لا تزال الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأمريكية متصاعدةً، وتعم مظاهرات عدة مدن أمريكية، وقد أشعل مقطع الفيديو الذي يصور الواقعة موجات غضب عارم في المدينة، سرعان ما انتقلت إلى أماكن أخرى، تحول بعضها إلى أعمال شغب وسرقات ونهب، وعلى إثر ذلك قامت حوالي 40 مدينة بفرض حظر للتجوال، كما أمر الرئيس ترمب بنشر 5 آلاف عنصر من الحرس الوطني، بسبب عدم تمكن أجهزة الشرطة من ضبط أعمال الشغب التي تخللت الاحتجاجات([1]) لكن لن يؤدي ذلك إلى ضبط غضب الشارع خصوصًا وأن سياسات البيت الأبيض التي يقرها ترمب لا تزال مثيرة للجدل، وتثير التساؤل حول وجود إرادة لدى الرئيس الأمريكي لاستثمار هذه الاحتجاجات للاستفادة منها في السباق الانتخابي القادم، وبناء على ذلك اتخذت الاحتجاجات العارمة بعدًا آخر غير المطالبة بمكافحة العنصرية وهو رغبة كل من الديمقراطيين والجمهوريين في بناء قاعدة شعبية يمكن التعويل عليها في سباق الرئاسة المقبل، لذلك لا يمكن التنبؤ بفرضية انتهاء الحراك خصوصًا في ظل عودة الحديث عن حوادث عنصرية أخرى سبقت حادثة جورج فلويد. وفتحت الحديث أيضًا عن أزمات يعانيها الداخل الأمريكي وأهمها تداعيات جائحة كوفيد 19([2]).
وبحسب مراقبين، فإن أسباب المظاهرات ترجع إلى تغاضي الرئيس ترمب بشكل متكرر عن مجموعات الكراهية ودعمهم خلال فترة رئاسته، ما أدى إلى إحباط شريحة واسعة من الأمريكيين من الأساليب المثيرة للانقسام السياسي المدفوعة من قبل إدارة ترامب وليست بسبب مقتل فلويد على يد ضابط شرطة أبيض فقط. وهو ما وضع حرية المواطن ومكافحة العنصرية المكفولة بالدستور الأمريكي على المحك في عهد الرئيس([3]).
خلفيات الحدث
كانت الحادثة بمثابة فتيل أشعل أزمة عميقة، حيث جاء في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من أكبر أزمة اقتصادية تتعرض لها منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب كوفيد 19 الذي دفع 40 مليون أميركي للانضمام إلى طوابير العاطلين خلال الشهرين الأخيرين. واستدعى انتشار الفيروس بنسب مرتفعة في صفوف الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية ذكريات أليمة، ترتبط بكونها في مقدمة ضحايا الكوارث التي تحل بالولايات المتحدة. كما سلطت أزمة كورونا الضوء على واقع الظروف المعيشية والصحية للأميركيين من أصول أفريقية، وعلى سبيل المثال، وصلت نسبة المصابين بكوفيد 19 في ولاية مينيسوتا -حيث قتل جورج فلويد- إلى 20%، في الوقت الذي لا تتخطى فيه نسبة السود هناك حاجز 7% فقط من إجمالي السكان. وأدت تبعات الجائحة إلى انعدام الثقة في السلطات المحلية والاتحادية مع فشلهما في إدارة الأزمة وارتفاع الإصابات بين السود([4]).
كما ضاعفت طريقة الرئيس دونالد ترامب وسياساته في التعامل مع الأزمة من حدة رد فعل السود وغيرهم من الغاضبين، حيث هدد المحتجين وطالب حكام الولايات من الديمقراطيين بأن يكونوا أقوياء في مواجهة الفوضويين، ودعاهم إلى الاستعانة بقوات الحرس الوطني في ولاياتهم. ولم يقم ترامب حتى الآن بإظهار صفات القيادة الضرورية في هذه اللحظة الاستثنائية من التاريخ الأميركي، كما لم يوجه خطابًا موحدًا تصالحيًا إلى الأمة الأميركية([5])، وبدل ذلك لجأ إلى التغريد عبر توتير والدخول في مماحكات مع موقع التواصل المصغر توتير ومحاولة فرض قيود على منصات التواصل الاجتماعي. بدلًا من محاولة تلبية مطالب المحتجين والتي منها تدريب رجال الشرطة على ضرورة احترام حقوق السود وبقية الأقليات، وهذا الطلب ليس بجديد، لكن لم يستثمر فيه بجدية من قبل، وكذلك مطلب إصلاح إجراءات العدالة الجنائية، فتم تسجيل حالات يتم فيها تغليظ العقوبة إذا كان مخالفًا للقانون([6]). وعليه لا يبدو أنه من الممكن تحقيق العدالة والتقليل من العنصرية إلا بتحقيق المساواة، بين السود والبيض الأميركيين، وهذا الأمر ليس مرهونًا فقط بنصوص القانون والدستور الأمريكي إنما في توجهات وسياسات القيادة الأمريكية سواء الحالية أو القادمة. خصوصًا وأن قضية فلويد تحولت إلى رأي عام داخل البلاد وخارجها، حيث خرجت احتجاجات في دول عدة منها كندا تطالب بمكافحة العنصرية وتطبيق العدالة الاجتماعية([7]).
خريطة توضح توزع الاحتجاجات في المدن الأمريكية
الاستثمار السياسي للاحتجاجات
بدا واضحًا في خضم الاحتجاجات توجه القادة السياسيين من الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري إلى اتخاذ مواقف إزاء موجة الاضطراب، حيث قام المرشح الرئاسي عن الحزب جو بايدن والرئيس السابق باراك أوباما باتخاذ موقف داعم للمظاهرات وعبر عن إدانته لأعمال العنف في الاحتجاجات التي تشهدها بلاده، مؤكدًا في الوقت نفسه على الحق في الاحتجاج. وقال “الاحتجاج على هذه الوحشية حق وضرورة. إنه رد فعل أمريكي خالص”([8]). كما شن في وقت آخر هجومًا على دونالد ترامب، معبرًا عن أمله بأن يكون الأخير قد فتح الإنجيل وتعلم منه محبة الآخرين، وذلك بعد أن رفع ترامب الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين أمام كنيسة سان جورج بعد تعرضها للحرق([9]).
كما قدم زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشاك شومر، مشروع قرار يدين أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتفريق المتظاهرين في ساحة لافاييت بواشنطن. ويدعو مشروع القرار الكونغرس “لإدانة رئيس الولايات المتحدة لأمره الشرطة الفدرالية باستخدام الغاز والرصاص المطاطي ضد الأمريكيين الذين احتجوا بشكل سلمي في ساحة لافاييت بواشنطن متهمًا ترامب بانتهاك الحقوق الدستورية للمحتجين السلميين”([10]).
في حين يحاول ترمب مؤخرًا اتباع أسلوب دبلوماسي في إبداء مواقفه من المظاهرات، إذ أكد عدم عزمه إرسال عناصر من الجيش ونشرهم في المدن، كما أكد على أن الاقتصاد الأميركي يتحسن رغم الظروف الحالية([11]). وقام بجولة أيضًا بالقرب من المحتجين المحاصرين للبيت الأبيض في خطوة أظهرت استعداده لسماع ورؤية المظاهرات عن قرب، فيما اعتبرها مراقبون آخرون أنها جاءت ضمن سياق تحدي المحتجين المحاصرين للبيت الأبيض، خصوصًا بعد أن تم نقله إلى مخبأ سري لحمايته([12]).
من جهة أخرى تشير أحدث استطلاعات الرأي حول السباق الانتخابي، إلى تقدم بايدن، حيث بلغت نسبة المؤيدين له حوالي 53% فيما بلغت نسبة مناصري ترمب 43% فقط، بيد أن الاستطلاعات تزامنت مع تغييرات داخلية متسارعة في البلاد في ظل عدم احتواء فيروس كورونا ومستقبل الاقتصاد الصعب مع إعادة تحريك عجلته تدريجيا بالإضافة إلى العنف الذي يجتاح كبريات المدن، ما يقلل من دقة هذه النتائج ويترك الباب مفتوحًا أمام منافسة سياسية أكبر بين الحزبين. كما أن قضية تسهيل عملية التصويت عبر البريد التي تثير جدلًا إلى الآن قد تفرض واقعًا انتخابيًا جديدًا، وقد عارضها ترمب لأنها ستؤدي برأيه إلى تزوير كما يزعم، فيما أيد 87% من الديمقراطيين و67% تحركات لولايات في هذا الإطار. لكن أعرب 61%من الجمهوريين عن رفضهم لتلك التحركات([13]).
مصير الاحتجاجات وتداعياتها
يبدو أن موجة الغضب والاحتجاج ستزداد تصعيدًا مع الوقت ولن يحسم المحتجون مواقفهم حتى موعد الانتخابات الأمريكية خصوصًا وأن سياسيين بدأوا بتبني مطالب المتظاهرين، وهو ما يجعل السباق على الفوز بكرسي رئاسة البيض الأبيض أشد، لأن شريحة واسعة من المواطنين الأمريكيين لن يتساهلوا في تحقيق مطالبهم من قبل المتسابقين على منصب الرئاسة وخصوصًا دونالد ترمب وجو بايدن. لكن ليس من المتوقع أن يتم ضبط عمليات الفوضى والنهب والسرقة التي تقوم بها مجموعات غير منظمة، ومنظمة أيضًا منها جماعة أنتيفا -منظمة يسارية مناهضة للأفكار الرأسمالية والنيوليبرالية، وتتبنى القيم الشيوعية الاشتراكية-([14]) التي يتهمها البعض بالتطرف وإحداث الفوضى ومنهم الرئيس ترمب الساعي لاعتبارها كمنظمة إرهابية([15])، عدا أيضًا عن وجود جهات منظمة أخرى قد تجد فرصة للاستفادة من الحالة الراهنة كمافيات تجارة المخدرات والأنشطة غير القانونية، لكن يبقى ضبط مسار الاحتجاجات ضمن الإطار السلمي التحدي الأبرز أمام السلطات الأمريكية وإلا ستنجر البلاد نحو فوضى من نوع آخر قد تهدد بتقسيم أمريكا([16]).
([1]) “نيران أمريكا تزداد اشتعالًا والقادم يبدو أعظم”. مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 4-6-2020. https://bit.ly/3gTWQdW
([2]) “تقرير إضاءات مفصل عن آخر تطور الاحتجاجات في أمريكا لهذا اليوم, بالفيديو..,”. إضاءات، 30-5-2020. https://bit.ly/3dz6hx5
([3]) “تقرير إخبارى: الولايات الأمريكية تتصدى للاحتجاجات المطالبة بإنهاء عنف الشرطة على خلفية وفاة جورج فلويد”. Arabic People Cn، 1-6-2020. https://bit.ly/3dwDqK5
([4]) “ماذا يريد المحتجون في أميركا؟”. الجزيرة نت، 1-6-2020. https://bit.ly/2AB2r8b
“أميركا.. ترامب يستبعد الاستعانة بالجيش وماتيس يتهمه بالسعي لتقسيم البلاد وأوباما: الاحتجاجات لا تكفي”. الجزيرة نت، 4-6-2020. https://bit.ly/36YUk1n
([5]) “قضية فلويد.. نيويورك تايمز تفكك ما جرى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة”. الجزيرة نت، 2-6-2020. https://bit.ly/2MuLdfu
([6]) انظر المرجع السابق
“ترامب يواجه احتجاجات غير مسبوقة بنشر آلاف الجنود في أمريكا”. هسبرس، 2-6-2020. https://bit.ly/36Y167w
([7]) “فلويد جديد”.. المظاهرات ضد العنصرية تمتد إلى كندا”. سكاي نيوز عربية، 31-5-2020. https://bit.ly/3eTmSw5
“مظاهرات في لندن وبرلين احتجاجا على مقتل الأمريكي جورج فلويد”. DW، 31-5-2020. https://bit.ly/3ePDk0h
([8]) “قضية جورج فلويد: المرشح الديمقراطي للانتخابات الأمريكية جو بايدن يدين العنف ويؤكد على حق الاحتجاج”. فرانس 24، 31-5-2020. https://bit.ly/2Ua830a
([9]) “بعد رفع ترامب للإنجيل.. بايدن: أتمنى أن يكون قد فتحه مرة وتعلم منه شيئا”. سي إن إن، 2-6-2020. https://cnn.it/3cuIu0c
“أوباما يكتب: كيف نصنع من هذه اللحظة نقطة تحول للتغيير الحقيقي؟”. الجزيرة نت، 1-6-2020. https://bit.ly/30dp0e5
([10]) “زعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ يقدم مشروع قرار يدين خطوات ترامب”. روسيا اليوم، 2-6-2020. https://bit.ly/307wcs7
([11]) “ترمب: لن نحتاج للجيش لوقف العنف.. واقتصادنا يتحسن”. العربية نت، 4-6-2020. https://bit.ly/3cw67p7
([12]) “ترامب: نزلت إلى الملجأ في البيت الأبيض في جولة “تفقدية””. يورونيوز، 3-6-2020. https://bit.ly/2XtEpoG
([13]) “جو بايدن يتقدم على ترامب فى استطلاعات الرأى قبل 5 أشهر من انتخابات أمريكا”. اليوم السابع، 1-6-2020. https://bit.ly/3gVadu6
“هل تُسقط المظاهرات الأمريكية ترامب عن عرش البيت الأبيض؟”. بي بي سي، 3-6-2020. https://bbc.in/305lgei
([14]) “يتهمها بالوقوف وراء الاحتجاجات.. ما حركة أنتيفا التي يريد ترامب وصمها بالإرهاب؟”. الجزيرة نت، 1-6-2020. https://bit.ly/2zR5Y2n
([15]) “وفاة جورج فلويد: ترامب يعتزم تصنيف حركة أنتيفا منظمة “إرهابية””. بي بي سي، 31-5-2020. https://bbc.in/2UbLx7b
([16]) “الولايات المتحدة: وزير الدفاع السابق جيم ماتيس يتهم ترامب بالسعي “لتقسيم” البلاد ويدافع عن “حق” المتظاهرين في المساواة”. فرانس24، https://bit.ly/3cxP99Z
رابط المصدر: