وصال الطناني
مقدمة
العلاقات المصرية الفلسطينية لطالما ارتبط مصيرها بمصير الأخرى بشكل لا يمكن فصله عن الآخر، نظرا للبعد الجغرافي والتاريخي والديني بين البلدين؛ فجغرافياً، تربط بينهما الحدود الشرقية، إذ تبدأ من رأس طابا على خليج العقبة حتى الساحل المتوسطي لمسافة 210 كم، ومنذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945، والتي تعتبر القاهرة مقرا دائما لها وتحتل القضية الفلسطينية الأولوية على أجندة عملها؛ فقد كان لمصر الدور الأكبر في تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وتأييد القضية الفلسطينية والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وهذا ما يشهد عليه التاريخ؛ ومع توقيع مصر وإسرائيل لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية بالإضافة إلى اتفاقيات كامب ديفيد، عانت العلاقة بين البلدين من انتكاسات وانفراجات على مدار تعاقب الأزمنة والحكام المصريين، وهذا ما تشرحه وتوضحه هذه الدراسة.
أما بالنسبة لحدود مصر مع قطاع غزة فهي نقطة ساخنة بين البلدين، حيث إن مدينة رفح هي مدينة حدودية بين مصر وقطاع غزة، وكانت موحدة في عهد الدولة العثمانية حتى عام 1906م، وبعد تعرض مصر للاحتلال البريطاني الذي أرغم الدولة العثمانية على ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين، تم تقسيم رفح لمدينة فلسطينية وأخرى مصرية، يفصل بينهم شريط حدودي تم إنشاؤه وفقا لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979م، ويمتد بطول 14 كم على طول الحدود بين مصر وقطاع غزة ويسمى بمحور صلاح الدين أو طريق فيلادلفيا كما تسميه إسرائيل[1].
ويمتد الشريط الحدودي في قطاع غزة من البحر المتوسط وحتى معبر كرم أبو سالم، وهو معبر ثلاثي الاتجاهات بين مصر وإسرائيل وقطاع غزة، ويقع الشريط الحدودي في منطقة منزوعة السلاح بالكامل وفقا لما نصت عليه معاهدة السلام المصرية الفلسطينية، وكانت إسرائيل أثناء فترة تواجد مستوطناتها في قطاع غزة تضع قواتها العسكرية على الشريط الحدودي أيضا.
ولكن مع انسحاب إسرائيل كليا من غزة عام 2005 انسحبت قواتها أيضا من الشريط الحدودي من أجل منع الاحتكاك بين الفلسطينيين وقوات الجيش الإسرائيلي الذي يهدد أمن المنطقة، على الرغم من المخاوف الإسرائيلية بالتسليح المحتمل لقطاع غزة ودخول الأسلحة إليها، ونتيجة لذلك وقعت إسرائيل مع مصر ورقة الترتيبات المتفق عليها فيما يتعلق بنشر قوات من الحرس الحدودي المصري على الحدود مع مدينة رفح، أو ما يسمى” باتفاق فيلادلفيا” مع مصر، بهدف منع التهريب والتسلح والأنشطة الإجرامية الأخرى التي من الممكن حدوثها، واختلفت طبيعة العلاقات بين البلدين تبعا لاختلاف حكام مصر وتعاقبهم على مر التاريخ، واختلاف سياساتهم الداخلية والخارجية أيضا، ويعتبر قطاع غزة عاملا ومحددا رئيسيا لطبيعة العلاقات ما بين البلدين، فهو بوابة مصر الشرقية الذي يرتبط أمنها واستقرارها بأمن واستقرار قطاع غزة، وهو الذي يمنح مصر دورا إقليميا هاما في المنطقة العربية بما يعود عليها بمصالح داخلية وخارجية أيضا.
ستوضح هذه الدراسة طبيعة العلاقات بين مصر وفلسطين وقطاع غزة تعاقبا مع حكام مصر، ومتغيرات هذه العلاقة بين الماضي والحاضر، وأهمية قطاع غزة بالنسبة للجمهورية المصرية.
أولا: لمحة تاريخية
شكلت القضية الفلسطينية العامل الأكبر في تعزيز الشعور القومي العربي في الوطن العربي بشكل عام وفي مصر بشكل خاص، فأواصر العلاقة بين جمهورية مصر العربية وبين فلسطين تمتد منذ أربعينيات القرن الحالي عندما ألقى عبد الرازق السنهوري ممثل المملكة المصرية كلمته في مؤتمر فلسطين الذي عقد في لندن في نهاية عام 1946، حيث عبر عن الموقف المصري برفضه القاطع لأي شكل من أشكال تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها وأكد على حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وبعد جلاء الانتداب البريطاني من الأراضي الفلسطينية دخلت مصر الحرب.
وبعد صدور قرار التقسيم من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 وبناء على طلب الهيئة العربية أقرت الجامعة العربية إنشاء الإدارة الفلسطينية العامة في الأراضي الفلسطينية كنظام مؤقت إلى حين إعلان فلسطين دولة ديمقراطية مستقلة في 15 مايو 1948، على أن تتمتع هذه الإدارة المؤقتة بجميع السلطات التي تتمتع بها الحكومة الديمقراطية المستقلة، وأكدت الجامعة العربية على أن مهمة هذه الإدارة المؤقتة تقتصر على الشئون الإدارية المدنية العامة ولا تشمل الشئون السياسية والعسكرية، وليس لها صفة تمثيلية عن أهالي فلسطين.
وبعد إبرام “هدنة رودس” عام 1949 أصبحت مدينة غزة خاضعة لرقابة القوات المصرية، وفي عام 1954 ظهر مصطلح قطاع غزة إثر قرار صادر عن رئيس الجمهورية المصرية آنذاك اللواء محمد نجيب حيث عيّن عبد الله رفعت حاكما إداريا لقطاع غزة، ضمن حدوده الجديدة التي تبدأ منذ رفح حتى بيت حانون؛ ومنذ وصول جمال عبد الناصر الحكم في مصر عام 1956 حاول عدة محاولات مع إسرائيل لتحقيق السلام في المنطقة، وأقر عبد الناصر بأن السلام مع إسرائيل مستحيل وبأن الكيان الإسرائيلي كيان توسعي ينظر للعرب بازدراء.
وفي عهد عبد الناصر شهدت القضية الفلسطينية انتصارات متعددة، فقد أصبحت القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، ودعا عبد الناصر إلى مؤتمر القمة العربية الأول عام 1964 وكلف مجلس الملوك والرؤساء العرب احمد الشقيري بإقامة القواعد السليمة لإقامة كيان فلسطيني مستقل، من أجل تمكين الشعب الفلسطيني من تحرير وطنه.
و في يوم 28 فبراير عام 1955 هاجمت القوات الإسرائيلية قطاع غزة الذي كان خاضعا للإدارة المصرية آنذاك، بهدف القضاء على الغارات الفدائية الفلسطينية، وشعر جمال عبد الناصر بأن الجيش المصري غير قادر على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وفشل بالرد عسكريا على إسرائيل؛ وعند إندلاع العدوان الثلاثي على مصر أواخر 1956 قررت القوات المصرية سحب الجيش المصري من مدينة غزة، خاصة بعد وقوعها تحت سيطرة إسرائيل.
وفي عام 1964 تم إعلان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان لجمال عبد الناصر دور قومي كبير في إعلان تأسيسها حيث قام بإقناع أكثر من دولة عربية بالاعتراف بالكيان الفلسطيني الجديد ألا وهو منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثل وحيد عن الشعب الفلسطيني.
وفي عام 1967 احتل الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية التي كانت تحت الإدارة الأردنية، وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان وعرفت هذه الحرب “بحرب الأيام الستة”، أو “النكسة”، واحتلت إسرائيل سيناء على إثرها، وقد عمل جمال عبد الناصر على استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل وقبل بقرار مجلس الأمن “رقم 242” الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المكتسبة بالحرب.
وفي عام 1968 أمر جمال عبد الناصر بشن هجمات ضد مواقع إسرائيلية شرق قناة السويس ومن ثم حاصر القناة، وقد ساعد جمال عبد الناصر حركة فتح ومدها بالأموال والأسلحة، وفي عام 1969 [2] وبواسطة جمال عبد الناصر تم عقد “اتفاق القاهرة” بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش اللبناني الذي سمح للمقاتلين الفلسطينيين باستخدام الأراضي اللبنانية لمهاجمة إسرائيل.
ثانيا: تطورات العلاقات المصرية الفلسطينية
يمكن في هذا السياق التمييز بين عدة مراحل أساسية:
الأولى: فترة السادات 1970 ـ 1981:
في أكتوبر عام 1970 تولى أنور السادات الحكم في مصر، وفي سياسته الخارجية غلب طابع السرية والفردية في حكمه، وتوسع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط مما أدى إلى تسهيل مؤامرات لتصفية القضية الفلسطينية، على الرغم من أن أنور السادات كان يردد دوما بأن هدف إسرائيل هو تمزيق الوحدة العربية وحصار مصر والقضاء على القومية العربية.
وقد اجتمع السادات مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في برج العرب في القاهرة عام 1973 وأكد على رغبته بمحاربة إسرائيل بالاشتراك مع سوريا، والغريب في الأمر أنه وفي نفس العام وافق الرئيس أنور السادات على طلب كيسنجر بدعوة الفلسطينيين إلى مؤتمر للسلام، على الرغم من إعلانه التزام مصر بتحرير فلسطين وحماية حقوق الشعب الفلسطيني.
وقام بزيارة القدس عام 1977 على الرغم من إعلان إسرائيل رفضها الانسحاب إلى حدود 1967 ورفض إقامة دولة فلسطينية[3]، حيث تُعتبر زيارة السادات في ذاك الوقت بمثابة موافقة ضمنية منه واعترافا مصيريا بالوجود الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وتعتبر أول شكل من أشكال التطبيع بين مصر وإسرائيل.
وفي عام 1979، عُقد اجتماع ثلاثي بين مصر بزعامة السادات وبين الولايات المتحدة وإسرائيل وتم بمقتضاه التوقيع على “اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية”، وتعتبر هذه الاتفاقية هي المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية وتم تطبيق بنودها بعد عام من التوقيع عليها أي في 1980، وأقرت هذه الاتفاقية طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدين ونصت على التبادل الدبلوماسي بين البلدين وافتتاح كل منهما سفارة لدى الأخرى، كما نصت على إقامة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحدث الرئيس أنور السادات في “كامب ديفيد” باسم الشعب الفلسطيني وطالب بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل اعتراف مصر بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها.
حاول السادات المحافظة على صورة مصر مدعيا بأهمية القضية الفلسطينية وسعيه للوقوف لنصرتها ولكن كامب ديفيد أدى إلى إضعاف القضية الفلسطينية فالعلاقات المصرية الإسرائيلية الجديدة أدت إلى قلب موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل، حيث فقدت مصر دورها المركزي في العالم العربي على الصعيدين العسكري والسياسي، وبالتالي فقدت القضية الفلسطينية حليفا قويا له عمق استراتيجي داعم لمنظمة التحرير الفلسطينية طوال عقود سابقة على اتفاقية كامب ديفيد، خاصة بعد تعهد السادات بوقف الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية وتحجيم دورها في مستقبل القضية[4].
وبالطبع أثارت الاتفاقية ردود فعل معارضة في مصر وفي الدول العربية حيث استقال وزير الخارجية “محمد إبراهيم كامل” ووصف اتفاقية كامب ديفيد بمذبحة التنازلات وأشار بمقال كتبه بأن الاتفاقية لم تُشر إلى انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة ولم تقرر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وهكذا اتسم عهد السادات بعهد التنازلات مما أدى إضعاف وتصفية القضية الفلسطينية وتفوق الجانب الإسرائيلي بدعم الرئيس المصري آنذاك.
الثانية: فترة مبارك 1981 ـ 2011:
في 14 أكتوبر عام 1981 تولى حسني مبارك رئاسة جمهورية مصر العربية، خلفا للرئيس محمد أنور السادات الذي تم اغتياله في السادس من أكتوبر من نفس العام، وفي هذه الفترة كانت مصر تعاني من توتر داخلي وعدم استقرار وفتنة طائفية خاصة عقب اغتيال السادات، بالإضافة إلى فقدان مصر لجزء كبير من شعبيتها العربية القومية بين الدول العربية وداخل مصر نفسها نتيجة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وتراجع دورها في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
فقد كان هدف الرئيس حسني مبارك هو إعادة الاستقرار إلى الواقع السياسي والاجتماعي مع استعادة التوازن في السياسة الخارجية لمصر وتحسين العلاقة مع العالم العربي لتعود مصر اللاعب الإقليمي الأهم والأقوى في المنطقة، مع الحفاظ على سلامها التعاقدي مع إسرائيل والالتزام بتطبيق اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.
وكان هذا الأمر يعتبر تحديا قويا وصعبا على مصر، استطاعت النجاح به والمحافظة على توازن هذه المعادلة لصالحها، الأمر الذي يعتبر إنجازا دبلوماسيا حقيقيا، فقد نجحت مصر في الموازنة الدبلوماسية وما بين احترامها والتزامها بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وبين تأييدها لحقوق الشعب الفلسطيني ورفض سياسة الاحتلال الإسرائيلي العنيفة في الأراضي الفلسطينية المحتملة، وهذا ما أكده الموقف المصري إبّان الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982[5] وارتكابه “مجزرة صبرا وشاتيلا” حيث أدانت مصر إسرائيل لارتكابها المجزرة وغزوها بلد عربياً والتزمت بالمسئولية التي تفرضها عليها القومية العربية، وقامت بسحب سفيرها من تل أبيب واشترطت لعودته انسحاب إسرائيل من لبنان، وأصرت مصر على موقفها على الرغم من كل الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة عليها.
وهذه الفترة شهدت تحسناً في العلاقات المصرية الفلسطينية والعربية أيضا حيث ساعدت مصر منظمة التحرير الفلسطينية على إجلائها من طرابلس، وقد تُوج التصالح التدريجي بين مصر والدول العربية بقرار “مؤتمر عمان” عام 1987 وتأييد استئناف الدول العربية لعودة علاقتها مع مصر ومن ثم عودة مقر الجامعة العربية إلى القاهرة عام 1991.
وأكمل حسني مبارك مفاوضات السلام مع إسرائيل حيث تم استرجاع أغلب شبه جزيرة سيناء من إسرائيل، وكان لمصر دور كبير في المفاوضات بين فلسطين وإسرائيل خاصة بعد إندلاع الانتفاضة الأولى التي نتج عنها “اتفاقية أوسلو” التي حظيت بتأييد من قبل الجانب المصري وشاركت مصر في مراسم التوقيع على اتفاقية أوسلو للسلام التي وقع عليها “ياسر عرفات” ممثلا عن الجانب الفلسطيني ووقع عليها “إسحق رابين” ممثلا عن الجانب الإسرائيلي عام 1993.
وأهم ما تضمنه اتفاق أوسلو هو إعلان المبادئ على إجراء مفاوضات للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى تشكيل سلطة حكم فلسطيني انتقالي تتمثل في مجلس انتخابي فلسطيني يمارس صلاحيات وسلطات في مجالات متعددة، وله حق الولاية على الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي عام 1995،[6] عُقدت قمة شرق أوسطية في القاهرة بدعوة من مصر ضمت كلا من إسرائيل ومصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من أجل تحريك عملية السلام بين فلسطين وإسرائيل وأدانت القمة العنف الساسي ودعت إلى دعم منظمة التحرير الفلسطينية، وتكررت الاجتماعات بدعوة من الرئيس حسني مبارك للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في محاولة منه لدفع عملية السلام بحضور عدد كبير من رؤساء الدول العربية.
وفي 28 أيلول عام 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية في الأراضي الفلسطينية نتيجة لزيارة “أرئيل شارون”، زعيم حزب الليكود الإسرائيلي، للمسجد الأقصى، وعمت المظاهرات في جميع الدول العربية رفضا لهذه الزيارة وتبعاتها السياسية على القضية الفلسطينية وعلى المنطقة العربية والإسلامية ككل، وفي شرم الشيخ وبدعوة من الرئيس حسني مبارك تم عقد اتفاق بحضور ياسر عرفات وإيهود باراك والرئيس الأمريكي بيل كلينتون وحسني مبارك والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، وتم التوقيع على إيقاف المواجهات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني وسحب القوات الإسرائيلية من المناطق التي استولت عليها في الضفة الغربية[7].
وقد شهدت هذه المرحلة دورا فعالا للجهود المصرية في إقرار خارطة الطريق ومطالبة إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية لكي يكون هناك سلام حقيقي بين الطرفين مع الاعتراف بالدولة الإسرائيلية في ذات الوقت، وعلى الرغم من محاولات شارون تغييب الدور المصري في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا أن حسني مبارك كان يتدارك الأمر في كل محاولة لإقصاء الدور المصري وقام باستضافة الفصائل الفلسطينية في القاهرة من أجل ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي والمحافظة على الوجود المصري في الصراع الأهم في الشرق الأوسط.
وبعد وفاة ياسر عرفات عام 2004 وتولي “محمود عباس” قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، رعت مصر في عهد حسني مبارك العديد من الحوارات الفلسطينية والتوقيع على العديد من الاتفاقات كان من أبرزها اتفاق القاهرة الذي وقعته الفصائل الفلسطينية عام 2005، الذي شكل أرضية لتنظيم العلاقات الفلسطينية الداخلية وتمخض عنه إجراء انتخابات البلدية والتشريعية، مع حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة، والالتزام بالتهدئة المتبادلة مع الجانب الإسرائيلي، وتفعيل منظمة التحرير لتضم كافة الفصائل.
وفي عام 2007 حدث الانقسام الفلسطيني الذي انتهى بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة وعلى جميع أجهزة منظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة، وهذا دفع السلطات المصرية إلى اتخاذ عدة إجراءات تمثلت بنقل طاقم سفارتها من قطاع غزة إلى سفارتها في رام الله، وإغلاق معبر رفح البري لفترات طويلة مع فتحه لحالات استثنائية ولفترات قصيرة.
ومع ذلك اتسمت السياسة المصرية بالتوازن وتبنت ملف المصالحة الفلسطينية منذ اللحظة الأولى إلى الآن وتعتبر القاهرة مركز للاجتماعات التي تدور لإنجاح ملف المصالحة واستقبال قادة الفصائل الفلسطينية وعلى وجه الخصوص قادة حركة حماس، على الرغم من اختلافها مع حركة حماس إلا أنها نجحت في موازنة المعادلة ومحاولة الفصل بين عدم توافقها مع حركة حماس وبين تعاملها مع حماس باعتبارها جزء من الشرعية الفلسطينية بعد فوزها في الانتخابات التشريعية.
وتعي حماس جيدا أهمية مصر بإمكانياتها البشرية والمادية للقضية الفلسطينية ومدى خطورة الاستغناء عن حليف إستراتيجي قوي كمصر إذ أن الأمر يعني خسارة حماس للبوابة الأهم في الوصول إلى الشرعية العربية والإسلامية، خاصة أن مصر تمثل المنفذ الوحيد لقطاع غزة، على الرغم من الاتهامات التي وُجهت لحماس من قبل الطرف المصري بالتعامل مع الجماعات المسلحة في سيناء، وهو الذي نفته حركة حماس مرارا وتكرارا، فحافظت مصر على علاقتها مع حماس، حيث يدرك كل من الطرف المصري وقادة حركة حماس أهمية الآخر لكل منهما؛ فلا حماس تستطيع الاستغناء عن قوة مؤثرة كمصر ولا مصر تستطيع التخلي عن قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس.
وفي عام 2008 شنت إسرائيل حربا على قطاع غزة واتسم الموقف المصري في هذه المرحلة بالحياد السلبي حيث لم تفتح مصر معبر رفح أمام قطاع غزة للتخفيف من معاناة الحرب عليهم وامتنعت عن حضور القمة العربية التي عقدت في الدوحة لوقف الحرب على قطاع غزة. وفي 2009 عادت الوساطة المصرية من جديد باعتبارها المؤثر الأكبر في ملف المصالحة الفلسطينية وتبلورت في عدة محاولات لإنهاء الانقسام الفلسطيني عن طريق اقتراحات مصرية لتنفيذ اتفاقية الوفاق الوطني بين حماس وفتح والاتفاق على آلية تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وانتهت المحاولات بتوقيع كل من فتح وحماس على الورقة الفلسطينية، وربما ما أعاق تشكيل حكومة الوفاق على أرض الواقع هو تنحي حسني مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011.
الثالثة: في عهد الرئيس محمد مرسي (2012-2013)
تولى الرئيس الراحل محمد مرسي حكم الجمهورية المصرية بعد نجاحه في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير في عام 2012، ونشط مرسي في العمل الجماعي والخدمي ومقاومة التطبيع، فمرسي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تُعتبر حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة امتدادا لها على المستوى الفكري. وفي فترة حكم مرسي، شهدت غزة انفراجا لا مثيل له من دعم مصر برئيسها محمد مرسي للقضية الفلسطينية ولقطاع غزة وحكومتها.
حيث قام بفتح معبر رفح البري أمام حركة المسافرين من وإلى قطاع غزة، وانتعش اقتصاد القطاع في عهده وسمح بإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى قطاع غزة، وفتح مستشفيات مدينة العريش المصرية لعلاج الجرحى الفلسطينيين، وكانت هناك علاقة متينة ما بين حكومة حماس وبين حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي.
وفي 14 نوفمبر عام 2012، شنت إسرائيل حربا على قطاع غزة وعلى إثرها قام مرسي بسحب السفير المصري من “تل أبيب” رفضا للعدوان الإسرائيلي على غزة، وطالبت مصر مجلس الأمن بعقد اجتماع طارئ لبحت سبل وقف العدوان على قطاع غزة، وأكد مرسي وقوف مصر إلى جانب غزة وبأن الروابط التي تربط بين البلدين قوية وتستوجب دعم غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي وجرائمه غير الإنسانية ضد قطاع غزة؛ وانتهت الحرب بعد سبعة أيام برعاية مصرية لاتفاق التهدئة بين قطاع غزة وإسرائيل الذي تضمن خطوات ملموسة لكسر الحصار عن قطاع غزة، وإلغاء المنطقة العازلة، والعديد من المشاريع لنصرة القدس والقضية الفلسطينية؛ فقد كان الرئيس مرسي الداعم الأكبر والأهم للقضية ولقطاع غزة في ذاك الوقت على الرغم من قصر فترة حكمه، حيث أُطيح به عن طريق انقلاب عسكري بقيادة عبدالفتاح السيسي عام 2013 أي بعد عام واحد على حكمه[8].
الرابعة: بعد انقلاب 2013 في مصر
أدت الإطاحة بالرئيس محمد مرسى إلى حدوث تغيير جدري في طبيعة العلاقة التي تربط قطاع غزة ممثلة بحكومة حماس وبين مصر، فقد عقدت حركة حماس آمالا واسعة في عهد الرئيس مرسي لتحسين الأوضاع في قطاع غزة وكسر الحصار وإنشاء منطقة تجارة حرة بين غزة ومصر بفعل العلاقات القوية بين حركة حماس وحكومة محمد مرسي؛ وجاء الانقلاب العسكري والإطاحة بمرسي وحكومته مانعا قويا غير متوقع حال دون تنفيذ آمال حماس وسكان غزة.
فمنذ اليوم الأول للانقلاب العسكري على الرئيس مرسي وحكومته تم إغلاق معبر رفح البري وهو المنفذ الوحيد لقطاع غزة بعد استمرار فتحه طوال عهد مرسي، ودعمت مصر حدودها مع غزة بعدد كبير من القوات العسكرية المصرية، وتزامن هذا مع حملة إعلامية شرسة روجها منفذو الانقلاب ضد حركة حماس بالإضافة إلى سيل من الاتهامات الموجهة لحركة حماس وقادتها بعلاقتها المباشرة بأعمال العنف التي تحدث في مصر وتدخلها بالشؤون المصرية؛ وتم اتهام الرئيس الراحل محمد مرسي بالتخابر مع حماس، بالإضافة إلى تدمير مئات من الأنفاق البرية، التي كانت تربط غزة ومصر لتمرير المساعدات الغذائية والطبية ومواد البناء والتي اعتبرت مصدر دخل قوي ومهم لحكومة حماس.
فقد قدرت قيمة الخسائر التي لحقت بحكومة حماس وقطاع غزة جراء إغلاق الأنفاق ما يقارب 460 مليون دولار وأكثر[9]، مما زاد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في القطاع سوءا، وأفاد مصدر عسكري إسرائيلي بأن إغلاق الأنفاق يعتبر ضربة مؤلمة لحركة حماس.
وفي تقرير أعدته الصحيفة الإسرائيلية “يديعوت أحرونوت” بأن الاستخبارات الإسرائيلية لم تتفاجأ من الانقلاب العسكري الحاصل على مرسي وحكومته، ونقلت الصحيفة تصريحات سابقة لرئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية “أمان أفيف كوخافي”، قوله قبل نحو أربعة أشهر في” مؤتمر هرتسليا” بأن مصر ستواجه هزة جديدة، وهذا يدعونا إلى التساؤل هل كانت إسرائيل على علم مسبق بالانقلاب العسكري للإطاحة بمرسي، أم هو مخطط إسرائيلي بتنفيذ مصري!
وتولى عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر عام 2014، وشهدت العلاقات الإسرائيلية المصرية تحسنا واضحا منذ ذلك الوقت؛، ونقلت الإذاعة العبرية من مصدر إسرائيلي رفيع المستوى بأن التنسيق والتعاون الإسرائيلي مع الجيش المصري مستمر، خاصة فيما يتعلق بإغلاق الأنفاق بين مصر وغزة وإعادة الهدوء إلى سيناء ومحاربة الجماعات الإرهابية الموجودة داخل سيناء، وصرح المستشرق الإسرائيلي “أيال زيسر”، وهو أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، بأن تولى السيسي الحكم سيرتب حراكا سياسيا جديدا لوضع ترتيبات إقليمية جديدة، من خلال الجهد الذي يبذله لإحداث عملية سياسية جديدة هدفها العثور على قنوات اتصال ليس فقط بين الجانب الإسرائيلي والفلسطيني، بل مع باقي الدول العربية ليصبح تعاونا إقليميا يعزز الموقف الإسرائيلي في المنطقة، بالإضافة إلى استمرار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وبهذا إسرائيل تكون الرابحة من جميع الاتجاهات.
وصرح “يوسي ميلمان” الخبير الأمني الإسرائيلي في صحيفة “معاريف الإسرائيلية” بأن العلاقات الأمنية بين مصر في عهد السيسي وإسرائيل، تعيش أفضل حقبة لها منذ سنوات عديدة، وهذا بسبب المصالح الأمنية المتشابهة بينهما، وعلى رأسها الحرب الحاصلة في سيناء، والرغبة الإسرائيلية المصرية لإضعاف حركة حماس وجناحها العسكري في غزة، وأجمع عدد من المحللين السياسيين الإسرائيليين بأن الحليف الأهم لإسرائيل في المنطقة الآن هو السيسي، فهو يمتلك مصلحة حقيقية لتوثيق علاقاته مع اسرائيل[10].
وشهدت العلاقات المصرية مع قطاع غزة تراجعا ملحوظا في حكم السيسي قد يكون الأسوأ منذ عقود طويلة، فمصر تنظر لحركة حماس على أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، وهذا ما ينفيه دوما قادة حماس معقبين على أنهم حركة تحرر وطنية تتخذ من الشريعة الإسلامية منهجا لها، وفي تاريخ 4 مارس 2019 قصت محكمة الأمور المستعجلة المصرية بوقف نشاط حركة حماس داخل مصر، وحظر أنشطتها بالكامل، والتحفظ على مقراتها داخل مصر.
ثالثا: أهمية قطاع غزة لجمهورية مصر العربية
عند الحديث عن أهمية قطاع غزة بالنسبة لمصر فإن أهمية القطاع تتجسد في المحاور الآتية:
1: الأمن القومي
ارتبط الأمن القومي لمصر ارتباطا تاريخيا بموقعها الجغرافي ووجود نهر النيل، ويشكل قطاع غزة الحدود البرية والبوابة الشرقية لمصر، فأمن مصر مرتبط ارتباطا قويا لا يمكن فصله عن أمن قطاع غزة؛ فحينما يكون أمن قطاع غزة مخترق وفي وضع خطير تكون البوابة الشرقية لمصر هشة ولينة أمام العدو؛ وحين تصمد غزة تقوى مصر كلها، فحقائق التاريخ أثبتت أن أمن مصر واستقلالها الداخلي والوطني مرتبط بما يجري على حدودها الشرقية.
الأمر الذي يجعل كل من مصر وغزة تشكلان كتلة وقوة إستراتيجية واحدة، وهذا ما دفع مصر وحكامها على مر العصور بناء على هذه الحقائق والمعطيات التاريخية والجغرافية والإستراتيجية وضع فلسطين وخاصة قطاع غزة في أجندة أولوياتها في سياستها الخارجية للحفاظ على الأمن القومي المصري، فأمن المنطقة العربية يعتمد بشكل كبير على أمن مصر، وأمن مصر مرهون بأمن قطاع غزة، خاصة وأن معبر رفح هو المنفذ والمنفس البري الوحيد لقطاع غزة، فمصر هي بوابة الدخول والخروج من وإلى قطاع غزة، مما يفرض على الطرف الفلسطيني والمصري الجلوس على نفس الطاولة دوما وتسوية الخلاف إن وجد بأسرع الطرق الدبلوماسية بهدف استقرار الأمن القومي لكليهما تحقيقا للمصالح المشتركة بين مصر وغزة استجابة للمسئولية المترتبة على عاتق كل منهما، فمصر في محاولتها الحفاظ على الأمن القومي لبلادها الذي يرادفه المحافظة على أمن قطاع غزة، فهي تحمي نفسها من عدة مخاطر تهدد أمنها القومي من جهة حدودها الشرقية
ثانيا: الدور الإقليمي
تعتبر مصر اللاعب الإقليمي الأقوى في المنطقة العربية منذ عقود من الزمن، وقد شاركت على مر العصور في صراعات عديدة أو لعبت دور الوسيط فيها، وكانت ورقة رابحة للحلفاء الذين يسعون للاستفادة من ثقل مصر في المنطقة عن طريق تقديمها للدعم الدبلوماسي لهم، فمصر تشكل محورا ذا ثقل وأهمية في العالم العربي والإسلامي، مع خط ساحلي واسع بطول 3 ممرات مائية رئيسية في العالم بشكل عام هما البحر المتوسط، والبحر الأحمر، ونهر النيل، بالإضافة لامتلاكها أكبر الجيوش العسكرية العربية، وتجربتها الدبلوماسية المتطورة في المنطقة العربية والأجنبية على حد سواء، وتعتبر قناة السويس الممر المائي الذي يربط بين البحرين المتوسط والأحمر، وتوفر طريقا مختصرا للشحن البحري العالمي، وهذا ما يعزز أهمية الموقع الإستراتيجي للدولة المصرية.
بالإضافة إلى أن مصر تتمتع بتأثير ديني وثقافي بالغ الأهمية في العالم العربي والإسلامي، ولطالما كانت القضية الفلسطينية قضية لها ثقلها وأهميتها في العالم العربي والإسلامي، التي تجمع القومية العربية وتقربها، وتعتبر مصر منذ عقود طويلة حلقة الوصل بين الدول العربية والإسلامية، فمنذ إنشائها للجامعة العربية التي عززت موقفها الإستراتيجي في المنطقة دعمت القضية الفلسطينية وقامت بعدة محاولات ومبادرات لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أو على الأقل التخفيف منه في محاولة لتحقيق الهدوء في المنطقة، وهذاالدور الإقليمي لمصر تراجع في فترة الربيع العربي والانقلابات الحاصلة في المنطقة العربية.
وعلى الرغم من وجود منافسين لها، فإن دور مصر الإقليمي وتأثيره على قطاع غزة يجعلها تظل اللاعب الإقليمي الأهم؛ وتتولى مصر ملف المصالحة الفلسطينية المرهون نجاحها بنجاح أو فشل مصر في التوصل لاتفاق يناسب الأطراف ويناسبها بذات الوقت ويخدم مصالحها، في محاولة من السيسي لسد الفراغ والتراجع الذي شهدته العلاقات المصرية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، ولا أغنى من ملف المصالحة الفلسطينية الذي يعتبر مصلحة مشتركة ثلاثية بين مصر وإسرائيل وحماس من أجل تحقيق الهدوء في المنطقة من جانب، ومن جانب أخر فإن الضائقة المالية التي تمر بها حكومة حماس يجعلها في حكم المضطر لقبول الحلول التي تعرضها مصر، اللاعب الإقليمي المؤثر في المنطقة، وتحقيق المصالحة الفلسطينية بجهود مصرية سوف يعود بالنفع على مصر[11]:
1: من الناحية الاقتصادية
مصر تروج لخطة تزويد غزة بالغاز من “حقل لفيتان”، الذي شرعت إسرائيل باستخراج الغاز منه قبل عام، وفي حال تم الموافقة على هذه الخطوة فإن الشركات المصرية المرتبطة بالحكومة هي من ستقوم بشراء الغاز من إسرائيل ومن ثم بيعه لمحطات توليد الكهرباء الفلسطينية؛ والشركة المرجحة لكي تقوم بهذه الصفقة التجارية المربحة للغاية هي شركة “دولفينوس”، ويذكر بأن هذه الشركة وقعت على اتفاقية شراء الغاز من إسرائيل بقيمة 15 مليار دولار، وفي هذه الحالة فإن مصلحة مصرية وإسرائيلية مشتركة مرتبطة بإنجاح ملف المصالحة الفلسطينية بشكل خاص وبقطاع غزة بشكل عام، بالإضافة إلى أن المصالحة ستؤدي إلى اعتماد غزة على البضائع المصرية والمنتوجات المصرية بشكل كبير مما سيؤدي إلى تحقيق أرباح ومكاسب اقتصادية تساهم في إنعاش الاقتصاد الوطني المصري.
2: من الناحية السياسية
تسعى مصر من خلال مبادرتها في تبنيها لملف المصالحة الفلسطينية لتحسين مكانتها ودورها الإقليمي في العالم العربي والإسلامي بشكل عام، وبالنسبة للولايات المتحدة ولإسرائيل بشكل خاص، وترسيخ دورها كأحد ضمانات الاستقرار في المنطقة.
بالإضافة إلى أن مصر تخشى من لجوء الجماعات المسلحة التي تتركز في سيناء إلى التحالف مع حماس واختبائهم في قطاع غزة مما يجعل محاربتهم والقضاء عليه أمرا غاية الصعوبة، ويسهل للجماعات الإرهابية سيطرتهم على سيناء واختراق مصر حتى، فالسيسي يهتم بتعزيز دور مصر كقوة إقليمية في المنطقة العربية والإسلامية بتوفير الهدوء في المنطقة وتصدر المشهد لتولى زمام الأمور بين فتح وحماس وبين حماس وإسرائيل.
رابعا: تغيرات الموقف المصري التقليدي تجاه قطاع غزة
بعد الاطلاع على طبيعة العلاقات التي ربطت بين الجمهورية المصرية وبين فلسطين بشكل عام وقطاع غزة على وجه التحديد والخصوص تباعا لملوك وحكام مصر على مر سنوات طويلة، نستنتج أن الموقف المصري حمل على عاتقه القضية الفلسطينية ومسئوليته أمام قطاع غزة منذ أن تولى ولاية غزة، وإلى هذه اللحظة فإن القوانين المطبقة في قطاع غزة هي القوانين المصرية، وهذا يدل على تبعية قطاع غزة بشكل غير مباشر للجمهورية المصرية وفي المقابل المسئولية القانونية المترتبة على مصر والتزاماتها تجاه قطاع غزة، ومنذ عام 1948 وحتى عام 1967 كان قطاع غزة تحت الولاية المصرية ومصر هي المسئولة قانونيا عن قطاع غزة، على الرغم من أنها لم تحاول استعادة قطاع غزة منذ عام 1967، عند سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ولكن بعد تولى عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في مصر ظهرت عدة متغيرات جديدة لم يعتد عليها المشهد العربي ولا الدولي حتى، ومن أبرز هذه المتغيرات[12] التي تمثل نقطة تحول فعلي في السياسة الخارجية المصرية، المؤثرة بالطبع على قطاع غزة:
1- تفريط الحكومة المصرية الحالية بالحدود المصرية
تختلف سياسة السيسي اختلافا كبيرا عن السياسة المتبعة في عهد حسني مبارك فيما يتعلق بإيجاد حل لأزمة قطاع غزة، فمصر في عهد مبارك كانت تتبع سياسة قدسية حدودها وأراضيها وترفض أي تنازل إقليمي جديد، حتى لو كان عبر “مبدأ تبادل الأراضي”، ولكن أحداث سيناء وعزلها عن مصر والإجراءات العنيفة المتبعة من قبل القوات المسلحة تجاه أهل سيناء المصريين، تشير إلى التمييز الواضح بين سيناء وبين الأراضي المصرية الأخرى وحلول سياسة مصرية جديدة لم يعهدها المشهد العام، خاصة عند تنازل السيسي وحكومته عن جزيرتي “تيران وصنافير” المصريتين في إطار اتفاقية إعادة الحدود البحرية المصرية السعودية، على الرغم من قرار المحكمة الإدارية العليا المصرية القاضي بنسبة الجزيرتين للأراضي المصرية بناء على دلائل تاريخية.
2- تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني
منذ تولى السيسي زمام الحكم في مصر نلاحظ غياب دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية عن المستجدات الحاصلة في المنطقة، وانحصار العلاقة بين الحكومة المصرية الجديدة وبين حكومة حماس؛ وبرز هذا التهميش عند انعقاد سري “لقمة العقبة”، والذي تعلق بشكل مباشر في القضية الفلسطينية، شارك فيه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وملك الأردن عبد الله الثاني، وعبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، ولم يحضر أي ممثل عن منظمة التحرير الفلسطينية؛ والأرجح أنه لم يتم توجيه دعوة للرئيس الفلسطيني ولا ممثليه، فبالنسبة لمصر فإن التفاوض مع حركة حماس وتوليها ملف المصالحة الفلسطينية أسهل بكثير من التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، فتقارب المصالح بين مصر وحركة حماس يخلق نقطة التقاء بين الطرفين.
3- عملية تفريغ شمال سيناء
لقد شهدت شمال سيناء عمليات تهجير واسعة وعنيفة، قادها الجيش المصري ضد سكان شمال سيناء تحديدا في مدينة العريش، والشيخ زويد، ورفح المصرية، بهدف تفريغها من سكانها بعد أن دمرت منازلهم ومزارعهم وأراضيهم، وتشرد على إثرها ألاف المصريين، ووصفت المنظمات الحقوقية سلوك القوات المصريين تجاه أهل سيناء بأنها “جرائم حرب”، ولاقت استنكارا كبيرا من منظمة” العفو الدولية”، ويذكر بأن هذه العملية نفذها الجيش المصري تجاه أهل سيناء في تاريخ 9 فبراير من عام 2018، وتعرف هذه العملية باسم “العملية الشاملة.. سيناء 2018″، والتي تهدف إلى مكافحة الإرهاب حسب بيان العملية، إذ تدار هذه العملية من غرفة عمليات في القاهرة، وترسل التقارير بشكل مباشر وسري للقصر الرئاسي، وهذا ما ذكرته صحيفة “هآرتس الإسرائيلية”.
وعند تحليل هذه العملية وتحليل السلوك العنيف للقوات المصرية تجاه المصريين سكان سيناء وشمالها، نستدل على تغيرات وترتيبات إقليمية جديدة لعلاقة مصر مع حدودها الشرقية ومع قطاع غزة، وأن الهدف من السياسة المصرية في سيناء لا يقتصر فقط على مكافحة الإرهاب ومحاربة عناصر داعش المتواجدة في سيناء فقط، بل الأمر يتخطى ذلك مشيرا إلى تغير الإستراتيجية القديمة في التعامل مع قطاع غزة، وظهور خطة وأيدلوجية جديدة وصارمة لمصر على حدودها مع قطاع غزة، فإفراغ شمال سيناء وتهجير سكانها المصريين من أراضيهم يدل على أبعد من ذلك.
خاتمة
إن سياسة عبد الفتاح السيسي تجاه القضية الفلسطينية وقطاع غزة على وجه التحديد طرأت عليها متغيرات جوهرية لم يعهدها الطرفان من قبل، وهذه العلاقات بأوجهها ومصالحها المتعددة بين الطرفين، تتم بما يتناسب ويتوافق مع مصالح وسياسة الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الرغم من ذلك فإن حماس فرضت نفسها كأحد المعطيات الجيواستراتيجية التي يفترض على مصر وإسرائيل التعامل معها، باعتبارها من تسيطر على قطاع غزة، ولكن الحقيقة بأن الكلمة الأولى ليست لحركة حماس على أهمية دورها مركزها السياسي حاليا، فالطرف الأقوى والمؤثر هو الطرف المصري خاصة في ظل غياب وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية.
وناهيك عن إسرائيل، فإن مصر هي من تتحكم فعليا بمصير قطاع غزة، من خلال حدودها مع غزة وما يتبع ذلك من سيطرتها على معبر رفح البري الذي يربط غزة بمصر وبالعالم الخارجي، وتوليها لملف المصالحة الفلسطينية هو ما يعزز دورها الإقليمي في المنطقة ككل وفي غزة تحديدا.
الهامش
[1] موقع إضاءات الإخباري، عبر الرابط
[2] أبو الريش. سعيد: 2005، جمال عبد الناصر أخر العرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان.
[3] الأشعل. عبد الله: 2014، مصر والقضية الفلسطينية التطورات والمسارات المحتملة، مركز الزيتونة للدراسات والأبحاث، بيروت، لبنان.
[4] أبو غزالة. حاتم: 1979 “كامب ديفيد تسوية أم تصفية” جمعية عمال المطابع التعاونية نابلس فلسطين.
[5] موقع المركز المصري للشئون الخارجية الإخباري، عبر الرابط
[6] موقع الجزيرة الإخباري، اتفاق أوسلو، عبر الرابط
[7] أبو شاويش محارب 2003 تغطية الصحافة المصرية للممارسات القمعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، مصر.
[8] المركز الفلسطيني للإعلام، عبر الرابط
[9] موقع السبيل الإخباري، أثر الانقلاب العسكري في مصر على قطاع غزة، عبر الرابط
[10] أرشيف نشرة فلسطين اليوم، عدد يونيو 2020، العدد 3951، ص 26.
[11] موقع العربي الجديد الإخباري، عبر الرابط
[12] منتدى السياسات العربية، عبر الرابط التالي: https://www.alsiasat.com/
رابط المصدر: