عصر ما بعد سليماني

الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي

 

في الثالث من كانون الثاني-يناير 2020 قُتل الجنرال الإيراني المشهور قاسم سليماني او “الشهيد الحي” كما يسميه السيد علي خامنئي (المرشد الأعلى للثورة) بعملية عسكرية أمريكية نفذتها طائرة مسيرة على طريق مطار بغداد الدولي، راح معه فيها عدد من القادة العسكريين والمرافقين المدنيين من الإيرانيين والعراقيين أبرزهم أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق (تنظيم عسكري متعدد الفصائل تم تشكيله بعد سيطرة داعش على الموصل عام 2014 استجابة لفتوى الجهاد الكفائي التي اطلقها –آنذاك-المرجع الديني السيد علي السيستاني)، فحبس العالم أنفاسه بعد هذا التاريخ، خشية احتمال حصول مواجهة عسكرية مباشرة بين واشنطن وطهران، على أثر موجة متصاعدة من التهديدات المتبادلة بين الطرفين.

ولم تهدأ المخاوف الإقليمية والدولية الا بعد ان نفذت طهران سلسلة من الهجمات الصاروخية على مواقع عسكرية أمريكية في محافظتي أربيل والانبار العراقيتين، لم يسفر عنها وقوع قتلى في صفوف الأمريكيين، في الثامن من الشهر نفسه.

ان هذه الاحداث المرعبة لم تكن وليدة ساعتها، بل جاءت تتويجا لمسيرة طويلة من الاستفزازات المتبادلة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الامريكية، بداياتها البعيدة انطلقت عقب انتصار ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979، اما مظاهرها القريبة فبدأت بانسحاب واشنطن من اتفاق (5+1) او ما يسمى بالاتفاق النووي مع طهران عام 2015، لتستمر بعد هذا التاريخ بأشكال ومستويات عديدة، وفي أكثر من ساحة إقليمية (العراق، بيروت، سوريا، اليمن، السعودية…)، شملت التعرض لناقلات النفط في مضيق هرمز، واسقاط طائرة مسيرة أمريكية في مياه الخليج، وضرب مصافي شركة أرامكو النفطية في السعودية، وقصف مواقع عسكرية أمريكية في العراق وسوريا، لتكون حادثة اقتحام السفارة الامريكية في بغداد أواخر شهر كانون الأول-ديسمبر 2019 القشة التي قصمت ظهر البعير، لتنطلق بعدها موجة التصعيد الأخيرة التي انتهت بمقتل سليماني والقصف الصاروخي الإيراني.

ولا يمكن النظر الى مقتل سليماني على انه مجرد حدث عابر في مسيرة الصراع بين أمريكا وإيران، بل هو حدث أوصل الأمور الى حافة الهاوية فعلا، وتجاوز قواعد اللعب المتعارف عليها بين الطرفين، لذا يحتاج الى التأمل كثيرا في تداعياته، وتحليل ما يمكن ان يتركه من انعكاسات مستقبلية على مستوى العراق والشرق الأوسط؟

الأهمية الاستراتيجية لقاسم سليماني 

ليس سليماني مجرد قائد عسكري في جيش إيراني قوامه مئات الألوف، بل هو قائد قوة القدس الإيرانية للمهمات الدولية في الحرس الثوري الإيراني لأكثر من 15 سنة، خدم مصالح بلاده في اعقد الساحات، وأكثرها حرجا وصعوبة، وحقق فيها الانتصار.

لقد أصبح سليماني رمزا قوميا بالنسبة للقيادة والشعب في إيران، حتى لقب بانه “وريث قورش”، وهو العقل المدبر للسياسة الإيرانية في الخارج، كما يعد من أبرز صقور الحرس الثوري، فيما يراه البعض “مدير مشروع التمدد الإيراني في العالم”، وتربطه علاقات قوية مباشرة بجميع الفصائل العسكرية المعادية لواشنطن وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط.

إزاء كل هذه الكاريزما القيادية والتأثير المعنوي، كانت عملية قتل سليماني قرارا أمريكيا جريئا للغاية، لذا عده الصحفي البريطاني (باتر يكاراكوس) بأنه “الاغتيال الأكثر أهمية في الشرق الأوسط في القرن الـ 21″، وأنه ” أكثر أهمية من مقتل زعيم تنظيم القاعدة السابق (أسامة بن لادن)”. اما المحلل الأمريكي للشؤون الإيرانية (تشارلز ليستر) فرأى أن الحادثة “تتفوق الى حد بعيد على مقتل زعيم القاعدة (أسامة بن لادن)، أو مؤسس داعش (أبو بكر البغدادي) من حيث الأهمية الاستراتيجية والآثار المترتبة…”، وقد شاركه الرأي نفسه زميله (فيليب سميث).

خلاصة الامر، سليماني كان يمثل رمزا لقوة طهران في الشرق الأوسط والعالم، وقد أراد الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) بقتله ارغام إيران على مراجعة حساباتها في التعامل مع واشنطن وحلفائها، واللعب وفقا لقواعد جديدة، يتم فيها تغيير قواعد اللعبة بين الطرفين.

حسابات الربح والخسارة للأطراف ذات العلاقة بعد مقتل سليماني 

حسب معطيات الساحة العراقية، فان هناك نوعين من الأطراف تأثرت مصالحها-سلبا ام إيجابا-بحادثة مقتل سليماني يمكن تسميتها بالأطراف المباشرة، وهي كل من: الولايات المتحدة الامريكية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، والعراق. والأطراف غير المباشرة، وتمثل كل من: روسيا الاتحادية، والجمهورية العربية السورية، ولبنان، وإسرائيل، ودول الخليج العربي. ونظرا الى ان مصالح الأطراف غير المباشرة ستحكمها متغيرات الصراع بصيغتها الشرق أوسطية الشاملة، مع تبادلها التأثير والتأثر – بشكل أو آخر-مع مصالح كل من طهران وواشنطن، لذا سيتم التركيز هنا فقط على حجم الربح والخسارة للأطراف المباشرة.

لقد سبق لكاتب هذه الورقة البحثية ان نشر مقالا حول الموضوع باسم (الرابح والخاسر بعد حادثة اغتيال قاسم سليماني؟) تم نشره في الموقع الالكتروني لمركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء، وفي عدد من المواقع الالكترونية الشرق أوسطية، اذ كشف المقال أن واشنطن ربحت الكثير من الحادثة، فقد تمكنت من “ارسال رسالة واضحة الى طهران وحلفائها في المنطقة والعالم، بأنها (أي واشنطن) مستعدة للإقدام على أفعال غير متوقعة وجسيمة الضرر ضد أي طرف يهدد مصالحها أو حياة مواطنيها”، وهذه الرسالة القوية، ستكون كافية جدا لتعزيز “قدرتها في ردع خصومها” سواء في الشرق الأوسط ام على مستوى العالم. كما ان واشنطن بقتلها لسليماني تخلصت ” من قيادة عسكرية سببت لها المشاكل لسنوات طويلة في العراق والشرق الأوسط”، وهذا المصير سيراود الكثير من القيادات العسكرية والسياسية التي تفكر بمهاجمة او تهديد مصالح الولايات المتحدة، لأنهم سيعرفون ان قرار التخلص منهم سيتخذ بسهولة أكبر وبشكل أسرع. فضلا على ما تقدم، استطاعت واشنطن تعزيز صورتها التي تراجعت كثيرا في نظر حلفائها الإقليميين والدوليين، كقوة عظمى ليس من السهل استفزازها او تحديها.

إضافة الى المكاسب الخارجية لواشنطن، استطاع الرئيس الأمريكي (ترامب) تعزيز رصيده الداخلي من خلال ” زيادة شعبيته، لدى شيوخ ونواب حزبه الجمهوري، ولدى مناصريه من عامة الشعب، واستطاع احراج مناوئيه في الحزب الديمقراطي، والضغط عليهم في سنة انتخابية”، وهذا مكسب كبير للإدارة الحالية في وقت حرج تحتاج فيه الى توظيف كل الفرص لتجديد انتخابها.

اما إيران، فعلى الرغم من خسارتها الرجل الثاني بعد مرشدها، الا انها لم تخرج من الازمة بلا مكاسب، وذلك لان الظروف التي جعلت واشنطن والشرق الأوسط والعالم يعيشها للمدة من الثالث ولغاية الثامن من كانون الثاني-يناير، وطريقة ادارتها لمجريات الاحداث “أثبتت لواشنطن أنها خصم عنيد قادر على خلق مشاكل جمة لمصالحها الحيوية ولحياة مواطنيها في الشرق الأوسط، فضلا على قدرته على الاضرار بحلفائها المباشرين في تل ابيب والخليج العربي”. كما ان ردها المتوازن –نوعا ما-على مقتل قائدها العسكري، كشف للعالم انها ” لاعب إقليمي كبير، غير متهور، ويتمتع بضبط النفس، واللعب بشكل متكافئ يحمي مصالحه ومصالح البلدان الأخرى، وترسيخ مصداقيتها في رسم السياسية الدولية. وستكون لذلك نتائج إيجابية طيبة في المستقبل على أي مفاوضات تجريها طهران مع واشنطن وحلفائها الاوربيين”.

كذلك اعطى الحادث القيادة الإيرانية فرصة مذهلة للتخلص من تبعات قمعها الدموي العنيف للاحتجاجات الشعبية داخل إيران، لاسيما تلك التي اندلعت بعد زيادة أسعار الوقود في الخامس عشر من تشرين الثاني –نوفمبر 2019. واستطاعت هذه القيادة استثمار عملية التشييع المهيب لسليماني، واجواء الحزن القومي الإيراني لاستعادة شعبيتها من جديد، وتعبئة الجماهير خلفها، لاسيما جناحها المتطرف.

ولكن ما أضعف مكاسب طهران–نسبيا-هو ذلك الحادث غير المتوقع والمفاجئ، والذي لا زال لغزا، الا وهو اسقاط الطائرة الأوكرانية التي كان على متنها أكثر من 160 مسافر من جنسيات مختلفة بينها الجنسية الإيرانية، بواسطة صاروخ ارض-جو إيراني في نفس ليلة الهجوم الإيراني على القواعد العسكرية الامريكية في العراق. الا أن حجب الصورة عن المكاسب اعلاه لن يبطلها بكل حال من الأحوال.

وبالانتقال الى العراق، ذلك البلد الذي شكل مسرح الاحداث، وسبب تصاعدها، فيبدو انه خرج الخاسر الأكبر بين الأطراف المباشرة ذات العلاقة، اذ “فقدت الدولة العراقية سمعتها الدولية كصاحبة سيادة لها القدرة على السيطرة على الاحداث التي تجري فوق أرضها. وهذا اعطى انطباعا كبيرا (له ما يبرره) لدول جوار العراق ودول العلم الأخرى، بان مصالحهم وحياة مواطنيهم في هذا البلد لا يمكن حمايتها”. وهذه السمعة الدولية غير الجيدة لبغداد، سوف تضعف مستقبلا قدرة المفاوض العراقي في المفاوضات التي يكون هو طرفا فيها؛ لأنه سيكون الطرف الأضعف في أي معادلة شرق أوسطية قادمة في ظل وجود بيئة إقليمية لا تحترم الضعفاء، ولا تحمي مصالحهم وحقوقهم.

اما داخليا، فقد زادت الاحداث من انعدام الثقة بين الحكومة العراقية والطبقة السياسية من جهة، وبين الشعب العراقي من جهة أخرى، اذ أخذ “العراقيون لا يثقون بقدرة حكومتهم وقواهم السياسية في المحافظة على حياتهم ومصالحهم وهيبة دولتهم”، وهذه الفجوة بين الجانبين ستزداد اتساعا مستقبلا ما لم يتم تداركها بقرارات حازمة وجريئة تتخذها الحكومات العراقية القادمة. كما ساهم قتل سليماني، وما تبعه من مواقف سياسية متباينة للقوى السياسية العراقية-لاسيما الشيعية-في تفسير الاحداث، ومن الوجود العسكري الأجنبي على الأرض العراقية في زيادة الانقسام والتباعد بين هذه القوى.

هذا الانقسام، وما سيحدثه من تطورات لاحقة، وانقسام في المصالح لا يمكن انكاره سوف يزيد من تعقيد المشهد السياسي العراقي، الذي هو معقد بالأصل، وسيجعل التوصل الى حلول او اتفاقات مشتركة امرا بالغ الصعوبة.

حتمية ظهور قواعد جديدة للصراع بين واشنطن وطهران

لن تكون قواعد الصراع بين واشنطن وطهران بعد سليماني كما كانت قبله اطلاقا، اذ يرى (دانيال بيمان) أن مقتل سليماني مثل ” نقطة تحول مهمة في علاقات الولايات المتحدة بالعراق وايران، وسيؤثر بشكل كبير على الموقف الأمريكي الشامل في الشرق الأوسط”، اما (كيللي ماجسمان) فيعتقد أن واشنطن تحتاج في هذه المرحلة الى “استراتيجية أوسع من مجرد الرد على التحركات التكتيكية لإيران، والبحث عن آلية لحل تلك الأزمة القائمة في العلاقة مع طهران” وتجنب الانزلاق الى حرب واسعة معها، من خلال التنسيق مع الحلفاء، وفتح قناة دبلوماسية بين الطرفين، ولو من خلال طرف ثالث.

ان واشنطن تدرك ان إيران سوف لن تتوقف عن تعزيز شبكة علاقاتها الإقليمية في مناطق التماس المباشر معها ومع حلفائها، وستحاول بشكل أو آخر الاستمرار في خلق العراقيل أمام المصالح الامريكية، ولكنها تعلم –أيضا-ان كبح جماح إيران عن طريق الحرب سيكون خيارا مكلفا للغاية لكلا الطرفين، ويبدو ان كلاهما غير مستعد لتحمل تبعاته في هذه المرحلة. نعم كشف البيت الأبيض عن جديته في الحاق الضرر بمصالح طهران وحلفائها، وتهديد الرؤوس الكبيرة التي يمكن ان تقف في وجهه، وانه لن يتحمل المزيد من استفزازات إيران ومشاكساتها، لكنه لم يتخذ قرارا نهائيا بإسقاط نظامها السياسي، ويفضل التوصل الى صفقة ما تعيد طهران الى حدودها الجغرافية كدولة يمكن التعاطي معها بإيجابية وان تتخلى عن احلامها الثورية واندفاعاتها الإقليمية. ويظهر من سياق الاحداث والرسائل الخطابية المتبادلة بين زعماء البلدين انهما راغبان في ذلك، الا انهما لم يتفقا بعد على الأطر الملائمة للتوصل الى ابرام هذه الصفقة.

ومع ذلك، خلال هذه المدة سيمضي الطرفان في استخدام اقصى ما يملكان من أوراق تفاوضية للضغط على بعضهما، وقد يمران بمدة هدنة لالتقاط الانفاس وانتظار نتائج الانتخابات في البلدين عن ماذا ستسفر، ولكن مالم تنجح جهودهما في عقد صفقة تنظيم المصالح بينهما، فربما سيعودان الى مزيد من التصعيد، لاسيما من الطرف الإيراني الذي يجد ان استمرار عقوبات واشنطن الحالية ينذر بتفجر الأوضاع الداخلية بشكل كبير، ربما لا يستطيع النظام السيطرة عليه مستقبلا، وقد لا تنتظر طهران الوصول الى هذا المستوى من الاحتقان الداخلي فتستعجل المبادرة لجر واشنطن الى المواجهة.

وبالنسبة للعراق، ربما ستعيد الولايات المتحدة النظر بسياساتها اتجاه هذا البلد، اذ قد تغير خارطة تحالفاتها، لاسيما مع القوى الشيعية، فيما تزيد حضورها وتحالفها مع الزعامات الكوردية، وبعض الزعامات السنية التي تراها معتدلة لخلق المزيد من الانقسام السياسي العراقي لمصلحتها. فعلى الرغم من قرار البرلمان العراقي غير الملزم للحكومة بإخراج القوات الأجنبية، ومنها الامريكية من البلاد، الا ان واشنطن غير مستعدة ابدا لتكرار ما تسميه الإدارة الحالية “خطأ أوباما” فتخلق فراغ قوة في العراق تملئه طهران بعد انسحابها، وهذا ما ذهب اليه المحلل (مايكل اوهانلون) عندما دعى الى تفهم حاجة بغداد الى فرض مزيد من القيود على استخدام واشنطن المستقبلي للقوة في العراق، لكنه رفض فكرة خروج قواتها منه ليكون الرابح النظام الإيراني.

وهذا الوضع يتطلب تفهمه بشكل صحيح من صانع القرار العراقي، والتحرك بهدوء لحماية مصالح العراق، ومنع تحويل البلاد عمدا او عرضا الى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، واي تفهم للوضع لن يؤتي ثماره ما لم يكن بقرار سياسي عراقي موحد لا تنفرد في اتخاذه الزعامات الشيعية بعيدا عن موافقة الزعامات الكوردية والسنية.

فضلا على ما تقدم، ستعمل واشنطن خلال هذه المرحلة على تعزيز تماسك جبهة حلفائها الإقليميين، وعدم السماح بزعزعتها لمصلحة إيران وحلفائها، وربما ستتخذ قرارات حاسمة لتصفية بعض الملفات كملف الحرب في اليمن، والازمة الخليجية مع قطر، وإعادة تماسك حلف الناتو بتقارب أكثر مع انقرة، ومحاولة زج الحلف في برامج تسليح وتدريب أكثر للقوات النظامية العراقية في محاولة منها لكسر شوكة التنظيمات المرتبطة بإيران، وسحب المبادرة منها، مع استمرار التضييق على التنظيمات والحكومات الشرق أوسطية المرتبطة بطهران بشكل او آخر.

إيران من جهتها، تعلم تماما ان عليها تغيير قواعد اللعب في صراعها مع الولايات المتحدة الامريكية، وأدركت ان استفزازها للأخيرة لن يكون بدون رد، ورد مؤلم إذا اقتضى الأمر، كما تعلم ان استمرارها بمسار التصعيد مع واشنطن لن تقتصر تهديداته ومخاطره على الساحات الخارجية، انما ستكون ساحتها الداخلية واحدة من الساحات الرئيسة للضغط على قيادتها، من خلال استمرار الضغط الخارجي للدفع بالمواطن الإيراني الى مزيد من الاحتقان وعدم القدرة على التحمل، وتشجيعه على التمرد والاحتجاج. ان استمرار سياسة اقصى الضغوط التي تتبعها الإدارة الامريكية الحالية، في حال إعادة انتخابها ستزيد المشاكل الحياتية والنفسية للمواطن الإيراني، وستجد طهران ان عليها تحمل كُلف أمنية وإعلامية واقتصادية هائلة لمنع تفجر جبهتها الداخلية او على الأقل منع خروجها عن السيطرة، وهذا سيجعلها-كما قلنا آنفا-امام خيارين لا مفر منهما: اما ان تتنازل عن بعض شروطها وتطلعاتها الخارجية وتذهب الى عقد صفقة ما مع واشنطن تضمن مصالح الطرفين، واما تستعجل المواجهة بينهما لتحويل ازمتها الداخلية نحو الخارج، مع التأكيد على ان المسار الأخير سيكون مرتفع الكلفة على الطرفين.

وستعمل إيران-أيضا-خلال هذه المرحلة على تسريع برنامجها النووي، وبرنامجها الصاروخي لاعتقادها بأن قوتها العسكرية هي الضامن الوحيد لمنع الهجوم عليها، والتطلع لمعاداتها، وسيكون لهذين البرنامجين حضور قوي في صراعها الخارجي، ومفاوضاتها خلال المرحلة القادمة.

ومع ما تكبدته طهران من أعباء في دعم اتباعها الإقليميين من غير الدول، الا انها سوف تستمر بهذا الدعم لسببين: الأول، منع قيام دول قوية حقيقية في مناطق نفوذها الرئيسة؛ لأنها تعتقد ان الدول القوية سوف تنافسها في المصالح والنفوذ، وتحد من تدخلاتها في شؤونها الداخلية. والسبب الآخر، هو ان الاتباع من غير الدول، يشكلون أوراق ضغط تسمح بمزيد من التمدد الإقليمي والدولي لها، وكذلك الامر في أي مفاوضات ممكن ان تجريها مع خصومها.

ولكن، قد تحرص القيادة الإيرانية خلال المرحلة القادمة، على تهدئة اللعب في عدد من الساحات الإقليمية، وحث اتباعها على مزيد من ضبط النفس، مع الحذر الشديد في اظهار دعمها العسكري المباشر لهم، كونها أصبحت واتباعها تحت المراقبة الدولية، ولا تريد مزيد من العقوبات التي لم يسلم منها حتى المرشد الأعلى وكثير من القيادات البارزة في إيران وخارجها. الا ان هذا التوجه الإيراني، ربما لن يمر بدون ارتكاب أخطاء منها ام من اتباعها، لسبب أو آخر، وستكون لكل خطأ عواقبه.

كما قد تعمل إيران على تهدئة المخاوف الإقليمية والدولية منها، وذلك بالقيام بمحاولات للتقارب مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وتنسيق المواقف أكثر مع روسيا وتركيا، لاسيما في الملف السوري، فضلا على توثيق علاقاتها مع باكستان والصين والهند، في محاولة منها لمنع واشنطن من النجاح في الترويج لها كدولة راعية للإرهاب، ومصدر تهديد للسلم والامن الدوليين، الا انها بحاجة الى ادراك ان نجاحها في هذا المسعى لا يعتمد فقط على اللقاءات الرسمية وتبادل الرسائل الودية، وانما هو بحاجة الى استبدال حقيقي للسياسات، مع وجود النوايا الصادقة والالتزام الجدي في عدم السماح بتقاطع المصالح بشكل خطير مع الدول الأخرى.

خلاصة الامر، ربما فهمت إيران بعد مقتل سليماني، ان عواقب الخروج عن الخطوط الحمر وخيمة للغاية، لذا ستلعب بقواعد جديدة لن يكون عبور الخطوط الحمر واردا في قاموسها، ولكن في بيئة حرجة كبيئة الشرق الأوسط، لا يكون الالتزام بعدم عبور هذه الخطوط التزاما إيرانيا فقط، بل يقتضي ان تلتزم به جميع الأطراف ذات العلاقة، لمنع خروج الاحداث عن السيطرة، فيجد الجميع أنفسهم في وضع متدحرج لا يمكن التنبؤ بعواقبه.

الوضع السياسي في عراق ما بعد سليماني

يمر الوضع السياسي عراق ما بعد سليماني في اصعب ظروفه، لما تركته الاحداث في الأشهر الثلاثة الأخيرة من السنة الماضية ومطلع السنة الجارية من تفاعلات مهمة ومتسارعة لا يمكن تجاوزها تأثيراتها بسهولة، الا ان المتغيرات الثابتة في هذه المرحلة هي: استمرار الصراع بين واشنطن وطهران على كسب مزيد من مناطق النفوذ لهما داخل العراق على حساب بعضهما البعض، ولن تقبل كلتاهما التنازل عن هذا الهدف لمصلحة الأخرى، مهما كان الثمن، على الرغم من كل الدعوات الصادرة من بعض القوى في بغداد والمطالبة بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، وستكون اي استجابة لهذه الدعوات من واشنطن-كما قلنا آنفا- مجرد إعادة تمركز للقوات في قواعد جديدة او وضع مزيد من القيود على استخدامها القوة على الأرض العراقية.

كذلك ستستمر ضغوط الدولتين على القوى السياسية العراقية لجعلها تميل او تقف الى جانب هذا الطرف على حساب الطرف الآخر، وربما تُحدث هذه الضغوط مزيدا من الانقسام والتباعد بين هذه القوى اذا قررت التطرف في مواقفها، ولم تحسن اللعب لمصلحة بلدها، وقد بانت مظاهر هذا الانقسام جلية في قضيتي التعامل مع الاحتجاجات الحالية، ووجود القوات الأجنبية، ومن المحتمل ان يزداد الامر تعقيدا مع اثارة ملفات أخرى كملفات: المناطق الساخنة، والنفط والغاز، ومكافحة الفساد، والتنظيمات العسكرية الموازية او غير النظامية (المليشيات)، وانتشار السلاح خارج سلطة القانون، والسيادة على المنافذ الحدودية، وتقاسم مغانم السلطة في الحكومة المؤقتة التي تخلف حكومة السيد عادل عبد المهدي، وربما بشدة أكثر في الحكومة التي يمكن ان تأتي بعد الانتخابات النيابية المبكرة التي ستكون على رأس جدول اعمال الحكومة المؤقتة، وغير ذلك من الملفات المعقدة والشائكة.

إضافة الى ذلك، فان من المتغيرات الثابتة –أيضا-سيكون استمرار مشهد الاحتجاجات الشعبية، وربما اتساعها وزيادة عنفها في حال عدم شعور المواطن العراقي بأن حكومته الجديدة، وقواه السياسية تعمل بجد على تحقيق مطالبه الحياتية الملحة.

لن يشهد العراق استقرار شعبيا في هذه المرحلة، وربما سيكون الصيف القادم أكثر سخونة من شتائه الحالي العاصف؛ لأن المشاكل المتراكمة خلال السنوات التي أعقبت عام 2003 لم يعد الناس قادرين على تحملها، وأي حكومة عراقية مهما صدقت نواياها سوف لن تمتلك عصا سحرية لمعالجة جميع المشاكل، وستحتاج الى وحدة قرار سياسي، واستراتيجيات عمل صارمة، خاضعة لتوقيتات محددة، توظف فيها كل الموارد والطاقات والدعم الإقليمي والدولي للنجاح في تخفيف معاناة مواطنيها.

ان نجاح الحكومة وتكاتف القوى السياسية سيكون عاملا مهما في تهدئة الشارع الشعبي الغاضب، وتلبية جزء من حاجاته. أما فشل الحكومة وقواها السياسية، فسيترك تداعياته المدمرة على النسيج الاجتماعي العراقي، وقد ينتج عنها ولادة تيارات فكرية متطرفة تحرق المعبد بما فيه، ولن يكون الوصول الى هذه المرحلة خبرا سعيدا للسياسيين العراقيين بجميع انتماءاتهم الفكرية والمذهبية والدينية والقومية، لأنهم جميعا سيتحملون عواقب وخيمة، بصرف النظر عن اختلاف درجتها بينهم.

وستحتاج بغداد لتخفيف ضغط الصراعات الإقليمية والدولية عليها الى عدم زج نفسها في أي من هذه الصراعات، ومنع تحول الساحة العراقية الى ميدان مباشر لها. كما ستحتاج الى تعزيز مؤسساتها الدستورية الديمقراطية، واستعادة ثقة مواطنيها بالخيار الديمقراطي كخيار أول، لا يمكن التنازل عنه، أو التفريط فيه. فضلا على توحيد أجهزتها الأمنية والعسكرية في إقليم كوردستان وجميع مناطق العراق لتعمل بتناغم كقوات متماسكة موحدة القرار والقيادة لحماية بلدها من العدوان الخارجي، ومن التحديات الأمنية والعسكرية الداخلية، والحرص على استبعاد أي وجود لتنظيمات عسكرية تابعة الى هذا الطرف الإقليمي والدولي أو ذاك، فوجود هكذا تنظيمات سيضعف القرار السياسي السيادي للعراق، وسيخلق الذرائع المبررة ام المفتعلة للتدخل بشأنه الداخلي.

ولإبعاد العراق عن أي تداعيات ناجمة عن رغبة واشنطن وطهران وحلفائهما في التوصل الى صفقة ما أو الذهاب نحو التصعيد الذي يقود الى حافة الهاوية، وربما السقوط فيها، فمن الخطأ استهانة صانع القرار العراقي بأهمية توسيع شبكة علاقاته الإقليمية والدولية، وترميم ما تهدم او ضعف منها، لذا سيحتاج الى سياسة خارجية فاعلة، يقودها طاقم متمرس عالي المهارة والقدرة، لا تتحكم في مواقفه الانفعالات العاطفية والقرارات المستعجلة، يتخذ من البراغماتية مرتكزا أساس لحماية وتحقيق مصالح بلده العليا.

أخيرا، لا بد من القول: ان العراق والمنطقة مقبلة على احداث مهمة، وتحولات سريعة وخطيرة، ومن لم يعد العدة لها لن يُرحم، ففي حلبات المصارعة، كما في رقعة الشطرنج لن يتحقق النصر بالتهور، وسرعة الاندفاع، بل بفهم قواعد اللعب، وتوظيفها بذكاء ضد نقاط ضعف الخصم لإلحاق الهزيمة به في الوقت المناسب.

* ورقة بحثية تم اعدادها ضمن اعمال ملتقى مركز روداو للدراسات والبحوث لسنة 2020
الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

……………………………………
مصادر تم الاعتماد عليها:
– محمد مراح، لهذه الأسباب مقتل قاسم سليماني أهم من اغتيال البغدادي وبن لادن، منشور يوم الرابع من يناير-2020 في موقع صحيفة القبس الالكتروني:
www.alqabas.com
– سهام أشطو، كيف سيؤثر مقتل سليماني على الأوضاع في العراق؟ منشور يوم الثالث من يناير 2020 على الموقع الالكتروني:
www.dw.com
– ايمان احمد عبد الحليم، رؤى غربية متباينة لمقتل قاسم سليماني، منشور يوم السادس من يناير 2020 في الموقع الالكتروني:
www.futureuae.com
-ردود فعل خبراء بروكنغز على مقتل القائد الإيراني قاسم سليماني، منشور يوم الثالث من يناير 2020 في الموقع الالكتروني:
www.brooking.edu
– سنام وكيل، من هم الرابحون والخاسرون في الازمة بين الولايات المتحدة وإيران؟، منشور في 11 يناير 2020 في الموقع الالكتروني:
www.bbc.com
– خالد عليوي العرداوي، الرابح والخاسر بعد حادثة اغتيال قاسم سليماني؟، منشور في 13 يناير 2020 في الموقع الالكتروني:
http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq
– اغتيال قاسم سليماني أكثر أهمية من مقتل بن لادن، منشور يوم الثالث من يناير 2020 في الموقع الالكتروني لصحيفة الشرق الأوسط الالكتروني:
www.aawsat.com

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M