علي حسين عبيد
الرحلة السياسية المتعثرة منذ أكثر من عقد ونصف في العراق، تفرض على القادة السياسيين يقظة حازمة، وقراءة عميقة ودقيقة للواقعين الدولي والإقليمي، ونظرة متفحصة للسقطات والكبوات السابقة، والانطلاق في مسار سياسي شامل، خارجي وداخلي، يضمن إيقاف الانحدار المتسارع للعراق نحو الهاوية.
وبعد إيقاف الانحدار المذكور أعلاه، يجب أن يبدأ قادة العراق، لاسيما السلطة التنفيذية وقائدها الأعلى (رئيس الوزراء)، بالتحرك من نقطة الصفر، وتحريك النمو المتصاعد في تنمية وتطوير العراق، شعبا ودولة، وحماية المصالح الوطنية بما يضمن استقلالية تامة، وتخطيط لا يقبل الخطأ مرة أخرى، وتنفيذ حازم يبدأ من أعلى الهرم التنفيذي، ليعطي الانطباع للجميع، بأن العراق دولة قوية مستقلة وقادرة على حماية مصالحها كاملةً.
يبدأ التحرك القيادي المختلف من البحث عن المحاسن الكثيرة التي يتميز بها العراق، فهناك مزايا يمكن أن تجعل من هذا البلد محط أنظار القوى الكبرى وحساباتها، خاصة أنها تخطط وتعمل على مدار الساعة، لتحمي مصالحها القومية في شتى المجالات، من هذه المزايا، موقع العراق الذي يتوسط منطقة ساخنة ومهمة في العالم، بل تعد من أهم مصادر الطاقة عالميا.
أما من ناحية الموقع الجيوبوليتيكي المهم للعراق، فهذه ميزة تضاعف إسهامه في تحقيق التوازن الدولي بين القوى المتصارعة لحماية مصالحها، ولكن هذه المزايا لا يصح أن تتحول كنقمة على العراق بدلا من أن تكون نعمة له، فالدولة التي تتمتع بميزة الموقع الإستراتيجي، وبالثروة الهائلة، وبالموارد البشرية النوعية والعادية، هكذا دولة يجب أن تستثمر هذا لنفسها وتحمي مصالحها قبل أية مصالح أخرى.
في ظل هذه الأفضلية للعراق وتكالب الدول الكبرى والإقليمية عليه، لابد أن تتمتع قيادته السياسية برؤية وطنية أصيلة ودقيقة، قادرة على تحقيق التوازن بين عموم القوى، لكي تبقي العراق في منأى عن التمحور مع قوة ما ضد قوة أخرى، بمعنى أوضح مطلوب أن يبقى العراق مستقلا في سياسته، مع احتفاظه بأهميته وعلاقاته الإستراتيجية مع الدول الأخرى.
الرؤية الوطنية المتوازنة
ومع الإقرار بصعوبة الوضع العراقي الراهن فيما يخص الوضع الاقتصادي المتدهور واستفحال جائحة كورونا وتصاعد الإصابات إلى مستوى خطير فضلا عن الوضع الأمني الداخلي والصراعات القبلية والمظاهرات المستمرة، وحاجة العراق للعون الدولي (أمريكا) والإقليمي (عموم دول المنطقة)، إلا أن الرؤية الوطنية المتوازنة ليست عصية على التحقيق، وليست مستحيلة.
كل ما هو مطلوب أن تتوافر لدى قيادته صفات وسمات منها، الإيمان الحقيقي و (قوة الشخصية) التي تمكنها من فرض احترام العراق وفق رؤية وطنية مستقلة عن الآخرين، مع الإبقاء على توازن المصالح قائما، وقد يرى آخرون أن هذا الأمر لا يتعلق بشخصية سياسية عراقية دون غيرها، إنما الأمر يتعلق بسياسة عامة للدولة العراقية وطبقته السياسية.
هذا رأي نتفق معه تماما، ولكن حضور الشخصية القيادية وتأثيرها ورؤيتها العميقة وأداءها على مستوى التنفيذ، له أبلغ الأثر في توجيه الرؤية السياسية الوطنية، وجعلها فاعلة وقادرة على توطيد مكانة البلد وحماية مصالحه قبل حماية مصالح الآخرين، بمعنى إقامة علاقات يحكمها تكافئ المصالح قبل أي معيار آخر.
ولنا في النماذج القيادية العربية والعالمية، أدلة قاطعة تثبت بما لا يقبل الشك، التأثير المزدوج للرؤية السياسية المستقلة، مضافا إليها قوة الشخصية القيادية للقائد السياسي ومعاونيه وحتى مستشاريه، حيث تسهم هذه المزايا بدورها في فرض المصلحة الوطنية، وتقدّمها على غيرها من المصالح الدولية أو الإقليمية.
بالطبع لا نعني بذلك تكريس الرؤية الجامدة أو الأنانية وعزل البلد عن محيطه، إذ يجب أن نرفض المنظار العنصري الضيق الذي يتجاوز على مصالح الآخرين، بل بمنطق القائد السياسي الحريص على وطنه وشعبه أولا وقبل أي شيء آخر، فمن أهم واجبات الحكومة، وقائدها التنفيذي الحرص على المصالح الوطنية أولا ودعمها بمنظومة علاقات تقوم على المصالح المشتركة والتكافؤ المتبادل.
الكلمات التي وردت في أعلاه موجهة بالدرجة الأولى إلى الطبقة السياسية كلها، ثم نعني بها على وجه الخصوص الحكومة التنفيذية، ولا ننسى دور المؤسسات المستقلة كالبرلمان، وأهمية تكريس إدارة العراق بطريقة تضمن حماية مصالحه في ظل تصارع إرادات دولي وإقليمي محتدم لا يستثني العراق، بل يقول المراقبون بأن العراق يقع في قلب الأحداث الدولية والإقليمية، ويمكن أن يكون المتضرر الأكبر في حال فشل الحكومة وصنّاع القرار في الميل للمصالح العراقية أولا.
الحاجة للدعم الرسمي والشعبي
بعد هذه الكلمات، تُرى أين هو موقع القائد السياسي العراقي مما يحدث على الأرض، هل هو مع شعبه ووطنه، وهل يمتلك الرؤية السياسية الوطنية المستقلة، القادرة على وضع حد لسيل الأطماع والمصالح الدولية، والإقليمية التي تهاجم العراق من كل حدب وصوب؟ حتى وصف كثيرون هذا البلد بـ (الكعكة) التي يتقاسمها الأغراب فيما بينهم، إلا أهلها.
هل فعلا هذا هو واقع حال العراق في ظل حالة التشرذم التي يعانيها؟ في الإجابة عن هذه التساؤلات، لابد من القول إن العراق يعاني هشاشة واضحة في إدارة أموره على مختلف الأصعدة، لاسيما خاصة أن تجربة ساسته (الكتل والأحزاب والشخصيات المستقلة) لا تزال طرية، مقابل تمرس كبير لساسة الدول الكبرى والإقليمية على كيفية قضم مصالحها، من لحم ودم الشعب العراقي، ممثلا بخيراته وثرواته المادية والمعنوية.
ومما لا يمكن نكرانه محاولات إضعاف العراق لمواصلة موجات النهب المبرمج من قبل القوى المختلفة، وهو نهب لا نظير له في التاريخ العراقي المنظور أو القديم، تدعم هذا الواقع المؤلم ظروف سياسية تبدو قاهرة، بل كأنها غير قابلة للمعالجة، بسبب ضغط الصراعات الدولية والإقليمية التي فُرضت على العراقيين، وهذا الواقع المعقد تعيه القيادة العراقية اليوم ويقع عليها عب المعالجة والتصحيح لا بديل عنه سوى تدمير الدولة.
هذا الواقع الذي يتوزع على جانبين، أحدهما خفي، والآخر واضح وضوح الشمس، يتطلب تعاملا سياسيا وطنيا حاسما، من أعلى قيادي تنفيذي أمامه فرصة الأداء السياسي السليم داخليا وخارجيا، على أن تكون هناك حالة دعم رسمي وشعبي، تجعل من الخطوات التي يتخذها القائد بداية لمرحة جديدة للعراق، تسمى بمرحلة الإنقاذ الناجز.
رابط المصدر: