الانتخابات لوحدها ليست مؤشراً على وجود الديمقراطية

د. إبراهيم أبراش

 

بسبب غياب أي بديل للديمقراطية وللانتخابات كآلية عملية لتطبيقها استمرت الانتخابات قضية محورية في بناء الأنظمة السياسية بما يتوافق مع تلمس، ولو نسبي، لتطلعات ورغبات الشعب ومؤشراً على إمكانية خروج الأنظمة السياسية من مربع الدكتاتورية والاستبداد إلى فضاء الديمقراطية، وهذا ما نلمسه من خلال توجه العالم نحو الأخذ بالانتخابات كنهج للخروج من الأزمات السياسية الداخلية بالرغم من فقدان العملية الانتخابية بريقها الأول.

إلا أن الانتخابات لوحدها لا تؤسَس نظاماً ديمقراطياً كما أن من ينتخبهم الشعب ليسوا بالضرورة حكامه أو أنهم الأفضل، فغالبية دول العالم تقريبا تمارس الانتخابات بمستوياتها المتعددة ولكن قلة منها يمكن تصنيفها كأنظمة ديمقراطية حقيقية.

إشكال الديمقراطية وعلاقتها بالانتخابات لا يقتصر على الدول الغربية بل هو إشكال تواجهه دول العالم الثالث ودول أخرى مثل الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، فجمهورية الصين الشعبية حتى اليوم تمارس الانتخابات حيث يتم انتخاب مجلس الشعب المكون من حوالي 3000 نائباً بالاقتراع السري غير المباشر عن طريق نواب مجلس الشعب المنتخبين بدورهم من طرف الشعب، بالرغم من أنها سياسياً تخضع لنظام الحزب الواحد (الحزب الشيوعي)، كما نذكِّر هنا أن الزعيم النازي أدلف هتلر وحزبه النازي وصلا للسلطة عن طريق الانتخابات. أيضاً كانت دول المعسكر الاشتراكي الخاضعة لنظام الحزب الواحد (الحزب الشيوعي) تمارس الانتخابات وبشكل دوري قبل انهياره رسميا 1991، وما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإن المسار (الديمقراطي) والآلية التي تجري فيها الانتخابات في روسيا الاتحادية تجعلنا أمام نموذج مختلف للديمقراطية أو ما يمكن تسميتها أنظمة هجينة.

أما في العالم العربي وقبل فوضى ما يسمى (الربيع العربي) فقد جرت تجارب انتخابية، بدأت منذ الاستقلال، بل وما قبله في بعضها، لم تصاحبها ممارسة ديمقراطية ولم تؤدي إلى دمقرطة المجتمع والنظام السياسي بل كانت واجهة مضللة لشرعنة حكام ونخب سياسية مفروضة على الشعب، أو أدت لمزيد من تأزم النظام السياسي وإثارة الفتنة، وكان كثير من القادة يمارسون السلطة بذريعة أنهم يتوفرون على شرعية انتخابية، وكانوا بالفعل يفوزوا بانتخابات ويحصلوا على أكثر من 90% من الأصوات.

وما بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية شهدت عديد الدول العربية انتخابات عامة تحت ضغط الحراك الشعبي كتونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان ولكنها لم تنجح في انجاز انتقال ديمقراطي كامل حتى الآن. أيضاً الانتخابات اللبنانية عام 2018 وكيف كرست الطائفية السياسية وأدت إلى شبه انهيار للدولة حيث خرجت الجماهير ضد النخب السياسية المنتَخَبة وضد الطائفية السياسية أو (الديمقراطية الطائفية). وهناك الانتخابات في العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003 واسقاط حكم صدام حسين، حيث تم اعتماد نموذج (الديمقراطية الطائفية) ولم تأخذ عبرة من النموذج اللبناني المأزوم. وفي فلسطين أيضاً جرت انتخابات في يناير 2006 أدت لمزيد من تأزيم النظام السياسي ثم إلى الانقسام.

لا نقلل من اهمية ما جرى ويجري في النماذج المُشار إليها وغيرها في دول الجنوب ويمكن وضعها بتحفظ في سياق ارهاصات تحول ديمقراطي وبداية واعدة حيث الشعب ونخبه السياسية ارتضوا مبدأ الاحتكام إلى صناديق الانتخابات، ولكن الخشية أن تتحول الانتخابات الموجهة والمُتحكم فيها من طرف طوائف أو فئات مالية نافذة إلى هدف بحد ذاته ويتم تجاهل بقية حلقات ومتطلبات العملية الديمقراطية وتتحول الانتخابات إلى ملهاة للشعب.

وهنا نذكر أن المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير 2004 ثم الجديد 2006 كان يضع في سلم أولوياته إشراك كل الأحزاب بما فيها جماعات الإسلام السياسي في الحياة السياسية من خلال الانتخابات، ومن المعلوم أن الشرق الأوسط الجديد كان يتضمن (الفوضى الخلاقة) التي نظرت لها كونداليزا رايس والرئيس أوباما، وكانت فوضى الربيع العربي من مخرجاتها أو أحد تجلياتها.

الانتخابات والديمقراطية، أية علاقة؟

المبدأ في الانتخابات في سياقها الدلالي والتداولي الديمقراطي أن تقوم على مبدأ حق الشعب باختيار من يحكمه في حالة وجود أكثر من حزب أو شخص أو جماعة تسعى للوصول إلى السلطة، فيختار الشعب الأفضل والأجدر بالحكم سواء تعلق الأمر بانتخابات الهيئات المحلية أو الانتخابات التشريعية أو الانتخابات الرئاسية، ومن هنا اقترن مصطلح الانتخابات بالديمقراطية التي تعني حكم الشعب أو حُكم مُرَاقب من الشعب وبرضاه. فبما أن الديمقراطية تعني حكم الشعب وحيث لا يمكن عملياً ومنطقياً أن يحكم كل الشعب فكانت آلية الانتخابات ليختار أو ينتخب الشعب من ينوب عنه لتولي السلطة والحكم.

وهكذا نلاحظ في السنوات الأخيرة ومن خلال الممارسة تراجع وهج الديمقراطية بالصورة الرومانسية والمثالية التي خلقت اعتقادا بأن الديمقراطية ومن خلال العملية الانتخابية ستجسر الفجوة ما بين الشعب والطبقة السياسية بل ستحقق حكم الشعب، كما ستحقق شرط المواطنة بحيث ستتلاشى الطبقية والعرقية والطائفية حيث الانتخابات لا تعترف بهذه الانتماءات، كما أن الانتخابات بالضرورة ستجلب الأفضل.

هذا التراجع لم يقتصر على الدول حديثة العهد بالديمقراطية، بل حتى في الدول العريقة في أخذِها بالديمقراطية وما تشهده الولايات المتحدة الأمريكية من اضطرابات ومظاهرات ضد العنصرية على إثر مقتل جورج فلويد يوم 25 مايو 2020 وامتداد الاحتجاجات لعديد الدول الديمفراطية الغربية يستحضر للنقاش والبحث المسألة الديمقراطية ومدى نجاح النظم الانتخابية في بناء أنظمة سياسية ديمقراطية تحقق شرط المواطنة والحرية والمساواة.

انفكت العلاقة الحتمية أو التلازم بين الانتخابات والديمقراطية، وفقدت الانتخابات جاذبيتها في الحياة السياسية لأسباب متعددة منها: صيرورتها لعبة الطبقة السياسية المهيمنة والناخبين الكبار، وبسبب قوة حضور الدولة العميقة التي هي فوق العملية الانتخابية أو لا تؤثر فيها كثيراً، أيضا انشغال الشعوب بالأزمات الاقتصادية المحلية والدولية وتزايد وتيرة الهجرة واللاجئين وتزايد الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية في أكثر من منطقة في العالم.

كل ذلك جعل من المستساغ والمقبول أن يتساءل البعض حول جدوى الانتخابات عندما لا تؤدي لتجديد الطبقة السياسية أو تسمح بتغول المال السياسي والنيوليبرالية واليمين المحافظ بل وبعض مظاهر الطبقية والتمييز العنصري كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وفي إسرائيل، أو عندما يصبح الأمن القومي بل ووجود الدولة في بؤرة الخطر، سواء في زمن الحروب أو في وقت الأزمات الكبرى الطارئة كما هو الحال هذه الأيام في ظل تفشي وباء الكورونا؟.

دمقرطة الانتخابات

حتى تحقق الانتخابات أهدافها كآلية لتحقيق الديمقراطية والتعبير عن إرادة الشعب يجب أن تتوفر فيها عدة متطلبات أو شروط وهي: –

1- التوافق المُسبَق على ثوابت ومرجعيات النظام السياسي

حيث سيكون من الصعب بل من المستحيل تداول السلطة بين أحزاب ببرامج متناقضة ومختلفة حول الثوابت الوطنية أو ثوابت النظام السياسي، مثل طبيعة النظام السياسي ملكي أم جمهوري، برلماني أو رئاسي، حدود الدولة وشكلها إن كانت دولة بسيطة أو فدرالية أو كونفدرالية، نظامها الاقتصادي رأسمالي أو اشتراكي، العلاقة بين الدين والدولة هل هي دولة دينية أم علمانية الخ، وهذه الثوابت والمرجعيات غالباً تكون واردة في دستور الدولة الذي يُلزم الجميع، وعلى من يفوز بالانتخابات أن يحكم بما ينص عليه الدستور، وفي حالة غياب التوافق على هذه الثوابت والمرجعيات يتم إجراء استفتاء شعبي عليها.

ومن هنا يمكن تفسير تعثر الانتخابات والعملية الديمقراطية برمتها في الدول التي تشهد حروباً أهلية حيث يكون المجتمع والأحزاب السياسية منقسمة انقساماً حاداً وعميقاً حول شكل الدولة ومضمونها وهويتها وحدودها ومرجعيتها الدينية، أيضاً في مناطق السلطة الفلسطينية الخاضعة للاحتلال حيث الاحتلال يتنافى مع سيادة الشعب وحريته في اختيار من يحكمه ومع إمكانية تأسيس نظام فلسطيني ديمقراطي.

2- تداول السلطة

التفويض الذي يمنحه الشعب للجهة الفائزة بالانتخابات لا يكون أبدياً بل لمدة محددة ينص عليها الدستور وخلالها يراقب الشعب من فوضَهم بالسلطة، فإن كان راضياً عنهم جدد انتخابهم مرة أخرى وإن نكثوا بعهودهم وببرامجهم الانتخابية أنتخب الشعب غيرهم، وهنا يجب التأكيد بأن اللجوء للانتخابات العامة وتداول السلطة لا يعني بالضرورة أن من هم في السلطة فاشلون أو فاسدون بل هو سعي دائم للأفضل ولتوزيع عادل للسلطة بين الجميع ومحاولة تجنب الدكتاتورية والاستبداد والفساد في حالة طال أمد الحاكم أو الحزب الحاكم في السلطة، وهكذا يجري التداول على السلطة دون حرمان أحد من حقه بأن يكون حاكماً ومحكوماً.

3- تجديد الطبقة السياسية الحاكمة

التداول على السلطة يفقد معناه إن لم تؤدي الانتخابات لتجديد الطبقة السياسية ورفدها بفاعلين جُدد، وهذه مهمة وإن كانت منوطة بالأحزاب نفسها من خلال ديمقراطية وانتخابات داخلية إلا أنها أيضاً مسؤولية الشعب والمجتمع المدني الذين عليهم الخروج من حالة السلبية التي تجعل دورهم مقتصراً على التصويت لنفس الأحزاب المتحكمة بالنظام السياسي ولنفس الأشخاص الذين سبق تجربتهم.

4- التنافس بين برامج سياسية والحد من المال السياسي

غياب البرامج السياسية أو عدم اهتمام المواطن بها إن وجِدت، ظاهرة أصبحت عامة تتميز بها الانتخابات في الدول العربية التي شهدت انتخابات عامة، ويعود السبب لفقدان المواطن الثقة بالأيديولوجيات والشعارات وخصوصاً إن كانت الأحزاب المتنافسة نفسها التي هيمنت على المشهد السياسي طوال عقود. الخطورة تكمن في حلول المال السياسي محل البرامج السياسية في عملية استقطاب أصوات الجمهور الانتخابي، وهذا سيؤدي إلى أن تكون مخرجات الانتخابات رديئة وفاسدة.

5- ثقافة الديمقراطية لا تقل أهمية عن صناديق الانتخابات

ثقافة الديمقراطية تتضمن: عدم اللجوء للتزوير، احترام القانون، الاعتراف بالآخر كشريك وطني، الاعتراف بنتائج الانتخابات، عدم اللجوء للعنف لحل الإشكالات السياسية، ممارسة حرية الرأي والتعبير كحق لجميع المواطنين، كما تمتد ثقافة الديمقراطية إلى داخل الأحزاب السياسية وفي المؤسسات التعليمية وفي داخل الاسرة، مثلا يكون من غير المفهوم والمقبول أن يطالب حزب معارضة بتداول السلطة أو تقييد مدة ولاية الرئيس بينما رئيس الحزب وهيئته القيادة على في مواقعهم القيادية لعشرات السنين وبعضهم منذ تأسيس الحزب !.

6- سرية الانتخابات ونزاهتها

التعبير الحر عن إرادة المواطنين يتطلب سرية الانتخابات ونزاهتها وخصوصاً عندما تسود ثقافة الخوف، الخوف من السلطة وعقابها لمن لا يصوت لحزبها أو رئيسها، وهذا ما ينتشر في الأنظمة الدكتاتورية وجديدة العهد بالديمقراطية أو تكون الطبقة السياسية الحاكمة مجبرة على الاحتكام لصناديق الانتخابات. والخوف يكون من الاعتقال أو من فقدان الوظيفة والراتب إن تم التصويت للخصم السياسي. ونزاهة الانتخابات مرتبطة بمدى وجود ثقافة الديمقراطية، وهي تتطلب تجنب التزوير واستغلال فاقة الشعب لشراء صوت المواطن مقابل مبلغ من المال أو مساعدات عينية مثل وجبة غذائية أو وليمة، أو وعد بوظيفة.

7- الانتخابات والحكومات التي لا تحكم

يُفترض أن الانتخابات تؤدي لاختيار الشعب لمن يحكمه وبالتالي يتوافق المعنى اللغوي لكلمة الديمقراطية (حكم الشعب) مع واقع الممارسة، حيث إن من ينتخبهم الشعب يصبحوا الحكام الفعليين ومنهم تتشكل الحكومة أو على الأقل فإن الهيئة التشريعية المنتَخَبة تراقب أعمال الحكومة وفي استطاعتها حل الحكومة وقتما تشاء.

لكن في الواقع وخصوصا في الأنظمة التي تنهج الديمقراطية الشكلية أو تزعم بأنها ديمقراطية لمجرد قبولها بمبدأ الانتخابات فإن الحكومات فيها لا تحكم بالفعل والانتخابات لا تؤدي بالضرورة إلى صيرورة ممثلو الشعب في البرلمان حكاماً فعليين، وخصوصا عندما تتحكم السلطة القائمة في الآلية الانتخابية من خلال القوانين الانتخابية أو التزوير أو التواطؤ وتوزيع المغانم والمصالح مع الأحزاب والنخب السياسية، حيث تستمر الطبقة السياسية غير المنتخبة المشكلة من الرئيس وبطانته من مستشارين وقادة جيش بحكم البلاد ويقتصر دور من انتخبهم الشعب على إضفاء الشرعية على هذه الطبقة السياسية وممارسة رقابة شكلانية على الحكومة واقتراح مشاريع قوانين غالبا لا يتم الموافقة عليها أو يجري تحويرها وتكييفها بما ينسجم مع مصالح الطبقة الحاكمة، أما الناشطون والمناضلون فغالبا يتم استيعابهم في مؤسسات الدولة العميقة بالإغراءات المالية، فينسلخوا عن الشعب الذي انتخبهم وينسوا كل وعودهم وبرامجهم الانتخابية ويصبحوا من المدافعين عن النظام بمبررات الواقعية السياسية أو المصلحة الوطنية العليا !.

الخلاصة

ولأن الديمقراطية أقل الأنظمة سوءا كما قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل وهي مقولة صالحة حتى في زماننا، ولأن المفكرين السياسيين والتجربة السياسية للشعوب لم يتوصلوا لأداة أفضل من الانتخابات للتعبير عن إرادة المواطنين، تبقى الانتخابات النزيهة وبالاشتراطات المُشار إليها الآلية الأكثر نجاعة للمشاركة الشعبية ومعرفة إرادة الشعب ولكنها تحتاج لتطعيمها بالحِكامة والحكم الصالح وتعزيز مفهوم المواطنة من خلال القضاء على العنصرية والشعوبية والطبقية وسلطة المال.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/23599

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M