حسن فحص
لم يتردد المرشد الأعلى للنظام الإيراني بوصف البرلمان الجديد بأنه من الأفضل والأكثر ثورية منذ انتصار الثورة حتى الآن، وتقع على عاتقه مسؤوليات كبيرة في إعادة الاعتبار للأفكار والسلوكيات الثورية في العمل البرلماني والحكومي، وأن يعود إلى ممارسة دوره الفاعل في عملية المراقبة على أعمال السلطة التنفيذية. مستطرداً للحديث عن ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات التي يفرضها الأعداء على إيران والثورة والنظام.
وعلى الرغم من أهمية الخطاب التوجيهي للنواب الجدد، ورسم معالم المرحلة المقبلة من عمل البرلمان، فقد ترك المرشد الباب مفتوحاً أمام البرلمان الذي يسيطر عليه التيار المحافظ للسياسات التي بدأها النواب في التعامل مع السلطة التنفيذية وحتى مع رئيس الجمهورية حسن روحاني، التي تأخذ شكل المحاسبة التي تقع في إطار صلاحيات النواب والبرلمان. ممتدحاً الجهود التي يبذلونها في هذا الإطار، بما في ذلك ضمناً ما تعرّض له وزير الخارجية محمد جواد ظريف قبل أيام من استجواب وصل إلى أكثر من توجيه الإهانات والاتهامات بالخيانة له نتيجة تمسّكه بمسار التفاوض مع العواصم الغربية والحفاظ على الاتفاق النووي الذي لم يجلب لإيران سوى المصائب والكوارث نتيجة العقوبات الاقتصادية وعدم التزام هذه الدول التعهدات التي قدمتها في الاتفاق.
كان الهجوم على ظريف يدخل في إطار السياسة التي وضعها التيار المحافظ من أجل استعادة السيطرة على السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية إلى جانب السلطتين التشريعية والقضائية لاستكمال عقد الهيمنة على ثلاثية القرار في هرمية مؤسسات الدولة وسلطاتها، وذلك من أجل استبعاد أي خطر قد يأتي من أي جهة قد تشكل خطراً كامناً ومنافساً في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لذلك لم تجدِ كل محاولات ظريف الدفاع عن إدارته السياسية وحتى عن حيثيته الشخصية عندما لجأ إلى استخدام الأوصاف التي أسبغها عليه المرشد الأعلى خلال مفاوضات الاتفاق النووي وبعده في إدارة مرحلة ما بعد الاتفاق، وذهبت كل هذه الجهود هباء أمام إصرار النواب على الذهاب إلى الحد الأقصى في تهشيم صورته وأي إنجاز له من دون الأخذ في الاعتبار الآثار السلبية التي قد تلحق بالموقف الإيراني مع المجتمع الدولي عندما يتعاملون من شخصية لا تتمتع بدعم برلماني، مدفوعين فقط بالبعد الداخلي ومساعي إخراج ظريف من دائرة المنافسة المحتملة على الرئاسة في مواجهة المرشح الذي قد يدفعون به لهذا السباق، خصوصاً أن ظريف سيشكّل لهم تحدياً حقيقياً في استقطاب الشارع وإقناعه بالمشاركة في الاقتراع وإمكانية أن يسحب البساط من تحت قدميّ التيار المحافظ الذي استطاع السيطرة على البرلمان في انتخابات شكّلت إحراجاً للنظام، لأنها كانت الأولى التي تجري بهذا الحد المتدني من المشاركة وبأقل نسبة شعبية منذ عام 1979.
في مقابل ذلك، فإن خامنئي أمسك العصا من النصف عندما أكد ضرورة أن يمارس البرلمان دوره في مراقبة عمل السلطة التنفيذية والتدخّل في استجواب الوزراء عند الحاجة، ولم يمنح الرئيس حصانة “ولائية” حتى بشكل غير مباشر تقطع الطريق على المسار الذي بدأه نحو 200 نائب بتقديم طلب استجواب الرئيس أمام البرلمان ومساءلته حول سياساته الاقتصادية والنووية وجدوى التمسك بالاتفاق النووي، إلا أنه ومن خلال التأكيد على ضرورة أن تكمل الحكومة والرئاسة دورهما القانوني والدستوري المتبقي والتي لا تتجاوز الأشهر السبعة، فإنه قطع الطريق على ما يدور خلف الكواليس من إمكانية تحويل الاستجواب إلى طرح الثقة بالرئيس وإعلان عدم كفاءته للاستمرار في هذا المنصب.
ولعل الدافع وراء استبعاد إمكانية الذهاب إلى خيار طرح الثقة يعود إلى عدم رغبة المرشد في الوصول إلى نقطة اللاعودة باعتماد المسار الذي سبق أن اعتمده النظام مع أول رئيس للجمهورية في الثورة أبو الحسن بني صدر في 27 مايو (أيار) 1981 الذي أدى إلى عزله بعد سحب الثقة منه، خصوصاً أن روحاني مازال يعتبر واحداً من أعمدة النظام وشغل مناصب حساسة على مدى العقود الأربعة الماضية، فضلاً عن أنه يأتي من المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها المرشد ويتزعمها على العكس من بني صدر الذي دخل في صراع مبكر مع هذه المؤسسة ما ساهم في تكتلها ضده وتحشيد جهودها من أجل التخلص منه والقضاء على ما شكّل إمكانية بناء تجربة مدنية توافقية بين كل المكونات التي شاركت في الثورة وإنجاحها، وسمحت للمؤسسة الدينية في إحكام قبضتها على مفاصل السلطة والنظام والدولة ومؤسساتها.
يضاف الى هذه الأسباب، سبب آخر على قدر من الأهمية، وهو عدم رغبة النظام في الذهاب الى انتخابات مبكرة لرئاسة الجمهورية في ظل الأوضاع غير المستقرة التي يمر بها النظام، إن لجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتضافر مع العقوبات الأميركية لتزيد المشهد تعقيداً وتُفشل كل محاولات العلاج، أو لجهة تداعيات أزمة كورونا والاحتقان الشعبي من الأداء الصحي للنظام والحكومة على حد سواء، وحتى لجهة الأوضاع الأمنية والعسكرية غير المستقرة التي فرضتها التحديات الإقليمية وما يشهده الداخل من اختراقات طالت أهم مواقع حيوية في البرنامجين النووي والصاروخي في نطنز وبارتشين. فضلاً عن أن الانتخابات المبكرة قد تعيد خلط الأوراق في الصراع بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، وقد تجعل التيار الإصلاحي يبتعد عن موقفه المتخلي عن روحاني وفريقه، ويعيد حساباته ويستجمع قواه ويوحد صفوفه لخوض معركة الانتخابات، مستفيداً من عدم استكمال التيار المحافظ أدواته وتسويق مرشحه الرئاسي – الذي لم يكشف عنه حتى الآن- من خلال استنهاض الشارع الشعبي العازف عن التيارين بما يشبه المقاطعة غير المعلنة.
من هنا، فإن ما يفهم من كلام المرشد الإيراني حول ضرورة أن تستمر الحكومة في أداء عملها، وأن عليها تقديم جردة حساب عند تسليم السلطة إلى الرئاسة الجديدة بعد الانتخابات المقبلة، ما يفهم بأن حالة التجاذب والصراع ستبقى قائمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الأشهر المتبقية على الانتخابات، وأن الحصار سيزداد على الرئيس روحاني وحكومته، وسيبقى سيف البرلمان مصلتاً على أدائها بما يسمح للنواب “المحافظين” بإظهار جدارتهم في الدفاع عن مصالح الشعب والنظام بمواجهة حكومة ورئيس عاجزين عن الإيفاء بوعودهما على الرغم من الأصوات الكبيرة التي حصلا عليها في مواجهة مرشح النظام عام 2017، مستفيدين من انكشاف الحكومة ورئيسها بعدما سحب المرشد عنهما الغطاء، لكنه وضع سقفاً لدور البرلمان في ممارسة رقابته ومحاسبته بحيث لا يؤدي ذلك الى إسقاط الحكومة من خلال استجواب الوزراء وسحب الثقة عنهم أو من خلال طرح الثقة بالرئيس، بانتظار ما ستحمله المرحلة المقبلة من تطورات.
رابط المصدر: