محمد عبد الجبار الشبوط
ليس هذا حديثا في النوايا، انما هو حديث الفكر في اطار النصوص. وما ليس في النص ليس موضوعا للنقاش، قبل ايام قال رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي ما نصه: “يعاني العراق من خلل مزمن في ادارة الموارد، فاقمه تراجع سعر النفط، وجائحة كورونا. اصلاحاتنا ستحقق النمو الاقتصادي والكفاءة المالية، عبر ايقاف الهدر، وانهاء تسخير ثروات الشعب كرواتب مزدوجة و منح لفئات (كمحتجزي رفحاء) دون غيرها. لا تراجع عن خط الاصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.”
صدر الكلام واقعي. فالعراق “يعاني”. اي: يقاسي، يكابد. والعناء، كما في لسان العرب، هو: “الحَبْس في شدة وذُلٍّ.” فالعراق اشبه ما يكون اسيرا، محبوسا في سجن مذل، قاس. وسبب هذا العناء هو “خلل”.
اتفق مع الكاظمي في تشخيص اول المسألة، وهي ان “العراق يعاني من خلل”.والخلل هو الفساد والوهن والضعف والتفرق والتشقق. يسمى العصير خلا اذا فسد وتغير طعمه وصار حامضا. والعراق تغيرت حياته، وفسد طعمها، “وصارت حامضة”.
لكن هذا الخلل ليس “مزمنا”، وهذه عبارة استخدمها الكاتب الاقتصادي المصري محمد كامل زكي في وصف التخلف، حين قال انه ظاهرة اجتماعية “مزمنة”. انا لا ارى ان الخلل والفساد والتخلف ظاهرة “مزمنة”، لان هذا يعني انها دائمة، والخلل صفة تعرض على الشيء فتفسده، وليست اصيلة في جوهره. والخلل الذي يعاني منه العراق ليس مزمنا، انما هو طاريء. والفرق هو ان المزمن يستعصي علاجه، فيما الطاريء ممكن العلاج.
اين وقع الخلل؟ يقول الكاظمي: ” في ادارة الموارد”. اتفق او اختلف جزئيا، لا فرق، في هذا مع الكاظمي. فادارة الموارد احدى الجوانب المهمة في البلد والدولة. والخلل فيها، خلل في احد الجوانب، في حين ارى ان الخلل يعم جوانب اخرى كثيرة، ولانه ظاهرة منتشرة، وليست منحصرة في ادارة الموارد، فاني اعتبرت “الخلل”، (مع توصيفه بانه “حاد”)، شاملا، يشمل امورا اكبر من ادارة الموارد، وهذا الخلل هو: المركب الحضاري للمجتمع العراقي.والمركب الحضاري عبارة عن عناصر وقيم. فاما العناصر فهي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل. واما القيم فهي مؤشرات السلوك العليا الحافة بهذه العناصر، ومن عناوينها الحرية والعدالة والمساواة والايجابية والموضوعية الخ. ولاسباب عديدة وقديمة تسرب الخلل، اي الفساد و “الحموضة”، الى المركب الحضاري، ففسد، وتغير لونه وطعمه، ولم يعد صالحا للشرب! واصيب المجتمع العراقي بالتخلف.
والفرق في هذا الاختلاف ان المشروع الاصلاحي للخلل سيكون ضيق الافق في الحالة الاولى، فيما سيكون واسع الافق في الحالة الثانية. ومن هنا جاءت رؤية الكاظمي للاصلاح جزئية ومحدودة ومقطعية، فقد عرّف الاصلاح بالعبارات التالية: “ايقاف الهدر، وانهاء تسخير ثروات الشعب كرواتب مزدوجة و منح لفئات (كمحتجزي رفحاء) دون غيرها”. العبارات بحد ذاتها صحيحة، ولكن بمقارنتها بتعريفي للتخلف او الخلل ستكون قاصرة عن تحقيق المطلوب.
في ٣٠ نيسان الماضي كتبت للكاظمي قائلا “فدوة لا تكرر اخطاء الذين سبقوك”. والخطأ الذي اقصده هو الرؤية الجزئية المحدودة للاصلاح. وبدون دكر اسماء الذين سبقوه لانهم معروفون، لكن اخطاءهم بحاجة الى تحديد، والمقصود هو هذه الرؤية القاصرة للاصلاح.
حتى الان تبدو رؤية الكاظمي للاصلاح، كما تظهر من تصريحاته وافعاله، قاصرة، بغض النظر عن نواياه التي لا اعرفها. ولهذا، قصدت من هذا الحديث ان الفت نظره الى رؤية اوسع للاصلاح. وحتى لا يكون حديثي نظريا، وهو يتسع لكثير من التنظير، فاني سوف اقصر الحديث على قضايا عملية للاصلاح، ادعو الكاظمي الى ان يهتم بها، وان لا يختصر الاصلاح برواتب رفحا ومتعددي الرواتب. ومن هذه القضايا العملية:
اولا، توسيع تعريف الخلل والاصلاح معا على المستوى النظري. فالخلل هو التخلف الحضاري، اي الخلل الحاد في المركب الحضاري وقيمه الحافة، والاصلاح هو معالجة التخلف واقامة الدولة الحضارية الحديثة.
ثانيا، التوجه الجاد الى تهيئة كل مستلزمات وشروط اجراء الانتخابات وفي مقدمتها انجاز قانون الانتخاب الفردي.
ثالثا، تأهيل الناخبين الجدد وتدريبهم على السلوك الانتخابي السليم، من خلال اطلاق حملة واسعة تستهدف التوعية والتثقيف الديمقراطيين.
رابعا، ارساء مقدمات تنشئة جيل حضاري من خلال وضع نظام تربوي حديث يغطي ١٢ سنة دراسية.
رابعا، الاهتمام الجاد بالمشروع الوطني لتشغيل الشباب الذي اعلنته وزارة التخطيط في الحكومة السابقة.
خامسا، ايلاء فكرة المشاريع الذكية التي سبق ان قدمت له، الاهتمام الكافي، ودراسة امكانية توظيف سندات الحكومة الاميركية التي يملكها العراق (٣٥ مليار دولار) من خلال شركات اميركية لتنفيذ هذه المشاريع.
سادسا، الاهتمام باكمال المشاريع المتوقفة والتي جاوزت نسب انجازها ٩٠٪ بما في ذلك العدد الكبير من المستشفيات شبه المنجزة.
سابعا، دراسة امكانية اعادة تشغيل مصانع الدولة وتنفيذ الممكن في هذا المجال.
ثامنا، اجراء دراسة شاملة لمسألة الرواتب الحكومية تاخذ بنظر الاعتبار مفهوم العدالة في توزيع الثروة، والعدالة الانتقالية، وزيادة القدرة الشرائية للمواطنين. مع دراسة امكانية تحويل فائض الموظفين الى قطاعات انتاجية بدل التشجيع على اخذ اجازة الاربع سنوات.
تاسعا، تبني مبدأ النفط من اجل التنمية وتأسيس صندوق بهذا المعنى، وتمويله من عائدات النفط فور ارتفاع اسعاره في السوق العالمي كما هو متوقع.
عاشرا، تجنب التعامل مع شبكة الاعلام وكأنها اعلام حكومي، لكي يكون بامكان محرريها مراقبة اداء الحكومة، والمساهمة في نقده وترشيده، وهو يشعرون بالامان الوظيفي اللازم، وربما كان لدى غيري اكثر من هذا.
رابط المصدر: