قدرة الدولة على احتكار العنف ترتبط مباشرة بالحد من انتشار السلاح السائب، وتحييد سلوك العنف عند الفصائل الهجينة التي تعيش في منطقة رمادية بين “الدولة واللادولة”، وهي الأحزاب السياسية المختلطة التي تمتلك أذرعا داخل النظام السياسي التشريعي والتنفيذي، وأذرعا أخرى مسلحة عقائدية موازية للدولة.
إن قدرة الدولة على فرض سيادتها الداخلية ترتبط بصورة رئيسية بالحد التدريجي من تأثير الفصائل والاحزاب الهجينة، من دون الدخول بصدامات عنيفة ومعارك تكسير عظام لإنهاء وجودهم، ولكن الخطوة التدريجية تكمن في احتواء كيانهم لإصلاحه، وتفكيك نواتهم الصلبة بفتح حوار قانوني وطني، ومن ثم معالجة المتمرد بفرض القانون ولو بالعنف.
وتكشف التجربة العراقية (2007-2020) مع الفصائل المسلحة الشيعية، عن إمكانية لجوء الدولة للاستقواء بالخارج -الذي قد يتضرر من تعاظم دور الفصائل المهجنة- من أجل عرقلة توسعها (الفصائل) في جسد الدولة، إذا ما وجدت (الدولة) نفسها عاجزة عن التعامل مع تلك الفصائل أو التأثير في سلوكها اعتمادا على قدراتها الذاتية، لاسيما مع تنامي نفوذ الفصائل الذي بات مهددا لمؤسسات الدولة ودستورها وقانونها واقتصادها وسيادتها.
وتكمن مخاطر اتباع هذه المنهجية العنيفة، وغيرها من المنهجيات الذكية المركبة من القوة الناعمة والقوة الخشنة، التي تتضمن مواجهة أمنية أحيانا، في أن نجاح منهجية عام 2008 في تعطيل فاعلية بعض الفصائل المهجنة من خلال استخدام القوة المفرطة لم ينه وجودهم من الناحية الفعلية، وإنما حول مسارات تصادمهم مع القوات النظامية ومنع احتكاكهم بالسكان المحليين.
ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل سعت هذه الفصائل إلى الانشقاق من التجمعات الكبيرة لتكوين تنظيمات جديدة تحمل نفس جينات العقائدية والمنهجية لكنها أكثر خبرة وفاعلية.
يختلف تعامل الحكومات العراقية مع الفصائل المهجنة من حكومة لأخرى ومن فصيل لآخر داخل الدولة العراقية، والتعامل مع الفصائل المختلطة أو الهجينة بعد عام 2007 في العراق أظهر أربع منهجيات سياسية بحسب فترة رئاسة الوزراء:
أولا: فترة نوري المالكي (2006-2014):
الملاحقة الامنية والاستهداف العسكري “صولة الفرسان”: لم تلجأ حكومة المالكي لأسلوب الملاحقة القضائية والامنية والاستهداف العسكري كخيار أحادي للحد من تمرد نموذج المجاميع الخاصة المسلحة الشيعية لاجتثاثها أو لإصلاح سلوكها، ولكنها اتخذتها كخطوة لاحقة بعد فشل دائرة المصالحة ودائرة نزع السلاح ودمج المليشيات لاحتوائها عبر نافذة الحوار، أو بمعنى أدق إن المجاميع الخاصة نفسها دفعت حكومة المالكي لاتباع هذا الخيار العنيف في التعامل معها، خاصة بعدما رأت أن الحكومة تهدد نفوذها العسكري وسلطاتها الاقتصادية.
وكانت خطوات الحكومة آنذاك بالتعاون مع القوات الامريكية؛ البدء في استهداف الهيئات الاقتصادية الخاصة بالمجاميع الخاصة وقياداتها والحوار المستمر مع جناحها السياسي وشبكة المكاتب الدينية التي تتبعها، وملاحقة افرادها المسلحين الضالعين بعمليات مسلحة بالضد من العراقيين فقط، وتصنيف أبرز قياداتها ضمن قانون الارهاب العراقي “4آ/ إرهاب لعام 2005”.
ويندرج ضمن هذه السياسة أيضا، اتجاه حكومة المالكي إلى إحداث انشقاقات تنظيمية داخل كتلة المجاميع الخاصة وتسليح المقاتلين المنشقين وحتى مواطنين بعنوان “مجالس الاسناد العشائري” من أجل مساندتها في عملياتها العسكرية ضد عنف المجاميع الخاصة الرافضة للحوار والاندماج مع النظام السياسي القائم آنذاك، لتخرج نفسها من دائرة التصادم المباشر لتترك المجال أمام جماعات منشقة للمواجهات المباشرة مع المجاميع الخاصة، وهذا ما حدث في البصرة وبغداد عام 2008. ويحمل اتباع هذه المنهجية العلاجية مخاطر كبيرة على السلم المجتمعي، ويحتاج إلى حذر كبير وإلى امتلاك القضاء والقوات الأمنية النظامية القدرة الكاملة على امتلاك إرادة التحكم بزمن المبادرة وإنهاء هذه المواجهة متى أرادت ذلك، فضلا عن القدرة على إدارة الجماعات المنشقة التي انسجمت مع قرارات الحكومة، حيث تحولت تلك الانشقاقات الى فصائل كبيرة وكيانات مهجنة موازية لكيان الدولة العراقية بعد عام 2011.
هذا المنهجية في لحظة معينة من عام 2008 كادت تدفعنا إلى حرب شيعية- شيعية، إذا ما انخرط الموالون لطرفي الصراع فيها، كما أن الحكومة فشلت بمرحلة لاحقة في حصر السلاح بيد الدولة، وهو ما قد يهدد بقاء النظام السياسي واستقرار الدولة ككل، وتشير الامثلة القائمة كواقع الى أن الفصائل التي انشقت من جيش المهدي ومنظمة بدر وكتائب أبو الفضل العباس أصبحت خلال أعوام 2018-2020 من أبرز الفصائل المهجنة، حيث مارست هذه السياسة في تكوين الطبيعة المهجنة للفصائل الكبيرة.
ثانيا: فترة حيدر العبادي (2014- 2018):
تعزيز دمج الفصائل المهجنة في الحياة السياسية، وذلك بتشريع قانون 40 لعام 2016 الخاص بهيئة الحشد الشعبي، الذي يفصل بين العمل المسلح والعمل الحزبي السياسي، وتنبع منهجية العبادي، من أن تعميق إشراك الفصائل المهجنة في الحياة السياسية واشغالهم في مشاكل الحكومة والتشريعات، وتجريدهم من السلاح خارج هيئة الحشد الشعبي، ستحدث هذه المنهجية نوعا من الاعتدال في توجهات قادة الفصائل المهجنة؛ فيصبحون أقل راديكالية وأكثر براغماتية، وأكثر قدرة على التحول من عقيدة الحل بالسلاح الى عقيدة الحل بالحوار، والانشغال ببناء تحالفات من أجل الحصول على حصتهم من الوزارات والهيئات حتى مع الاطراف التي تختلف عنه عقائديا ومنهجيا بما في ذلك خصومهم في سلاح.
هذه المنهجية لم يخترها العبادي، لكنها فرضت عليه بسبب ضغط معارك تحرير العراق من احتلال تنظيم داعش، وفي العادة تجد الحكومة نفسها مجبرة على اتباع هذه المنهجية، عندما تستند الفصائل في جزء كبير من شرعيته على فتاوى دينية وتضحيات كبيرة، وإلى عدم قدرة الحكومة على التعبير عن الحد الادنى من رفضها لتوسع نفوذ تلك الفصائل.
في مرحلة الحرب على داعش أدار أبومهدي المهندس القائد الاعلى العملياتي والميداني لتلك الفصائل (2014-2020) سلوك تلك الفصائل نحو توفير احتياجات المواطنين والخدمات التي عجزت الحكومة عن توفيرها، مثل الاحتياجات الاساسية وحماية أمن واستقرار المجتمع، على نحو يجعل المواطنين على ارتباط بالفصائل ويشعرهم بأنهم معنيون بالدفاع عنها تجاه أية أخطار قد تهدد وجودها. وهو ما قد فرض سياسة الأمر الواقع حول ضرورة إشراك الفصائل في مسك الارض المحررة حتى بعد إعلان النصر على تنظيم داعش نهاية عام 2017، خاصة في حالة ضعف سلطة الحكومات المحلية والمركزية. ووفقا لهذه المنهجية، سمحت حكومة حيدر العبادي باستمرار انخراط الفصائل المهجنة في إدارة المناطق السنية ومناطق الاقليات المحررة وفق سقف محدد لا يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات، ولكن هذا لا يمنعهم من التحكم بفرض حليفهم من تلك المناطق على رأس السلطة التنفيذية.
في اذار/ مارس 2018 أصدر الدكتور العبادي تعليمات دقيقة تمهد لانخراط الفصائل المهجنة ضمن منظومة الدفاع الوطني وذلك ليسهل عليه التعامل معها ضمن قانون الانضباط العسكري، حيث يضمن انكشاف مفاصلها وشبكة مواردها الاقتصادية، واعتبرت هذه التعليمات بداية شحناء بين العبادي وقيادات الفصائل المهجنة، التي انتهت بعدم تجديد ولاية ثانية له عام 2018.
ثالثا: فترة عادل عبد المهدي (2018-2020):
منهجية تمكين الفصائل المهجنة واحزابها من المشاركة الوظيفية في السلطات التنفيذية والتشريعية، وبحسب نهج حكومة عادل عبد المهدي فاننا عادة لا ننجح في تفكيكهم ولا بضبط إيقاع سلوكهم، والافضل ان نأتي بهم كشركاء لتحمل المسؤولية التضامنية والتشاركية معنا، وقد وفر لهم كل أسباب تحقيق هذه التشاركية، وكم كان محسنا لهم غير أنهم تعاملوا مع احسانه لهم بطريقة رديئة أنهت فترة حكومته مبكرا واجبر على الاستقالة بسبب احتجاجات تشرين 2019 واستجابة منه لطلب مرجعية النجف، فقد فشلت حكومة عبد المهدي بالتفاوض معهم والوصول إلى مستوى معين من التفاهمات، وفي احداث امنية كثيرة كانت منهجية حكومة عبد المهدي، سببا في تحول الفصائل المسلحة غير المغطاة بقانون 40 لعام 2016 التابع لهيئة الحشد إلى فصائل مهجنة.
إن فاعلية هذه المنهجية، كانت يعوزها قدر من الحزم والضبط من قبل الحكومة، واحترام للشراكة من قبل الفصائل المهجنة، من أجل التوصل الى تفاهمات تخدم جميع الأطراف، خاصة أن التشاركية تتطلب تنازلات من الطرفين من أجل الوصول إلى الحلول الوسط، والابتعاد عن فرض خطوط حمراء يضعها كل طرف لنفسه لا يقبل التنازل عنها، والتي قد تتناقض ولا تتلاقى في حوادث كثيرة وقعت بعد منتصف عام 2019 ولغاية منتصف عام 2020.
رابعا: فترة مصطفى الكاظمي (2020-):
منهجية القوة الذكية، وهي مركبة من استخدام القوة الناعمة والقوة الخشنة، واستهداف مصالح الفصائل خارج قانون هيئة الحشد الشعبي وتصنيفها حسب قربها أو بعدها من المعياري الوطني، ومنع تمددها على حساب جسد الدولة العراقية، وتدرك حكومة الكاظمي أن من المبكر خوض معركة تكسير عظام مع الفصائل المهجنة، وأن أي محاولة فرض القانون عليهم يمكن ان تتحول الى مغامرة معقدة، وقد يصعب على الفصائل المهجنة القبول بدمجها داخل جسد الدولة أو التفاوض معهـا لأسباب عديدة، وهي في الوقت ذاته لا تمتلك الارادة السياسية الحازمة في الدخول في صدام معهم، وهو ما قد يدفعها إلى استهداف المناصب الحكومية التي استحوذوا عليها بطريقة مخالفة للقانون، وتجريدهم من المكاتب الاقتصادية التي تتحكم بالثروات والمال العام، والتضييق عليهم والتأثير على سلوكهم العنيف.
ويعتبر تعامل حكومة الكاظمي مع حادثة “البوعيثة” جنوب العاصمة بغداد في 26 حزيران/ يونيو 2020 نموذجا مستعجلا في تطبيق هذه المنهجية، فعلى الرغم من توفر الغطاء الشعبي والقضائي، الا أن تراجع وتناقض بيانات الحكومة الرسمية، والتوجه نحو فتح نافذة القوة الناعمة وعودة منهجية حوار الباب المفتوح يؤكد عدم دراسة الخطوة قبل الاقدام عليها.
وهذا التراجع قد يوقف محاولات الدولة استخدام القوة الخشنة في الحد من نفوذ الفصائل المهجنة، والعودة للتفاهمات والاحتواء الحذر من أجل تقييد تحركاتهم التوسعية ومشروعاتهم الجهادية، لأن فريق الكاظمي قد تعلم بدون أدنى شك أنه لابد من وجود دولة قوية تستطيع أن تقوم بمنهجية القوة الذكية لتحجم تمدد الفصائل المهجنة في جسد السلطة والاقتصاد داخل الدولة العراقية التي تنشط فيها، لأن فشل صولة “البوعيثة” أرغمت الحكومة على القبول بتوازنات القوى بين الفصائل المهجنة وبين الدولة.
ويبرز خطر الاستعجال في تنفيذ هذه المنهجية قد ينتهي بتكرار منهجية عادل عبد المهدي، والخطير إذا ما رأت الفصائل أن هذا الاستهداف يشكل أزمة تهدد بقاءها، وهي تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية والاعلامية والمجتمعية ما يجعلها قادرة على ردع كل من يحاول تهديد مصالحها، وأنها تستطيع قطعا الدخول في مواجهة الدولة على نحو يجعل حكومة الكاظمي تقبل بتلك التوازنات.
رابط المصدر: