وليد فارس
عندما نجح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية التركية عام 2002، وشكل أول حكومة إسلاموية لعدة عقود، لم يتوقع وقتها المراقبون والدبلوماسيون أن تغييراً جارفاً قد بدأ من جمهورية أتاتورك العلمانية والقومية لتتحول إلى دولة لها تطلعات إسلاموية، ونيوعثمانية بقيادة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
منذ ذلك العام حتى 2020 نجح الحزب الحاكم في تحويل تركيا مما كانت عليه بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، وحول مسار السياسة الخارجية التركية من أطلسية في محتواها وحيادية مستقرة مع جيرانها إلى أطلسية في الشكل ونيوعثمانية في المحتوى تتبع سياسة الانفلاش والتوسع والوصول إلى أقاليم بعيدة في طول وعرض الشرق الأوسط عموماً، والعالم العربي على وجه الخصوص. ونرى اليوم أن القوات التركية موجودة في عمق شمال أفريقيا على مشارف الصحاري وفي شمال سوريا وتقصف في شمال العراق، وتنشر عسكرها في عمق أفريقيا وتوسع أجهزتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، فكيف حصل هذا الأمر وهل نجحت النيوعثمانية في العودة إلى العالم العربي والتجذر فيه؟
في نهاية العام الأول من حكم العدالة والتنمية وجه يومها رئيس الوزراء أردوغان رسالة إلى الداخل التركي المؤيد لأفكار الحزب والتيار الإسلامي المتأثر بالإخوان المسلمين في المنطقة عبر منع الأميركيين من استعمال القواعد العسكرية في تركيا لاجتياح العراق في مارس (آذار) 2003.
وكانت هذه المناورة التي استعمل فيها البرلمان ليصوت ضد قرار السماح لإدارة جورج بوش استعمال الأراضي التركية الأطلسية للدخول إلى العراق من شماله كنقطة تحول كبرى في المشروع النيوعثماني. أما في السنوات التي لحقت بهذا التطور فركزت الحكومات التركية المتتالية لأكثر من عقد على توطيد العقيدة والسياسة الجديدة داخل مؤسسات البلاد والمجتمع التركي حتى تمكن الرئيس أردوغان وفريقه من السيطرة على مقدرات البلاد بوساطة قاعدة شعبية حزبية قوية مدعومة من قبل مؤسسات اقتصادية باتت بخدمة الحزب الحاكم.
المحطة الثانية كانت في فتح علاقات مع الدول العربية بمختلف حكوماتها لكسر العزلة التركية الأطلسية السابقة، وتصوير تركيا أنها عائدة إلى العالم الإسلامي بعد أكثر من نصف قرن من الحالة القومية العلمانية.
وخلال هذه السنوات، حيث وطد حليف الإخوان التركي أوضاعه الداخلية بصبر وتأن سمحا بتوفير الاستقرار الداخلي لحكومة السيد أردوغان لكي تقوم بالتغيير الراديكالي الكبير في سياستها الخارجية، وكأن السلطة الحاكمة في أنقرة أبقت النخب الاقتصادية والمالية وأعطتها مساحات للازدهار والاستفادة على أن تتمكن الحكومة من إجراء المنعطفات التي أدت إلى الوجود الاستراتيجي التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأول انعطافة تجسدت في تحالف استراتيجي بين حكومة العدالة والتنمية ودولة قطر على أساس تموضع الدولتين تحت المظلة الأيديولوجية لجماعة الإخوان المسلمين.
شكلت هذه المعادلة بين الدوحة وأنقرة أول جسر ما بين العثمانية الجديدة وحكومة عربية ذات ميول إخوانية. وبات التحالف بين السلطتين قاعدة لمحور جديد بدأ في السباق مع المحور الشيعي الخميني من ناحية والمحور السني العربي المعتدل من ناحية أخرى.
غير أن المنعطف الأكبر الذي سمح بإنزال تركي داخل العالم العربي جاء مع الربيع العربي، فتمكنت تركيا ومعها قطر من التواصل مع شبكات الإخوان المسلمين في عدد من العواصم العربية التي شهدت انتفاضات ضد أنظمتها من سوريا حيث ربط الحلف القطري- التركي مع جماعات الإخوان في الداخل السوري بعد أشهر من تظاهرات المجتمع المدني، التي سرعان ما قمعها نظام بشار الأسد وسمح للمحور الإخواني باستيعاب بقايا المعارضة السلمية، بالتالي الربط مع ميليشيات إخوانية وأحياناً مع تنظيمات جهادية بأقل من عقد.
كما دخل النفوذ التركي الجديد إلى عمق العراق السني الذي كان يعاني من سيطرة الميليشيات المؤيدة لإيران على جزء من أهل السنة، ما بين النفوذين التركي والقطري. أما في لبنان فلعبت الحكومة التركية بذكاء شديد على وتر الناشطين السنة الإسلاميين بين طرابلس والضنية وعكار، وذلك عبر مؤسسات اقتصادية وتنموية وثقافية بقيادة الجماعة الإسلامية، وربطت أنقرة أيضاً بشكل غير حاد مع الشبكة الإخوانية القديمة داخل الأردن، وعبرها إلى غزة حيث استفادت التنظيمات الإسلاموية الموالية لأنقرة من وصول سفن المساعدات إلى حركة “حماس” لتلتقط جزءاً من الورقة الفلسطينية.
هكذا، استعملت الدولة التركية القوية، عضو الأطلسي، هذه القدرات الكبيرة لتربط مع الشبكات الإخوانية المتجذرة في الدول العربية، وصولاً إلى اليمن حيث أن المساعدة التركية باتت موجودة عبر حزب الإصلاح في الشمال والجنوب وتحاول أن تقلب الميزان في المعسكر الذي يواجه الحوثيين إلى جهة محور قطري- تركي، عوضاً عن التحالف العربي.
في عام 2016 على أثر ما سمي بمحاولة الانقلاب في إسطنبول، استفادت الحكومة من التعاطف الشعبي لتقوم باجتثاث حلفاء الأمس في حركة الخدمة الإسلامية من ناحية، وقيادات الجيش التركي التي كانت لا تزال وفية لمبادئ أتاتورك الاستقلالية والعلمانية من ناحية أخرى.
والملاحظ أن عملية التمكين بعد محاولة الانقلاب هذه سمحت لحكومة أردوغان بأن تصل إلى المرحلة الاستراتيجية الأخيرة وتتمثل في التدخل المباشر خارج تركيا بشكل لا مثيل له، ورأينا منذ عام 2017 كيف كثفت أنقرة وجودها على خطوط الحدود مع سوريا ودخلت بعد ذلك مباشرة إلى جانب ميليشيات إخوانية في منطقة إدلب وإلى عفرين، حيث طردت قوات سوريا الديمقراطية واستمرت في تقدمها، ورأينا كيف أنها في العام الماضي فرضت على القوات الكردية الانسحاب من طول الحدود السورية على الرغم من وجود قوات أميركية على الأرض، وكثف الطيران التركي عملياته في شمال العراق على أراضي الحكومة الإقليمية، وبدأت حكومة العدالة الإسلاموية بإرسال بعثات عسكرية في عمق العالم العربي، كان أولها قاعدة عسكرية في دولة قطر بعد المقاطعة العربية للدوحة في يونيو (حزيران) 2017، ومن قطر إلى الصومال ومحاولة كسب موطئ قدم في جيبوتي وإريتريا، إضافة إلى وجود في عدة دول أفريقية على أساس وجود في قوات السلام.
غير أن العودة الكبرى اكتملت مع إرسال حكومة أردوغان مساعدات عسكرية إلى حكومة الوفاق المتحالفة مع الإخوان في غرب ليبيا، ووصلت إلى ذروتها مع إنزال قوات تركية وأساطيل من طائرات الدرون في طرابلس ومصراتة، الأمر الذي سمح لها بالتقدم والسيطرة على أجزاء من ليبيا. وبإمكان المراقبين رؤية حملات مستقبلية لقوات أنقرة باتجاه العمق الليبي الجنوبي وعبره إلى داخل منطقة الساحل الأفريقي.
استفادت تركيا من إنزالها العسكري لكي تعلن التعاون مع حكومة فايز السراج وعن سيطرتها المائية بين الأناضول والشواطئ الليبية، واضعة إياها في مواجهة الدول العربية والأطلسية كاليونان وفرنسا. هذا التوسع النيوعثماني مبني على عاملين: الأول، قدرة حكومة أردوغان على استعمال القوة الأطلسية والاقتصادية التركية في دخولها إلى عمق العالم العربي بشكل يوحي بعودة الإمبراطورية العثمانية السابقة لكن بشكل حديث.
أما العامل الثاني، وربما الأهم، فهو السماح الأميركي لهذه العودة النيوعثمانية وأن تصبح واقعاً، وقد شرحنا مراراً وتكراراً أن هذا التمكين في واشنطن يعود إلى قدرة اللوبي القطري- التركي- الإخواني المشترك، الذي إن لم يؤثر في الإدارة لتكون داعمة رسمية لمشروع كهذا، ولكن على أقل تقدير يسهم في ألا تكون معارضة له، وهذا العامل مستمر حتى الانتخابات الأميركية، وبعد ذلك سوف نرى إن كان بإمكان الإدارة الجديدة أو المتجددة إعطاء الضوء الأخضر لأنقرة أو الحد من توسعها في بلاد العرب.
رابط المصدر: