يلاحظ المتابع لملف العلاقات العراقية- الامريكية منذ نحو 17 عاما خلت، أن الجانب العراقي يطرح دائما إشكالية الفرصة الضائعة، ربما بسبب سيطرة الاحزاب السياسية الشيعية المنسجمة مع سياسة إيران في المنطقة على الملف السيادي في الحوار الاستراتيجي بين المفاوض الامريكي والعراق.
الأزمات العميقة التي تعرض لها الداخل العراقي، والتحولات الكبرى التي شهدها العالم بسبب جائحة كورونا وانحدار أسعار النفط، من المفترض ان تدفع المفاوض العراقي الى إعادة النظر مرة اخرى بالعلاقات العراقية-الامريكية، وفق معادلة “لا غنى للعراق عن امريكا وحلفائها ولا تعدي على جوار إيران”.
تراهن الولايات المتحدة الأمريكية، على التنسيق مع القوات المسلحة العراقية فـيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، باعتبارها قوة موثوقا بها وحليفا ينتمي الى التحالف الدولي لهزيمة تنظيم داعش.
بالنظر إلى امتلاك العراق الموارد البشرية الكثيرة في هـذا المجال، خصوصا أن منطقة شمال وغرب وشرق العراق التي تشهد عودة نمو مفارز وفلول داعش بهجمات تعرضية أمنية غـير مطمئنة بسبب غياب أدوار التحالف الدولي في تقديم الاسناد للقيادة المشتركة العراقية ولأسباب مختلفة، يجعل القوات المسلحة العراقية في قلب الحدث، إلى جانب تفاقم الأزمة الصحية والاقتصادية التي كان لها انعكاسات إقليمية ودوليـة هامة.
وتبحث واشنطن عن تأمين مصالحها ومصالح حلفائها في العراق، مما دفع بها إلى قبول طلب العراق في 24 حزيران يونيو 2014 مساعدته عسكريا لصد هجمات تنظيم داعش ومن ثم أيلول 2014 لتشكيل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في العراق وسورية، واختيار مجموعة حلفاء من دول المنطقة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وعلى رأسها العراق.
كـما شددت الخارجية الامريكية على أهمية التعاون مـع العراق في جميـع المجـالات لاسيما مكافحة الإرهاب في المنطقة، وأن الولايات المتحدة تعتبر قوات مكافحة الإرهاب العراقية أقوى المرشحين لقيادة القاطرة في المنطقة العربية بـالنظر إلى قيادتها المهنية وقـدرتها عـلى الحفاظ على عامل الاستقرار والسلم.
وتمثل مكافحة الإرهـاب أولوية في العلاقات الثنائية الأمريكية- العراقية، وبعد أيار مايو 2018 اصبحت لدى واشنطن علاقة صعبة مع ايران، فخلال عامين فرضت الولايات المتحدة المزيد من العقوبات الأحادية على ايران واذرعها في العراق وسورية ولبنان، إلا أن العلاقات بين البلدين تشنجت في أعقاب هجمات حادثة محيط مطار بغداد الدولي في 3 أيار مايو 2020، وبعد قرار البرلمان العراقي في 5 أيار مايو 2020 بانهاء الوجود العسكري الأجنبي على الأرض العراقية، أغلقت النوافذ العلنية والسرية، واصبح تهديدا للمسؤول العراقي ان يعيد تنشيط تلك النوافذ الحوارية، الأمر الذي حمل واشنطن على اقتراح حوار امريكي- عراقي ينطلق من قاعدة الاتفاقية الامريكية- العراقية عام 2008، لإعادة النظر والرأي بخصوص 30 ملفا حيويا بين العراق وامريكا، ووافقت حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة على هذا الاقتراح ونظمت جدولا خاصا واسست نافذة للحوار، تبدأ بالخبراء وتنتهي بأعلى المناصب مرورا بالبرلمان حسب قانون عقد المعاهدات رقم 35 لعام 2015.
وحتى قبل أن تجري واشنطن حوارا استراتيجيا مع العراق، كانت إدارة ترامب قد عقـدت تفاهما ثنائيا مع شخص الكاظمي ومن قبله عادل عبد المهدي بناءً على الأسس التي رسخها الدكتور حيدر العبادي في عامي 2016 و2017، حـول مكافحة الإرهاب.
وقـد تواجه الـدولتان تظاهرات غاضبة من جمهور الأحزاب المنسجمة مع سياسية إيران في المنطقة، ومن الواضح أيضا أن لدى تلك الأحزاب أغلبية برلمانية سياسية من شأنها أبطال الاتفاقية التي تحتاج الى تصويت 220 نائبا برلمانيا حسب قانون رقم 35، وهذا يعني أن تقاربا طبيعيا مع واشنطن بخصوص ملف مكافحة الإرهاب يستلزم بقاء القواعد ومجموعة من الاختصاصات ذات الأدوار المختلفة سيكون معقدا من حيث؛ في حالة فشل الحوار في هذا الملف فان الولايات المتحدة قد تلجأ الى خيارين:
الأول: مواصلة البقاء بشكل غير مقنن وبدون اعتبار للحكومة العراقية، مما سيسبب للأخيرة الكثير من الاحراج، خصوصا في حالة حصول تصعيد مع الفصائل المناهضة لهذا الوجود.
الثاني: الانسحاب الكامل مع فرض اجراءات اقتصادية مؤذية للعراق، مثل انهاء الاستثناء الممنوح له لاستيراد الغاز الايراني، وعرقلة وصول العراق الى الدولار الامريكي وعدم دعم العراق في مسعاه الحصول على استعداد ائتماني من صندوق النقد الدولي او تلبية طلباته من البنك الدولي، ستشمل تلك الاجراءات ايضا تفكيك التحالف الدولي المناهض لداعش نظرا الى ان معظم دول التحالف تهدد بالانسحاب ان خرج الامريكيون، وسيفقد العراق الدعم الفني لصيانة انظمة الاسلحة القتالية الرئيسية بما في ذلك طائرات اف-16 ، ولن تقود الولايات المتحدة جهود ضمان تمويل قوي لدور الامم المتحدة وبعثة يونامي، مع احتمالية انحسار التواجد السياسي والدبلوماسي الغربي وفرض شبه عزلة سياسية ودبلوماسية على العراق.
وفي ظل تنامى الخطر الإرهابي في جغرافيا العراق وسورية، لابد أن يستمر الحرص الأمريكي والتحالف الدولي على التعاون مع العراق في ملفات الاقتصاد والامن والدعم الاممي والدبلوماسي والاستثمار، لاسيما في ظـل وصول استخبارات العراق إلى معلومات تشير إلى وجود هيضة لمفارز فلول داعش في المناطق المفتوحة في شرق وغرب العراق، وأيضا عودة التنسيق بين عدد مـن الجماعـات الإرهابية الناشطة في سورية والعراق مع وتنظيم “داعش” في العراق، وفي ظل الحديث عن إمكانية تحييد ومنع تشكيل هذا التنظـيم نسخة له في العراق وفق تجربته خلال الأعوام 2014-2017، فلا بد من إبقاء التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وفق ادوار يتفق عليها الطرفان وأيضا تنظيم جدولة زمنية ومكانية لانسحاب الموارد البشرية القتالية للتحالف الدولي من الجغرافيا العراقية.
هناك أبعاد مختلفة لمعالجة نمو الجماعات الإرهابية في العراق وسورية تتطلب تبني مجموعة من البرامج الاجتماعية والثقافية وحلول فعالة لمشكلات انتشار البطالة والفقر والتهميش والفساد بين هياكل الحكومة في العراق.
ومن ناحية ثانية، يظـل قصور سيادة العراق على الهياكل الأمنية والعسكرية يشكل عائقا كبيرا أمام تمكين الاسـتقرار في المنطقة، فعلى الرغم من سـعي الحكومات المتعاقبة على حل مشكلة السلاح السائب والمليشيات التي تقاتل بعقيدة عابرة لحدود الوطنية والقانون العراقي، إلا أن ضعف القدرات الحكومية ونقص التمويل يظل عائقا أمام تحقيق هـذا الهدف، وخاصة في ظل بروز أنواع جديدة مـن الصراعات واعـمال العنـف غـير التقليديـة التي تحتاج إلى مهـارات سياسية وامنية وقضائية خاصـة للتعامل معها مثل الجماعات الخارجة عن القانون، مما يدفع في اتجاه الاعتماد بصورة متزايدة على الدعم الدولي والقوى الخارجية باسـتعادة الاستقرار في العراق.
ومن ناحية ثالثة، فإن التطورات التي تشهدها محافظات جنوب ووسط العراق من تدهور الثقة بين الشعب والحكومة وحالات اخفاق الدولة الوطنية في معالجة الخلل بالعدالة الاجتماعية في تلك المحافظات كنتيجة لفساد أنظمـة الحكم وانتشار اجـراءات الاصلاح السياسي الشكلية التي لا تعبر عن مشاركة حقيقية لكافة الجماعات المشكلة للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية وبما يعنى اختفاء احتياجات بعض الجماعات في اطار البرامج السياسـية والاقتصـادية، ولجوء بعض هذه الجماعات للعنف او التمرد للقضاء على الانظمة الفاسدة وتغيير شكل الحكم، إلا ان اندفاع هذه الجماعات بعيدا عن الاطر القانونية أو استمرار الاستخدام القسري للعنـف ضدها قد يؤدى إلى تهديد بقاء النظام السياسي للدولة، وتعطيل هذا التهديد بحاجة الى اقتصاد تسنده أمريكا وحلفائها في تلك المحافظات لتقليل الفقر والبطالة والمشاكل التعليمية والصحية.
رابط المصدر: