الظهور الأول للعنصر التركي كقومية بارزة في الشرق الأوسط كان في زمن الخليفة المعتصم الذي جاء بهم من اسيا الوسطى نكاية بالعنصر العربي في جيشه , وقد كانوا ابعد الناس عن التمدن الحضاري فعانى الخليفة ذاته من وجودهم في بغداد حتى خرج بهم الى سامراء بعد ان ثار الناس ضدهم , وقد بلغوا عدة الوف .
ان المشترك بين هؤلاء الاتراك وبين المعتصم ذاته كان الضعف الفكري , اذ كان المعتصم شبه اميّ . ولم يكن الاتراك قادرين على هضم مبادئ الإسلام المعرفية , كما لم يكونوا جاهزين للانخراط في مجتمع متمدن . ولعلّ ألاسوأ من خصالهم كانت الروح الغنائمية وسرعة الانقلاب على الحلفاء لاسباب مادية , لذا كانوا اول من قتل خليفة عباسي هو ( المتوكل ) , الذي كان قد عزز من نفوذهم للقضاء على الثورات العربية ضد جوره , في الوقت الذي ظل الاتراك يشتركون مع المتوكل في خصيصة اعتقادية تمثلت في الميل لاهل الحديث من الحنابلة , الذين نجم عنهم قرن ابن تيمية وقرن ابن عبد الوهاب لاحقا . ففي نهاية العصر العباسي طرد ملك ال زنكي في الشام فقيه الشافعية ( العز بن عبد السلام ) الى مصر انتصاراً للحنابلة . وربما يرى البعض ان الامر غير ملفت , لكنّ الحقيقة ترتبط بالقدرة العقلية للاتراك ذاتهم , الذين لم يكونوا يستطيعون استيعاب العلوم العقلية او الفلسفة الإسلامية . ولولا شرعنة ابن عبد السلام لمجازر الاتراك في مصر لبقي مجهول الحال ولم يحظ بهذا الذكر الذي شاع بينهم .
ان الحديث عن التاريخ التركي – لا سيما السلجوقي منه – لا يرتبط بعنصرية مذهبية او قومية , بل هو حديث عن مشكلة كبرى تمثلت في انهيار الحضارة الإسلامية لاسباب تتعلق بهم مباشرة . فمنذ الثلث الأول للخلافة العباسية ظهرت ثمار الثورة الحسينية السابقة لها من خلال بدأ انتشار العلويين في المواطن العربية في شرق وغرب الدولة الإسلامية , والتي عنت مباشرة تشيع اغلب الجنس العربي طوعاً , فكانت الفترة منذ منتصف الحكم العباسي قد شهدت مفارقة كبيرة , حيث السلطان العباسي المتسنن والجمهور العربي المتشيع .
ان عملية الانتقال الفكري داخل المجتمع الإسلامي ما بعد ثورة الحسين بن علي عليهما السلام توسعت تدريجيا , من المرحلة الأولى التي ترك فيها النواصب من العرب العراق الى الاندلس او اليمن او غيرهما من البلدان البعيدة , كما فعلت ذرية الشمر بن ذي الجوشن وبقايا الخوارج من قبيلته تحت رايتهم , وكما فعلت ذرية ال زياد بن ابيه , اثر الثورات العراقية المطالبة بدم الحسين وآله , والتي صارت ذات بعد عقيدي ينبذ خصوم اهل البيت , الى المرحلة الثانية التي مثّلها الدعاة العلويون فكراً او انتساباً في البلدان الإسلامية , والتي غيّرت المعادلة الولائية ضد بني امية , فاستغلّ العباسيون فترتها الانتقالية للثورة والاستحواذ على السلطة تحت شعار الرضا لآل محمد , فكانت القبائل التي شكّلت وجه دولتهم رسمياً تختلف جذرياً عن الوجه القبلي لدولة بني امية , اذ ظهرت القبائل شبه المتشيعة على ساحة الاحداث الرسمية لأول مرة , لا سيما من قبائل العراق .
تدريجياً بدأ التشيع يغلب على الأرض الإسلامية طواعية , وربما تشيعت أقاليم كبيرة على يد افراد قلائل كما في أراضي الديلم شرقاً والأرض الافريقية غربا . حتى أصبحت الخلافة العباسية محصورة في منطقة ضيقة من بغداد يشاركها الشيعة تلك الأرض أيضا , اذ كانت الدولة الفاطمية تشغل كامل القارة الافريقية , فيما الدولة النميرية في جنوب تركيا ودولة الحمدانيين في الموصل وحلب , وفي الشرق دول الديلم الممتدة في عدة أقاليم , كذلك الدولة الغورية شبه المتشيعة , سوى دولة السامانيين ومن ثم ورثتهم من ال سبكتكين وبلاد سجستان الذين كانوا على مذهب العباسيين كما كانت الأردن ونجد وبعض بلاد فلسطين كذلك , وفي جنوب العراق الدولة المزيدية ودولة عمران بن شاهين , وفي اليمن كان الفاطميون والزيديون , حتى ان الخطبة في الأراضي المقدسة في مكة والمدينة ظلت لفترة طويلة للخليفة الفاطمي , اما حكام تلك الأراضي المقدسة فكانوا على الدوام من الاسر الحسنية , وفي غانا في اقاصي افريقيا كانت لبني الحسن دولة مبكرة أيضا , اما في الاندلس التي انتقل اليها النواصب من بني امية فقد قامت دولة ال حمود الشيعية لاحقا , وفي المغرب كانت هناك دولة الادارسة .
ولا يعني كل ذلك ان الناس في هذه البلدان كانوا جميعا على مذهب التشيع , اذ كانت الدول الشيعية دائماً ذات حرية اعتقادية واسعة , الى الدرجة التي كان فيها بعض وزراء الدولة الفاطمية من اهل السنة , لا سيما الوزير الأخير الذي تسبب بانقراض دولتهم على يد الايوبيين , اذ اضطرهم الى اختيار صلاح الدين وزيراً عاماً , ومن ثم غدر بهم وذبح الاسرة الفاطمية ثم التفت الى مجمل الشيعة في مصر والبلاد الافريقية وابادهم في مجزرة جماعية رهيبة .
ان هذا الانتشار الشيعي هو الذي اعطى دولة بني العباس وجهاً معرفياً وعلمياً يختلف عن الوجه القبلي لبني امية , ولم يكن العباسيون يحملون ذاتاً هذه الخاصية , لا سيما وهم قد استعانوا عسكرياً بذوي الفكر البدوي في كثير من مراحل ملكهم . فشخصيات كبيرة مثل ابن سينا والفارابي وحتى فخر الدين الرازي لم تكن سوى انعكاس للتأثير الفكري الشيعي , وفي فترة الانهيار عندما كان الاتراك العثمانيون ينعمون بالامن النسبي ويتوسعون عسكرياً في بلاد الاناضول كان الشيخ الطوسي الشيعي منهمكاً في الحفاظ على المكتبات العلمية الإسلامية وتأمين حياة العدد الأكبر من علماء هذه الامة من مختلف المذاهب , حتى صنع لهم مركزاً علمياً ضخماً في مراغة جمعهم فيه واجرى لهم العطاء .
واذا كان الاتراك الخطا من الكفار قد انهكوا شرق الدولة الإسلامية فانّ الاتراك الغز والسلاجقة من المسلمين قد تسببوا بانهيار الخلافتين الفاطمية والعباسية معا . حتى اجبروا لاحقاً ورثة بني العباس على التنازل عن الخلافة للاتراك العثمانيين , في ظاهرة احرجت رجالات العقيدة الإسلامية جميعاً بنزع قميص الخلافة عن القرشيين , ولا غرابة بعد ان تولّى امر السلطنة في مصر فعلياً جمع من الاتراك المملوكين لبيت المال .
ولعلّ اول الدول التي أقامها العباسيون بغضاً بالعلويين في مصر كانت دولة ابن طولون , الذي لم ير بداً من استغلال الموقف والاستقلال عن سلطان بني العباس , بعد ان انتدبه العباسيون لقمع التشيع في مصر .
ان محور المقال يتلخص في التاريخ الطائفي العنيف والبدوي للاتراك السلاجقة , وتسببهم في انقلاب المعادلة العقيدية داخل البلاد الإسلامية بالسيف , ومن ثم انهيار المباني الحضارية لهذه الامة , حتى صارت الفترة العثمانية – وهي أطول فتراتهم – احلك ما مر على هذه الامة من فترات الظلام , بل انهارت فيها القيم كما انهار الانسان , ولم يعد للامة من لون اقتصادي او معرفي واضح .
واذا كان بعض الترك قد احاله الإسلام والملك الى التمدن في شرق الدولة الإسلامية او ممن كان مع الجيش الديلمي , فانّ الغز والسلاجقة – وهم من استحوذ على بلاد الإسلام لاحقاً – قد مردوا وعاثوا بالذي انهك كل ممالك الإسلام شبه المستقلة , ولعلّ أولها واهمها شرقاً مملكة الغوريين .
فقد كان الغز السلاجقة احياء بادية اجلاهم ملك تركستان – وهو من الترك أيضا – نحو خراسان وكرمان وعموم غرب ايران , فعاث كل منهم فيما سار اليه من البلاد , حتى استعان بهم ال سبكتكين من موالي العباسيين في جيوشهم – كما استعان بهم من قبل سلفهم السامانيون – لكنهم ابوا الا العبث في كل بلد نزلوه , فاوقع بهم السلطان واجلاهم , فلحقوا بمن سبقهم الى نواحي العراق بع ان نهبوا الري وأذربيجان , حتى وصلوا الموصل وديار بكر فنهبوهما وعاثوا فيهما .
وبعد ان عاث طغرلبك واخوه في المدن الإسلامية الامنة عمد الخليفة – كحال بني العباس دائماً – الى تكرمتهم دون القضاء على شرهم , فطمعوا بالملك وتوافقوا عليه . ورغم هذا الوعد والاكرام من الخليفة حين دخل جيشهم بقيادة طغرلبك الى نيسابور كانوا ينالون من الناس بالنهب والزنا والقتل , الامر الذي كان تأنف فعله جيوش الممالك الإسلامية السابقة . وقد انتقض الغز على شرق الدولة وانهكوها حتى ثار امرائها وأهلها عليهم , لكنّ الامر بسببهم آل الى ضعف الحاميات الإسلامية هناك امام المغول لاحقا .
ورغم ان الاتراك كانوا يلعبون على وتر الصراعات المستمرة بين امراء الممالك المختلفة الا انهم لم يتركوا فرصة للغدر بحلفائهم مطلقاً الا وركبوها , ولم يتمكنوا من خزائن خليفة او سلطان الا ونهبوها , وكانوا اول من قتل الخلفاء , وأول من اسمل عيونهم , وأول من خلعهم , وأول من فرض المظاهر المذهبية على المخالف , وأول من اظهر الخلاف الطائفي في مواسم الحج , والسبب الرئيس في تقاتل اهل بغداد طائفيا .
ورغم ان الخلفاء العباسيين كان حالهم مع الاتراك السلاجقة كما قال الشاعر ( خليفة في قفص بين وصيف وبغا .. يقول ما قالا له كما تقول الببغا ) , الا انّ الخلفاء العباسيين ذاتهم اضطروا الى اللجوء الى خصمهم الأكثر نبلاً وشرفاً من الشيعة العرب , فلجأ احدهم الى دولة الحمدانيين شمالاً , فيما فرّ الخليفة القادر الى ملك البطيحة في ذي قار , هرباً من الاستخفاف والنزق التركي .ولما بلغ الحال بالاتراك ان يختطفوا الخليفة الطائع من بغداد الى واسط ثارت ممالك الشيعة شمالاً وجنوباً وشرقاً من عرب وديلم حتى اخرجوا الاتراك عن بغداد وارجعوا الخليفة الى ولايته .
لقد انهك الغز والسلاجقة ممالك الثغور الإسلامية , كالغورية شرقاً والحمدانية شمالاً , ثم اسقطت سياستهم البدوية الخلافتين العباسية والفاطمية , بالغدر والارجاف وانهاك الاقتصاد واستباحة خزائن الدولة .
واذا كان السلاجقة أسوأ ما مر على الامة الإسلامية من جموع بشرية بدوية , تسببت بانهيارها حضارياً , فانّ الاتراك العثمانيين كانوا وجهاً آخراً من وجوه الدولة السلجوقية , ظهر بظهور المغول , مستغلين انهيار الدولة الإسلامية في إقامة ملكهم غرباً , الملك الذي لم تكن له صلة حضارية واقعية بالإسلام . واذا كان الواقع التركي المعاصر يعكس هذا التاريخ المنافق والطائفي المزري , فالواقع المجاور للاكراد يحكي تاريخاً سالفاً مشابهاً , اذ انقسم الكرد في الماضي الى حلفين , احدهما الى جانب العرب , مثله الاكراد الحسنويون والشاذنجانية والجاوانية , الذين حاربوا الغز وانتصروا عليهم عدة مرات الى جانب العرب , فيما مثل الجانب الاخر ذوو المصالح النفعية الذين تحالفوا مع السلاجقة ضد قومهم من اجل الملك .
ان الاطماع التركية في المنطقة عموماً والعراق خاصة تفتح الباب لتساؤلات كبرى حول حقيقة عائدية الأرض التركية ذاتها , وحول القيمة الحضارية الفعلية للوجود التركي في المنطقة , ومقدار ما تسبب بها اتراك الاناضول من اوجاع والام لجيرانهم من أصحاب الأرض الأصليين من العرب والارمن والكرد .
كما ان القراءة التاريخية تكشف عن المستوى والمقدار الهائل للخسارة التي نتجت عن الوجود التركي في المنطقة , وعن عمق الازمات الطائفية الناشئة عن تدخلاتهم في كل قرن وزمان .
ولعلّ التحالف الأخطر في تاريخ المسلمين هو ذاته القائم قديماً وحديثاً بين الاتراك والاعراب , اذ كلاهما يعتمد المال والرجال كقيمة وجودية , ولا يستطيع الولوج الى عالم اللغة المتحضرة فعليا .
كما اننا نتسائل عن حقيقة التدخل التركي السلجوقي او العثماني في شمال العراق , وعن واقعية حديث الإعلاميين الاتراك عن العلاقات التركية السومرية , هل يصل الافتراء والصلف الى هذا المستوى .
اما من حيث الإضافة الحضارية للمجتمع المسلم فاننا لا نعلم ان السلاجقة او العثمانيين قد انتجوا شيئاً معرفياً معتداً به يمكننا اضافته للتاريخ العلمي الإسلامي , بل انهم كانوا السبب المباشر في اغلاق أبواب هذا التاريخ .
ان المعادلة الأهم التي انجزها الاتراك السلاجقة والغز تمثلت في عكس التيار الفكري لجمهور الامة الإسلامية من ولاية اهل بيت النبي عليهم السلام الى ولاية السلطان الجائر , لا بالفكر كما انتشرت عقيدة اهل البيت , بل بالسيف والخديعة والجور . وهذا ما اراه يتمم اليوم .