حسن فحص
الموقف التصعيدي الذي سمعه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في شأن الوجود الأميركي في العراق، وأن إيران لن تتردد في استهداف هذه القوات انتقاماً لمقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، من المرشد الأعلى للنظام الإيراني آية الله علي خامنئي، خلال اللقاء الذي جمعهما في طهران، لم يمنع الكاظمي من أن يكون أكثر إصراراً ووضوحاً في تأكيد الثوابت العراقية في العلاقة التي تتطلع إليها حكومته مع الجانب الإيراني في المرحلة المقبلة. ويسعى الكاظمي لعلاقة سليمة تُبعد بلاده عن الاستقطاب بين محوري الصراع الأميركي والإيراني على أرضه وعلى حساب استقرار العراق وجهوده للخروج من الأزمات المتراكمة على مختلف الصعد الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وعلى الرغم من تشابه النقاط والعناوين التي حملها الكاظمي إلى طهران ولقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين مع تلك التي سبق أن حملها أسلافه في رئاسة الوزراء العراقية من عادل عبد المهدي وحيدر العبادي، إلا أن ما حظيت به هذه الزيارة من اهتمام في البلدين وإقليمياً ودولياً، يجعل منها زيارة تأسيسية في مرحلة مفصلية في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين وصولاً إلى الآثار التي من المتوقع أن تشمل المنطقة ودول الجوار.
وإذ سبقت زيارة الكاظمي إلى طهران سلسلة مواقف وضع بعضها قيد التنفيذ، من المفترض أن تسهم هذه الزيارة في التأسيس لمرحلة جديدة من التعاطي والتعامل الإيراني مع العراق تختلف عن المرحلة السابقة في المضمون والجوهر، وأن تخرج عن الشكليات والوعود غير العملية، خصوصاً في ما يتعلق بمسألتي المعابر الحدودية والميليشيات المتفلتة التي تزعزع قبضة الدولة. إضافة إلى قضية استراتيجية تركز على “تحييد” العراق عن الصراعات الإقليمية والدولية.
يمكن القول إن الكاظمي استطاع، في موازاة الكلام التصعيدي لخامنئي، انتزاع موقف واضح وصريح ومباشر من أعلى سلطة في النظام الإيراني بدعم تطلعات الحكومة العراقية من أجل بناء دولة قوية ذات سيادة على قراراتها. وما يعنيه ذلك من حصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها العسكرية الرسمية، فضلاً عن وضع حد لما تقوم به الميليشيات المحسوبة على إيران من هيمنة على المؤسسات الاقتصادية، لا سيما المنافذ الحدودية، وتحويلها إلى مقاطعات تصادر عائدات الدولة المالية لحسابها الخاص.
ومن غير المستبعد أن تبدأ الترجمة العملية لهذه التوجهات والتفاهمات بالظهور في المرحلة المقبلة، وأن تنعكس إيجاباً على دور الحكومة في فرض سيادتها، وأن يكون المدخل لهذا التعاون مضي الكاظمي في محاصرة وتفكيك الميليشيات التي تقوم بزعزعة الأمن والاستقرار، والتي تستفيد من غطائها “الولائي” للنظام الإيراني في إرباك العملية السياسية الداخلية بهدف الإبقاء على الفوضى التي تضمن لها الحفاظ على مصالحها.
رغبة الكاظمي في تحقيق أحد أبرز بنود رؤيته للمرحلة الانتقالية التي جاء لقيادتها بعد الأزمة التي عاشها العراق في عهد سلفه عبد المهدي وحركة الاعتراض الشعبي الواسعة التي شهدتها مدن العراق، تلتقي مع رغبة لدى النظام الإيراني في الحد من التصرفات غير المنضبطة والمتفلتة التي تمارسها بعض الفصائل المسلحة أو الميليشيات التي تضيف عبئاً إلى الأعباء والأزمات التي تواجهها طهران على الساحة العراقية. وانطلاقاً من الإجراءات التي بدأها الكاظمي في الأسابيع الماضية باتجاه هيئة الحشد الشعبي والكلام المباشر الذي أكده في طهران بالتمسك بمؤسسة الحشد كجهاز رسمي وكأحد صنوف القوات المسلحة العراقية، فإن طهران تبدو على استعداد لمنح الكاظمي الضوء الأخضر والغطاء المطلوب لاستكمال عملية تفكيك الميليشيات التي تقع خارج مؤسسة الحشد، ووضع هذه الفصائل والميليشيات أحد خيارين، إما أن تعلن انضواءها في المؤسسة الرسمية وتلتزم بتوجهات القائد العام للقوات المسلحة، أو الانتقال إلى العمل السياسي بتشكيل حزب يمثلها على غرار الفصائل الأخرى. وفي الحالين فإن عليها وضع سلاحها في أمرة الدولة أو تسليمه. والموقف الإيراني في هذا الخصوص محكوم بالرغبة بعدم الانجرار إلى تحمل مسؤولية أي عمل عسكري قد يقوم به أحد الفصائل ضد القوات الرسمية أو القوات الأميركية، علماً أن طهران تؤكد أنها لن تتراجع عن قرارها في استهداف تلك القوات وصولاً إلى خروجها. فإيران لا تريد أن يوظف هذا الموقف والقرار في إطار أجندات خاصة لهذه الفصائل والميليشيات بما لا يخدم الاستراتيجية الإيرانية. ما يعني أن سلاح هذه الفصائل بات بالنسبة إلى طهران وبغداد سلاحاً غير منضبط ومتفلت لا بد من ضبطه أو التخلص منه.
ولعل النتيجة الأهم التي أثمرت عن زيارة الكاظمي إلى طهران وسلسلة اللقاءات العلنية وغير العلنية، المدنية والأمنية والعسكرية، التي عقدها مع أعلى المسؤولين في النظام تكمن في وضع إطار تفاهم حول قضية وجود القوات الأميركية على الأراضي العراقية. إذ يبدو من الأجواء المرافقة للزيارة، وما رشح من حوار بين الكاظمي والمرشد الإيراني، عدم وجود موقف إيراني حاد من المحادثات الاستراتيجية القائمة بين بغداد وواشنطن، وأن طهران اكتفت بالتمني على الجانب العراقي التمسك بمبدأ السيادة العراقية الكاملة من خلال الحد من نفوذ هذه القوات في الشأن الداخلي العراقي. ما يعني أن القيادة الإيرانية لمحت إلى مدى تفهمها الحاجات العراقية، لكنها قد تقبل بأن تذهب مخرجات هذه المحادثات إلى تقليص وجود هذه القوات إلى الحد الأدنى الممكن من دون أن تكون ذات فعالية تسمح لها بفرض أمر واقع ميداني على الحكومة وقراراتها. وأن طهران لن تتأخر أو تتردد في تأكيد التزامها بدعم توجهات الكاظمي في تعزيز سيادة الدولة العراقية ووحدة أراضيها، بما يعنيه ذلك من التأسيس لإحداث نقلة نوعية في أسلوب التعامل بين الطرفين وتعزيز الأطر الرسمية لهذه العلاقات في إطار المؤسسات الرسمية للدولتين بما يخدم الأهداف المشتركة.
رابط المصدر: