محمد عبد الجبار الشبوط
تحتاج الدعوات الاصلاحية التي تطلق حاليا في العراق الى رؤية علمية دقيقة لتقييمها. ولغرض تقييمها نحتاج الى الاستفادة من دروسها. منذ سقوط بغداد على يد البدو المغول عام ١٢٥٨ والى الان، شهد العراق العديد من المحاولات الاصلاحية، اولها على يد حاكم العراق الاول بعد سقوط بغداد علاء الدين عطاء الله بن بهاء الدين الجويني، الذي قام بالعديد من الاصلاحات منها انه فتح قناة نهرية اجرت الماء من الفرات الى جنوب النجف، وتوفي سنة الى ٦٨٣ هجرية، واخرها على يد حاكم العراق الحالي مصطفى الكاظمي الذي اوقف رواتب محتجزي رفحا، مرورا بالتظاهرات الاحتجاجية التي رفعت شعارات اصلاحية وقبلت بغيرها.
حين اطلق رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي حزمه الاصلاحية رحبت بها، واطلقت عبارة “اصلاحات العبادي” عليها املا في ان تحقق ما كنت ادعو اليه منذ تشكيل مجلس الحكم لان الانحراف عن بناء الدولة الحضارية الحديثة بدأ منذ ذلك الحين. لكن اتضح ان الدعوات الاصلاحية التي اطلقت منذ ذلك الحين الى الان، بما في ذلك دعوات التظاهرات الاحتجاجية، تعاني كلها من قصور كبير هو نفس القصور الذي عانت منه الاحزاب الكبرى التي تشكلت في العراق في الفترة الماضية، واعني الحزب الشيوعي وحزب الدعوة الاسلامية، وهذا القصور تمثل في تشخيص العلة الاساسية للمرض الذي يشكو منه العراق. الحزب الشيوعي طبق المقولات الماركسية بشكل آلي على المجتمع العراقي، وحزب الدعوة دعا الى تطبيق احكام الاسلام، والسيد مقتدى الصدر دعا الى تشكيل حكومة التكنوقراط المستقل، وحيدر العبادي دعا الى تشكيل الحكومة المنسجمة، والمتظاهرون رفعوا شعار “المجرّب لا يجرّب”، ومصطفى الكاظمي دعا الى قطع رواتب رفحا.
قد تكون كل واحدة من هذه المفردات صحيحة في حد ذاتها، لكنها لا ترقى ان تكون علاجا كافيا ودواءً شافيا من المرض العضال الذي يشكو منه المجتمع العراقي. وهذا المرض الممتد في جذوره الى مرحلة سقوط بغداد الاول الى اليوم، هو “التخلف الحضاري” الذي يتنوع على شكل تخلف سياسي، وتخلف اقتصادي، وتخلف ثقافي، وتخلف اجتماعي، وتخلف تربوي الخ. والتخلف، وهذا هو اسم المرض، عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري.
والمركب الحضاري عبارة عن عناصر خمسة، وقيم سلوكية واخلاقية عليا حاكمة. واما العناصر فهي الانسان والزمن والارض والعلم والعمل. والخلل الحاد يصيب كل هذه العناصر، ولكن على رأسها الانسان نفسه، كما يصيب القيم وعلى راسها القيم الحاكمة على علاقات الانسان بأخيه الانسان، والقيم الحاكمة على علاقات الانسان بالطبيعة.
والنتيجة: تكون اعمال الانسان وافعاله وتصرفاته سيئة، واعني بالإنسان المواطن الفرد، والجماعات من البشر (كالاحزاب والمنظمات وغير ذلك)، والطبقة السياسية من البشر (بما في ذلك السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية). وفي حالتنا العراقية، فان الخلل الحاد، اي المرض الذي اطلقنا عليه اسم التخلف، اصاب كل هذه المفردات لأسباب كثيرة وتاريخية. وعليه فان علاج اية ظاهرة سلبية من ظواهر المجتمع والسياسة والاقتصاد لا يمكن ان ينجح ويؤتي اكله ما لم يتضمن علاج السبب الرئيس الكامن خلفها واسفلها وهو التخلف، اي الخلل الحاد في المركب الحضاري. كل المحاولات “الاصلاحية” التي ذكرتها، بقيت على السطح، وعالجت الظواهر السطحية، بما يشبه المسكنات، ولم تتحرك الى العمق، ولم تجرِ العمليات الجراحية الكبرى التي تتطلبها الحالة في العراق.
وان كان سبب هذا القصور في الفهم، فان هذا القصور انتج تقصيرا في المعالجة، الامر الذي جعل العراقيين، حكاما ومحكومين، يدورون في حلقة مفرغة، يبعدهم الدوران فيها كل يوم عن الخلاص مما هم فيه من المعاناة. سيقول بعض القراء شبعنا من التنظير، وسأقول لهم ان غياب التنظير الصحيح هو الذي ابعد العراق عن الحلول الصحيحة.
رابط المصدر: