صباح ناهي
العهد الجديد للكرد العراقيين بدأ منذ انسحاب القوات العراقية من بعض المناطق شمال العراق في نهاية حرب الخليج عام 1991، حين أنشأ الكرد مؤسسات تمهّد لاستقلالهم بتحويل قوات البشمركة الكردية إلى قوات نظامية خاصة بهم وتأسيس برلمان، وإعلان حكومة الإقليم ووزرائها، وحصلوا على 17 في المئة من عائدات النفط العراقي من الحكومة المركزية، التي تصدّر نفطها من البصرة وكركوك بموجب اتفاق فرضته الأمم المتحدة.
من الحكم الذاتي إلى الشراكة في الحكم
لكن الحماية الدولية التي أسهم الأميركيون في فرضها قد رُفعت بعد احتلال 2003، حين امتدت سلطة الإقليم وأضحت شراكة على عموم الدولة العراقية، وصار الكرد شركاء في الإدارة السياسية للعراق وفق نظام المحاصصة الذي ساعد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر والسفير زلماي خليل زاده (الأميركي من أصل أفغاني) في تكريسها، ومنح الكرد حصة (الثلث المعطل)، نتيجة المشاركة في كتابة الدستور العراقي والاعتراف الصريح بتولّي الكرد زمام تأسيس مؤسسات الإقليم الرئيسة كالحكومة والجيش النظامي والبرلمان وفق المادة 121 من الدستور التي تجيز أن تكون للإقليم سلطات تشريعية تتعدّى قرارات الحكم الذاتي السابقة التي منحها لهم حكم صدام حسين في 11 مارس (آذار) 1970.
الواقع الكردي الضاغط والمأزوم
لم تكن رغبة الكرد وإصرارهم على المطالبة بدولة مستقلة نابعة من فراغ، بل من معاناة مستمرة نتيجة شعورهم بأن غالبية القوميات من حولهم قد تمكّنت من الاستقلال ونيل حقوقها في الاستقلال السياسي بعيد الحرب العالمية الأولى مطلع القرن العشرين، ونتيجة للشعور بالحيف من السياسات الشوفينية التي مورست على الأقليات النظيرة في مجتمعات الغالبية القومية، كما جرى في إيران وتركيا. واعتبارهم في العراق القومية الثانية بعد العرب، أذكى لديهم إحساساً بالغضب والظلم كونهم لم يحقّقوا ما حقّقته شعوب أخرى نالت استقلالها، ولجأت إلى الخيار العسكري والقمع الشديد لمجابهة الآمال الكردية، ما أدخل الشعوب الكردية الخنادق لنيل حقوقها.
طموحات بسقف عالٍ
غير أن طموحات الكرد في العراق تميّزت بسقفها العالي، حين تيقّنوا أن الفرصة مؤاتية للتوسّع في معادلة الجغرافيا وتمدّدوا في المعادلة العراقية بعد احتلال عام 2003، التي تتلخّص بأن الجبل وسفحه للكرد والهضبة للسنّة العرب والسهل الرسوبي للشيعة العرب. وطالبوا بمناطق أوسع من حدود إقليم الحكم الذاتي السابق، وامتدوا للسيطرة على كركوك التي وصفها الدستور وفق المادة 43 بـ”إحدى المناطق المتنازع عليها”، كأجزاء من سهل نينوى وبعض مناطق تكريت وديالى، بل توغّلوا بعيداً نحو جبال زاكروس التي تحادد إيران.
التعايش التاريخي بين العرب والكرد
لم يكن الصراع العربي الكردي وليد اللحظة الراهنة بُعيد احتلال العراق وإسقاط نظامه في 2003، بل يعود بعيداً إلى التقسيم الإداري العثماني إلى ولاية الموصل التي تضمّ خمس محافظات عراقية حالية، هي الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك ودهوك، الذي فرض بقوة السلطان العثماني وقتها تعايشاً تاريخياً، منذ عهد الحاكم سليم الأول (1512- 1520)، وقد شارك الكرد في الحياة العامة باندماج لافت لقرون، لغاية العهد الملكي (1920- 1958) إذ كانت تدين تلك المحافظات الـ18 التي يتألّف منها العراق الحالي إلى السلطة المركزية في بغداد.
فلم يكن أحد يجرؤ على غير تجزئة السكان، أو يميّز مرجعيتهم لغير العاصمة بغداد التي تحكم العراق منذ خلافة أبو جعفر المنصور العباسي، حتى إن قسمت إدارياً إلى ثلاث ولايات، البصرة وبغداد والموصل، أو احتلتهم أقوام شديدة المراس تحكمها شهوة الطمع والغزو لطمس إرث هذا الشعب والحضارات السبع العريقة التي تأسّست عليها الحضارة العراقية بمساهمة مكوّناتها. وقد تأثر التعايش التاريخي بين العرب والكرد بوقوع العراق في قلب الشرق الأوسط في أرض مفتوحة مع خمسة بلدان مختلفة النوازع ومتباينة النوايا والمصالح والأهداف، بينما شكّل غياب السياسات المتوافقة داخل النظام الإقليمي العربي تجاه القضايا الداخلية والخارجية أحد الأسباب التي أثرت في العلاقات العربية- الكردية.
حق تقرير المصير مرهون بأربع دول إقليمية
وقد تصاعد مطلب حق تقرير المصير و”دولة كردستان الكبرى”. وهذه المسالة لم يرفضها العراقيون وحدهم، بل الدول الثلاث التي يتوزّع فيها الكرد (40 مليون نسمة)، إيران وتركيا وسوريا. لكن الحلم استمرّ بإعلان دولة كردية عاصمتها أربيل، تلك المدينة الآشورية التي تُسمّى مدينة “الآلهة الأربعة”.
فمنذ تجربة إعلان دولة مهاباد الكردية في أقصى شمال غربي إيران، التي كانت محاولة سوفياتية لتأسيس جمهورية كردية، أُنشئت سنة 1946 ولم تدم لأكثر من 11 شهراً وقمعها الشاه رضا بهلوي، الذي أعدم مؤسسها القاضي محمد، وفرّ وزير دفاعها الملا مصطفى البارزاني آنذاك إلى الاتحاد السوفياتي، مع أسرته وبعض رفاقه.
محاولات انفصالية لم يُكتب لها النجاح
ولم تكن هذه المحاولة إلّا استمراراً للنزعة الانفصالية الأولى التي قام بها الشيخ محمود الحفيد، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى في الأول من آب (أغسطس) 1920 وإعلان الثورة ضد الإمبراطورية البريطانية التي سعت إلى قيام الدولة العراقية مطلع عشرينيات القرن الماضي، بعدما نكثت بوعودها للقيادة الكردية، كما يؤكد الحفيد وأتباعه الذين أعلنوا الثورة من أجل الحقوق القومية للكرد في شمال العراق. ولم تطبّق معاهدة سيفر التي وُقّعت في منتصف عام 1919، وألقت القوات البريطانية القبض على الحفيد ونفته خارج العراق.
لكنه عاد من منفاه بعدما وقّعت بريطانيا اتفاقية تنظيم العلاقة مع الحكومة العراقية تمهيداً لمعاهدة دائمة، وحشّد الشيخ الحفيد أتباعه من السليمانية لمحاربة الإنجليز والمطالبة بدولة كردية في كردستان، تمتدّ من خانقين حتى زاخو المتاخمة لتركيا، لكن القوات العراقية والإنجليزية تمكّنت من قمع هذه المحاولة أيضاً.
لقد تزامنت ثورة الحفيد مع إعلان تمردّ قاده الملا مصطفى البارزاني من أربيل في أبريل (نيسان) حين استطاعت القوات العراقية والطيران الإنجليزي الذي شنّ هجوماً واسعاً على منطقة تمركزه في بارزان. واستمرت الثورات المتلاحقة للحركة الكردية للمطالبة بالاستقلال وتبنّي ثورات شعبية متلاحقة بزعامة الملا مصطفى البارزاني، والد مسعود البارزاني.
مطالبات بولاية كردية وحقوق محددة
كانت مطالبات الملا مصطفى بتأسيس ولاية كردية تتمتّع بالحكم الذاتي تضمّ أربيل وكركوك ودهوك والسليمانية، واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية للإقليم، وتعيين نائب وزير كردي في جميع وزارات الدولة. لكنه لم يفلح واستخدم النظام الملكي القسوة في كبح تلك المطالبات، ونُفي البرزاني وأسرته.
حتى أعاد العهد الجمهوري عام 1958، الملا مصطفى إلى العراق في محاولة للتهدئة في المنطقة. لكن، مع وصول البعثيين إلى السلطة، انزلق الوضع إلى الاقتتال، حتى توقيع بيان مارس (آذار) 1970 والاعتراف باللغة الكردية لغة ثانية بعد العربية وتأسيس مجلسين تشريعي وتنفيذي من الكرد لثلاث محافظات هي أربيل والسليمانية ودهوك. غير أن الكرد دخلوا في لعبة الصراع مع الحكومة المركزية. وبعد توقيع صدام حسين “اتفاقية الجزائر” عام 1975، التي منحت نصف شطّ العرب إلى إيران مقابل تخلّيها عن دعم القوات الكردية، خاض الجيش العراقي معارك شرسة مع الكرد. وفيما أُحرقت قرى كردية بأكملها، زُجّ الجيش العراقي في حرب عصابات في مناطق وعرة في شمال العراق كبّدته خسائر فدحة. وعلى الرغم من دخول صدام حسين حرباً مع إيران، لم تتوقف الحرب على الكرد، إلّا في 2003، حين مُنحوا حقّ التمتّع بشبه استقلال عن الحكومة المركزية ونالوا حصة 13 في المئة من عائدات النفط.
عودة الروح
تنفّس الكرد الصعداء بعد الغزو الأميركي العراق، وتمكّنهم من المشاركة في إعداد دستور للبلاد وفرض نظام المحاصصة الثلاثية (شيعة وسنّة وأكراد) والإقرار بإمكانية إنشاء إقليم فيدرالي داخل الدولة ليكون الكرد الثلث المعطل في أي قرار دستوري، مع فرض المشاركة السياسية.
لكن، بقيت كركوك لغماً يهدّد الاستقرار. فالكرد يطالبون بهذه المدينة الغنية بالنفط، لكونها باتت ذات غالبية سكانية كردية على الرغم من سياسة صدام لتعريبها. واستمر النزاع في شأنها حتى دخلتها قوات البشمركة في 2014، بذريعة الخوف من أن يحتلّها تنظيم “داعش”. لكن حكومة حيدر العبادي طوّقتها إثر تحرّر العراق من التنظيم وأمرت بانسحاب قوات البشمركة منها وطردت محافظها الكردي بعد مقاومته الجيش وقوات مكافحة الإرهاب التي أُرسلت من بغداد.
يؤكد الدكتور جاسم الساعدي، مؤلف كتاب “أكراد العراق إلى أين؟” أن “قانون إدارة الدولة العراقية الذي صِيغ بوحي أميركي، قد ثبّت حدود الدولة الكردية، وأن مسألة إقامة الدولة الكردية هي مسألة وقت في انتظار الظرف الناضج لإعلان ذلك، وما المطالبة بكركوك عاصمة لإقليم كردستان إلا تهيئة لهذا الأمر”.
وتجزم مصادر عربية في كركوك بأن الحزبين الكرديين الرئيسين عملا بسرعة لتنفيذ مخطّط “تكريد” كركوك، من خلال استقدام عشرات الآلاف من الكرد من خارج كركوك لإسكانهم فيها. وزُوِّد الوافدون ببطاقات هوية ووفِّرت لهم الوظائف، ووُزِّعت عليهم الأراضي، فيما طُرِد عرب، لا سيما مِمّن أتى بهم النظام السابق إلى كركوك.
لن يستقرّ الوضع بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة الإقليم، إلّا مع تأمين رواتب 682 ألف موظف كردي حكومي، فيما تعاني الحكومة الاتحادية أزمة توفير نحو مليار دولار رواتب. وفي ظلّ هذا، استحوذ الكرد على عائدات النفط في كركوك ومناطق الإقليم، ما يُعدُّ مخالفة دستورية، إذ يحدّد الدستور أن الحكومة المركزية هي الجهة التي تؤول إليها عائدات النفط. إلى هذا، تتّسع الهوّة بين الإقليم الكردي والمناطق العراقية الأخرى التي تديرها الحكومة حيث الفوضى والفساد وتدنّي مستوى المعيشة.
رابط المصدر: