الأمة بين سلطة الحكام وسلطة الأثرياء

تؤكد كثير من الحقائق المنطقية والدلائل المستقاة من التجارب، أن هناك دورا كبيرا للأثرياء من جهة وللحكام من جهة أخرى، في بناء الدول والمجتمعات المتطورة، فهل هناك أوجه تشابه واختلاف بينهما، وهل أن ما يحدث عمليا يؤكّد هذا الدور التنموي الكبير للحكام والأثرياء؟

الثري هو الذي يمتلك المال والأخير سلطة وجاه ونفوذ، والحاكم يمتلك السلطة التي من خلالها يمكن أن يجني الأموال بقوة السلطة إذا كان حاكما فاسدا، والاثنان لهما قدرة جمع الأموال وهذه لها القول الفصل في ضمان سلطة مالية أو سياسية تجعل الثري أو الحاكم مصدر محبة أو نقمة الناس.

التأييد أو الرفض يتأتى من طريقة تعامل الثريّ والحاكم مع المال، وكيف يتصرّف مع المحيط المجتمعي، فهناك ثري يحسن التعامل مع الناس والمال وهنالك العكس من ذلك، كذا ينطبق الأمر على الحاكم، فهناك حاكم يحسن استخدام السلطة مع الناس وهناك حاكم يفشل بسبب سوء إدارته للسلطة.

جلّ الأمر يتعلق بطريقة التعامل مع الناس من خلال المال للثري والسلطة للحاكم، ذلك أن الأمم والشعوب التي يقل فيها الأثرياء تقل فيها فرص التنمية والتطور، لسبب واضح أن كثرية الأثرياء تعني كثرة الأموال التي يمكن استخدامها في مشاريع تنموية عبر القطاع الخاص تنهض بالدولة والمجتمع، لذلك هناك معادلة تقول كلّما كثر الأثرياء نهض الاقتصاد شريطة دعم القطاع الخاص.

الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، ركّز كثيرا على دور الأغنياء في تطوير الدولة والأمة، ودعا في أكثر من مؤلَّف إلى أهمية دورهم في بناء الدولة، وطالبهم في نفس الوقت بالإنفاق المستمر.

وحذّر من تقاعس أو تردد الأثرياء في قضية التبرعات وإنشاء المشاريع التجارية والخيرية المتنوعة، منطلقا في دعوته هذه من قوّة دورهم، محذّرا من عدم قيامهم بدورهم الداعم للمجتمع.

الأثرياء المبادرون مفخرة المجتمع

في كتابه القيّم (أنفقوا لكي تتقدموا)، يقول الإمام الشيرازي بصريح العبارة:

(إنني لا أعادي الأثرياء ولا أحقد عليهم، بل أدعو ليل نهار أن يكثر الله في المسلمين من الأثرياء، فإنهم مفخرة لنا).

وتحذير الإمام الشيرازي للأثرياء ينطلق من محبته لهم، ومن حرصه على بناء الأمة خير بناء، ولا يجامل سماحته في هذه القضية، فسماحته أكد في غير مرة أن الأثرياء عليهم أن يحافظوا على أنفسهم من خلال المساهمة في تقليص الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء.

يحدث ذلك من خلال التبرعات والإنفاق المتنوّع، والشروع في إقامة مشاريع تنموية مختلفة في إطار القطاع الخاص أو المختلَط، تمتص البطالة، وتمنح الشباب والطبقة العاملة فرصا كافية للعمل وكسب الرزق بطريقة تحمي كرامة الإنسان، وتقلل من الفقر، وتساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية التي بدورها تعزز التعايش وتقوّي السلم الأهلي، وتضاعف من فرص الاستقرار المجتمعي.

الإمام الشيرازي يقول: (إن أثريائنا إذا أحبوا الحفاظ على أنفسهم يجب عليم أن يبذلوا بسخاء، وإلا تقع الواقعة، التي ليس لوقعتها كاذبة).

ومع ذلك يبقى الثري إنساناً قبل أي شيء، ولديه مشاعر وهواجس وطباع هي التي تحدد سلوكه ونوع تفكيره، لكن في المجمل يبقى الثري المساهم بجدية في تقويض الفجوة الطبقية هو الأوفر حظا من غيره في كسب ودّ ومحبة وتعاون الآخرين، ويبقى مختلفاً عمّن يهيمن عليه الطمع ويفتك به الجشع، ولا يجد مبررا للتبرع أو المساهمة بدعم الحلقات الضعيفة في المجتمع.

ويأتي الإمام الشيرازي بمثال عن ثريّ لا يشعر بمعاناة الناس فيقول: (لا بأس أن أذكر ثريا كان قد قرر لمصارفه الشخصية في كل شهر – خمسة آلاف دينار-، أي بمعدل ستين ألف دينار لكل سنة، وذهب جمع من التجار إليه يطلبون منه المساهمة في مشروع فأعطى ــ بعد جهد ــ مائة دينار فقط).

واليوم تتأكد للجميع تلك الأفكار القيمة التي قدّمها الإمام الشيرازي لم يهمه الأمر، لاسيما في مجال تعزيز اللحمة المجتمعية، وتعزيز المشاريع الخيرية، ودعم القوى الفقير التي هي بحاجة إلى مشاريع تنموية تنهض بها وبالمجتمع كله، عبر الإنفاق الذي يجب أن يبادر به الأثرياء بما يتناسب مع ثرواتهم.

ماذا يتوقع الحكام في مجتمع ينخره الفقر؟

وحين نتكلم عن جائحة كورونا والتداعيات الخطيرة التي خلّفتها، فإننا سوف نقتنع تمام القناعة بما ذهب إليه الإمام الشيرازي من أفكار وما طرحه من مقترحات، لاسيما أن البطالة بلغت اليوم أقصاها، ونسبة الفقر بلغت أعلاها، حيث تعطّلت معظم الأرزاق اليومية، وبات الحصول على القوت اليومي مهمة في غاية المشقّة.

هنا بإمكان الأغنياء طرح المبادرات التي من شأنها تخفيف وطأة الفقر على شريحة واسعة من الأمة، وكل هذه المبادرات لابد أنها تأتي في إطار تبرعات عينية أو مادية، بالإضافة إلى الركن الأهم المتمثل بتشغيل الأيدي العاملة في مشاريع تنموية ذات مستويات مختلفة.

ماذا يتوقع الأثرياء إذا فتك الجوع بالناس؟، هل يمكنهم الشعور بالأمان في مجتمع يعاني من الفقر، وتحيط بهم ملايين الأفواه الجائعة، من المحال أن يعيش الثري وذويه بأمان في وسط شريحة يفتك بها الجوع، ويحيط بها الإذلال، وتشعر بالقهر وتنظر بحسد لطبقة الأثرياء.

كذلك ماذا يتوقّع الحكام من مجتمع تنخره البطالة ويذلّه الجوع، وتنهشه الأمراض، إن ثورة الجياع هي النتيجة الحتمية لاستخدام السلطة بطريقة سيئة يشوبها الفساد وتنخرها المحسوبية وتحيط بها الصفقات المشبوهة، وتُهدر فيها الحقوق، وتُحاصر بها الحريات.

يقول الإمام الشيرازي: (يقرر علم النفس والاجتماع أن هناك نقمة متزايدة ضد طائفتين، الحكام، والأثرياء، وهذه النقمة لابدّ أن تتنفس بعنف، ولكن يمكن امتصاص هذه النقمة).

هناك خطط فاعلة متخصصة يمكن من خلالها تحاشي ثورة الجياع، هذه الخطط يجب أن يبادر ويلتزم بها طبقتان هما، طبقة الأثرياء، وطبقة الحكام، فالحكام عليهم أن لا يقمعوا الناس، ولا ينتقصوا من حريّاتهم، لاسيما في قضية المشاركة بصنع القرار عبر النظام البرلماني وإنشاء النظام السياسي القائم على التعددية، في هذه الحالة سوف يشعر الناس بأنهم مصدر الحكومة وأن الدولة كيانهم الذي لا يتخلون عنه بل يقفون إلى جانبه ويسهمون في بنائه.

الإمام الشيرازي يقول: (أما كيفية امتصاص النقمة ضد الحكام، فبإعطاء الحريات للناس والتي منها المشاركة في الحكم، فإذا حصل الناس على حرياتهم لم يقفوا ضد الحكام، وإذا شارك الناس في الحكم ــ بأي لون من المشاركة ــ اعتبروا الحكم كيان أنفسهم، فلا يفكرون في تقويضه).

يمكن أيضا تقليل أو إطفاء النقمة الشعبية على الأثرياء، فمثلما الحكام مطالَبون بعدم المساس بحقوق وحريات الناس، ومعاملتهم بمنطق العدالة، فإن الأثرياء مطالّبون أيضا بالسخاء عبر إنشاء المشاريع الخيرية والاقتصادية المفيدة، والتقليل من الإسراف في الاستهلاك، والكف عن المظهرية الزائفة التي تستفز الجياع، أو التكبّر عليهم، أو نشر الفساد بمختلَف أنواعه.

هذه كلها أساليب تساعد على تأجيج الأوضاع، وتخلخل أسس السلم الأهلي وتقوّض كل المساعي التي تهدف إلى تعزيز الأواصر الاجتماعية، وتضاعف من النقمة الشعبية على الأثرياء، وقد تكون نتائجها وخيمة إذا لم تبادر هذه الطبقة إلى ردم الفجوة عبر خطوات ومبادرات ترشّد الاستهلاك وتنظّمه، وتقلل من المظاهر الاستفزازية، وقد يشترك في هذه القضية أبناء الحكام والأثرياء، وهؤلاء هم مصدر إثارة الكراهية الشعبية للحكام والأثرياء.

يقول الإمام الشيرازي: (أما كيفية امتصاص النقمة ضد الأغنياء، فبالبذل السخيّ للفقراء وبإقامة المشاريع، وبعدم الاستفزاز في الإنفاق، سواء كان الاستفزاز من نوع الإسراف، أو من نوع التظاهر، أومن نوع الكبرياء، أو من نوع الفساد).

بالنتيجة هناك أوجه تلاقٍ واختلاف بين سلطة الحكام والأثرياء، كلاهما يقودان إلى التعاطي مع سلطة الحكم وسلطة المال، وهنا ينبغي أن يتنبّه هؤلاء (من الطبقتين)، إلى أن القوة الضاغطة للفقر والحرمان، قد تتحول إلى عاصفة مدمِّرة في حال تصاعدت النقمة الشعبية للأسباب المذكورة سابقا، وهو ما يفرض القيام بإجراءات ومبادرات تزيد من حملات الإنفاق، وتعزز الحريات، فإذا تضافرت قوة مال الأثرياء مع قوة عدالة السلطة الحكومية، سوف تهبط احتمالات ثورة الجياع إلى الصفر.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M