حضرت مؤخراً جلسة افتراضية نظمها برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية بالمملكة العربية السعودية “يسّر” -وهو عبارة عن وحدة إستراتيجية داخل وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات- بالتعاون مع البنك الدولي، بهدف تقديم رؤى مستقبلية للحكومة الرقمية في خضم جائحة كوفيد-19. وكررت أمثلة لحالات مُستقاة من الوزارات السعودية -ومنها وزارتي الصحة والتعليم، إلى جانب المشاركين الدوليين في الندوة- التأكيدَ على دور التكنولوجيا الرقمية في استمرار شتى مناحي الحياة، فضلاً عن تمكين العاملين في المجال الصحي المتواجدين في الخطوط الأمامية من مكافحة انتشار المرض.
على سبيل المثال، أوضح المهندس سعد المسردي القحطاني، الوكيل المساعد للتقنيات الرقمية في وزارة الصحة السعودية، أن التكنولوجيا الرقمية تصدرت الجهود الرامية إلى التصدي لجائحة كوفيد-19 في البلاد، حيث استخدمت الوزارة الحلولَ الرقمية على نطاق واسع؛ من أجل إنشاء عيادات افتراضية، وتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية، وبث الوعي، وتتبع وتقييم الحالات المشتبه في إصابتها بالعدوى، وتقديم المشورة إلى الأشخاص الذين قد يحتاجون إلى عناية طبية أو لا. كما قال إن استخدام أدوات التحليل المدعومة بالذكاء الاصطناعي قد سمح للمملكة باكتشاف الحالات المصابة من خلال عملية الرصد المركزي.
وعلى نفس المنوال، تحدثت الدكتورة سحر المسعود، الأستاذة المساعدة في تقنيات التعليم بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، عن الكيفية التي سمحت بها التكنولوجيا الرقمية للجامعة بمباشرة أنشطتها، موضحة أن وزارة التعليم كانت لديها خطة جاهزة لاستمرارية تصريف الأعمال، وقد دخلت حيز التنفيذ بهدف دعم الكليات والطلاب وأعضاء هيئة التدريس. كما تم رفع قدرات نظام إدارة التعلم (LMS) بنسبة 300%، واستُخدمت الوسائط الافتراضية في إجراء الاختبارات الشفوية ومناقشة الأطروحات العلمية.
وفي الوقت الذي عرض فيه المشاركون في الندوة الافتراضية أمثلة لحالات من بلدانهم، قال فينتشنزو أكوارو، رئيس الحكومة الرقمية في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، إنهم تلقوا أكثر من 500 دراسة حالة من جميع أنحاء العالم بشأن الكيفية التي ساعدت بها التكنولوجيا الرقمية الحكومات خلال الأزمة.
ومن بين الدروس الرئيسية المُستفادة من الندوة أن الدول التي شرعت في رحلة التحول الرقمي -قبل فترة ما بين 5 إلى 10 أعوام- شهدت العوائد المرجوة من استثماراتها أثناء هذه الأزمة. وقال كريستوفر فيرجسون، مدير البحوث الوطنية والدولية في الحكومة الرقمية للمملكة المتحدة، إن استثمارات بلاده في المنصات الرقمية ونظم التصميم والتطبيقات المشتركة ساعدتها كثيراً على رفع سرعة وفعالية استجابتها. كما استطاعت النظم والمعايير المُعتمدة أن تمكّن السلطات من توفير استجابة لا مركزية ومُنسقة في جميع أنحاء البلاد. وليس من المستغرب أن تتردد نفس الأفكار على لسان رواد التكنولوجيا الرقمية من فنلندا وأستراليا والبحرين والمملكة العربية السعودية.
وأضاف عصام أبو سليمان المدير الإقليمي للبنك الدولي لدول مجلس التعاون الخليجي، أنه في إطار التصدي لجائحة كوفيد-19، أثبتت طائفة واسعة من التدخلات أهميةَ الاستثمار في البنية التحتية الرقمية الحديثة، موضحاً أن الدول التي سلكت المسار الصحيح للنمو الرقمي الشامل -مع تعزيز المرونة الإلكترونية- كانت الأكثر استعداداً للاستجابة بفعالية للأزمة. وعلى نحو مماثل، أشار المهندس هشام الشيخ، نائب الرئيس التنفيذي لبرنامج يسّر، إلى أن البنية التحتية المرنة بالمملكة العربية السعودية، واستثماراتها في القدرات الرقمية كانت بمنزلة ركائز النجاح التي قامت عليها استجابة الدولة السريعة للجائحة.
كما حطمت الجائحة فكرة أن الحكومات لا تستطيع اتخاذ قرارات سريعة، فقادة التكنولوجيا الرقمية اليوم على دراية واسعة بطرق العمل المرنة، في حين أصبحت الفرق المتعددة التخصصات في الحكومات أكثر شيوعاً، الأمر الذي يسمح لها باتخاذ الإجراءات اللازمة في غضون أيام بدلاً من أشهر.
بدورها، قالت السيدة آنا مايا كارجالينين، المديرة العامة لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات في وزارة المالية الفنلندية، إن استجابة بلادها لكوفيد-19 تُظهر أنه يُمكن اتخاذ الإجراءات اللازمة والسريعة إذا كانت الحكومة قادرة على التحلي بالمرونة في اتخاذ القرارات، وتتمتع بثقة مواطنيها، وناضجة رقمياً. وأشارت إلى حالة القطاع العام الفنلندي الذي انتقل إلى نموذج العمل عن بعد بين عشية وضحاها، في الوقت الذي تمكنت فيه الحكومة من رفع قدرتها في مجال تكنولوجيا المعلومات في غضون أيام دون تعطيل الخدمات. وبالمثل، أوضح المهندس محمد القائد، الرئيس التنفيذي لهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية في البحرين، أن 41 خدمة رقمية متكاملة، من بينها استخراج شهادات الميلاد وغيرها من الخدمات، بدأ تنفيذها خلال الأسبوع الأول من ظهور الجائحة في البلاد.
ويُبين ذلك بوضوح أنه يمكن إنجاز الكثير إذا كانت الحكومات متحمسة وتولي اهتماماً، وتُسخر تفكيرها ومواردها للوصول إلى غاية محددة.
ولا شك في أن التغييرات التي أحدثتها جائحة كوفيد-19 سيكون لها تأثير دائم على مجتمعنا؛ إذ ستشجع الحكومات من أجل أن تركّز على الاستفادة من التقنيات الرقمية لإيجاد حلول مستدامة وتطوير بنية تحتية رقمية مرنة للأجيال القادمة. وأشار الدكتور فادي سالم، مدير إدارة البحوث والاستشارات في كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، إلى حدوث تغييرات كبيرة في أربعة مجالات أساسية، تشمل الخدمات الرقمية، والسياسات واللوائح التي تدعم التقنيات الجديدة، والقبول الاجتماعي للحلول الرقمية، والتحديات الأخلاقية التي تواجه الحكومة. أما ميشيل روجي، مدير الممارسات العالمية للتنمية الرقمية لمنطقة إفريقيا والشرق الأوسط في البنك الدولي، فقد سلط الضوء على ثلاثة مجالات رئيسية للاستثمار، وهي البنية التحتية الرقمية الحديثة، والتركيز على الحوكمة الرقمية بما في ذلك تحويل العمليات، وخلق القيمة المضافة من بيانات الوقت الحقيقي.
وبناء على ذلك، فمن المرجح أن تتلقى الاستثمارات في الخدمات الحكومية الرقمية دفعة إلى الأمام نتيجة لمبادرات التحول السريع، وارتفاع الرغبة في المخاطرة من أجل تحقيق نتائج. علاوة على ذلك، سيسمح النضج -الذي تتمتع به أساليب التحليل المتطورة والذكاء الاصطناعي- بتصميم هذه الخدمات بمستوى دقة أعلى من أي وقت مضى.
كما عبرت الدكتورة فاطمة باعثمان، مؤسسة ورئيسة مجلس إدارة جمعية الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية، عن دعمها القوي للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تطوير نماذج جديدة للنمو الاقتصادي، لمواجهة الآثار السلبية للجائحة على الاقتصاد. وطبقاً لكلامها، فإن مستقبل الحكومة يتمثل في “الذكاء الجمعي”، الذي سيلعب الذكاء الاصطناعي دوراً حاسماً في تحقيقه. علاوة على ذلك، فإن إدراج مؤشرات محددة للذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى الناشئة، لبلد ما في تقييم ترتيب حكومتها الرقمية على المستوى العالمي من شأنه تشجيع الحكومات على التفكير بشكل مختلف.
ولتمكين هذه المبادرات، سيتعين أيضاً أن تخضع السياسات واللوائح لتغييرات كبيرة. وللتدليل على ذلك، ذكر المهندس عمر الرجراجي، نائب محافظ هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات للتنظيم والمنافسة في المملكة العربية السعودية، كيف قاموا بإنشاء “مختبرات” لتوفير خدمات توصيل إلى المنازل على أساس استباقي، وهو ما أدى إلى تطوير تطبيقات جديدة يسرت تسليم أكثر من 10 ملايين شحنة إلى الأسر المعيشية، مع الالتزام ببروتوكولات السلامة. ويمكننا أن نتوقع تسارع هذا النهج القائم على الاحتياجات، من أجل تحطيم العقبات التي تعوق اعتماد التقنيات الناشئة -كما رأينا أثناء الجائحة- ما يسمح بتوفير استجابات سريعة.
وسوف تدعم التغييرات المجتمعية -مثل تزايد عدد السكان الرقميين- التحولَ الرقمي بشكل أكبر، مع تزايد الإقبال على المحتوى الرقمي والخدمات الرقمية. كما أن زيادة اعتماد المجتمع على التكنولوجيا الرقمية ستتيح للحكومات فرصة لخفض التكاليف الإجمالية للعمليات، من خلال الاستفادة من القنوات الرقمية وتحسين تدفق المعلومات.
ومع ذلك، ستحتاج الحكومات إلى التعامل بعناية مع التحديات المتعلقة بالخصوصية وإدارة البيانات، وأمن المعلومات، والاستخدام الأخلاقي للتقنيات الناشئة، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والرقمي للتلاعب بالجماهير. على سبيل المثال، أفادت الأمم المتحدة بحدوث زيادة بنسبة 600% في رسائل البريد الإلكتروني الخبيثة أثناء الجائحة. يأتي هذا في الوقت الذي لم تهدأ فيه بعدُ مخاوف الخصوصية المرتبطة بكوفيد-19، وتطبيقات تتبع الاحتكاك في العديد من أنحاء العالم. وبدوره، أثار المهندس إيهاب فودة، المدير الإقليمي لمايكروسوفت في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، المخاوفَ المتعلقة بالأمن، قائلاً إنه مع تحول أسلوب العمل الرقمي إلى وضع طبيعي جديد بالنسبة للحكومة، فإن توفير شهادات رقمية لتجنب الاحتيال، وإيجاد طريقة لتأمين العمليات الحكومية تتجاوز نطاق الاتصالات ستصبح نقاط محورية بالغة الأهمية.
وثمة اتجاه آخر من المتوقع أن يكتسب زخماً نتيجة لهذه الجائحة، ألا وهو التركيز المتزايد على الابتكار الرقمي المحلي وتوصيله. ومع ذلك، أشار المهندس علي العسيري، الرئيس التنفيذي لبرنامج يسّر، إلى أن النجاح سيتوقف على فهمنا للقوى الأساسية مثل التغيير في الطلب، ومتطلبات القوى العاملة الجديدة، واللوائح، فضلًا عن فهم أزمة كوفيد-19 للإعداد لمستقبل أفضل. كما سلط الضوء على الشراكات بوصفها أحد عوامل تمكين الابتكار الرئيسية في الحقبة الجديدة للحكومة الضخمة. وحتى إن كان ثمة تركيز أكبر على الابتكار المحلي، فلا ينبغي له أن يصبح عائقاً أمام التعاون وتبادل المعرفة.
إن إنشاء توائم رقمية، وتعزيز القدرات والإمكانات نتيجة للاستثمارات، في السنوات المقبلة، سيُغير أيضاً مستقبل مكان العمل في الحكومات، ويمكننا أن نتوقع أن العمل عن بعد سيصبح هو القاعدة. كما أن التحول من ضرورة التواجد على مكتبك إلى أن تصبح شخصاً مُنتجاً بغض النظر عن موقعك سيمثل تحولاً ثقافياً كبيراً للقطاع العام. لذلك، فإن القيادة تتطلب توفير إدارة تغيير منظمة من أجل مواءمة طرق عملها مع المواطنين الرقميين وحقائق السوق الجديدة.
وفيما سلطت الندوة الضوء على الكيفية التي أبرزت بها جائحة كوفيد-19 أهميةَ التحلي بروح المبادرة في استخدام وتنفيذ التحول الرقمي، لا سيما السحابة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وتقنيات التنقل والتعاون، فقد عززت أيضاً فكرة أن التحول الرقمي يجب أن يكون مدفوعاً بالاحتياجات، ويهدف للتصدي للتحديات الرئيسية التي تواجه المجتمع والحكومة.
بعبارة أخرى، لا يمكننا حل مشاكلنا باستخدام نفس طريقة التفكير التي خلقت هذه المشاكل في المقام الأول. لذلك، من المهم أن نستخدم الدروس المستفادة من كوفيد-19 لإعادة التفكير في نموذج العمل الحكومي الذي يركز بشكل أكبر على الإنسان، والأكثر مرونة في إدارة الأزمات سواء كانت هذه الأزمات جوائح أو غيرها من الكوارث الطبيعية أو تلك التي تسبب فيها الإنسان. على سبيل المثال، فإن راندال بروجود، الرئيس التنفيذي لهيئة التحول الرقمي الأسترالية، قد عزا استجابة الحكومة الفعالة للأزمة إلى قدرتها على تحقيق التعاون الرأسي والأفقي في مختلف القطاعات الحكومية، عن طريق اعتبار “تجربة العميل” هي محور جميع الإجراءات، التي قال إنها “مثلت تحولاً ثقافياً كبيراً للحكومة الأسترالية”.
إن المطلوب هو توفير توجيهات واضحة، وقدرات أساسية معينة، وقابلية للتشغيل المتبادل والتعاون بين السياسات والخدمات والإدارات في جميع مستويات الحكومة. فعلى سبيل المثال، قد تتطلب الأدوار التقليدية والتشغيلية في الحكومة اتباع نهج أكثر إنسانية في تحويلها، مقارنة بأدوار العصر الجديد وخدماته. وبالمثل، فإن عملية اتخاذ القرار في الزمن الحقيقي، المعتمدة على البيانات، ستحتاج إلى تحسين أوجه الربط على نحو يتجاوز الصوامع الموجودة حالياً في الحكومات.
وأخيراً، لا ينبغي النظر إلى كوفيد-19 على أنها مجرد أزمة، حيث قال معالي المهندس هيثم العوهلي، نائب وزير الاتصالات وتقنية المعلومات بالمملكة العربية السعودية، إنه يتعين علينا أن ننظر إلى هذه الأزمة باعتبارها اختباراً لقدراتنا، وتدريباً على بناء مستقبل أفضل. يجب أن نخرج من هذه الأزمة كمجتمعات أكثر اتساقاً ومرونة وقدرة على التكيف على الصعيد المحلي والوطني والإقليمي والدولي. كما أوضحت جاين تريدويل، خبيرةَ التنمية الرقمية في مجموعة البنك الدولي، للمشاركين في الندوة، أنه عند وقوع الأزمة الحالية، لم يكن لدى ما يقرب من 3.5 مليار شخص القدرة على الوصول إلى الإنترنت، أي حوالي نصف عدد سكان العالم، وهو أمر لا يمكن قبوله في مستقبل مُرتكز على الإنسان وأولوية التكنولوجيا الرقمية. ولابد أن تعمل الحكومات على فهم القيود والقدرات الحالية، لضمان عدم تخلف أي شخص عن ركب الثورة الرقمية الحالية. وعندئذ فقط سنرى حكومات مرتبطة فعلاً بمواطنيها، وقادرة على الوفاء بواجباتها الأساسية.
ملحوظة: إن الرؤى والبيانات الواردة هنا مُستمدة من الندوة الافتراضية التي عُقدت تحت عنوان “الرؤى المستقبلية للحكومة الرقمية من خلال منظور فيروس كورونا المستجد”، التي نظمها برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية “يسّر”، بالتعاون مع البنك الدولي يوم 16 يونيو 2020 (ما لم يذكر خلاف ذلك).
رابط المصدر: