحلال مشروعين متفاهمين ومتوافقين، أحدهما إمبريالي تركي، والآخر إيراني بديلاً للنظام الإقليمي العربي الذي لا بدّ من إعادة الاعتبار إليه مرة أخرى، لأنه النظام الوحيد الذي يضمن المصالح العربية على المستويين القطري والإقليمي.
رابط المصدر: