ماكرون ولبنان: لعبة المصالح في الوقت الضائع

عبد الامير رويح

 

الاهتمام الفرنسي المتزايد والزيارات المتكررة للرئيس ايمانويل ماكرون الى لبنان، والذي يعد أول رئيس دولة يزور هذا البلد بعد حادثة مرفأ بيروت وينزل الى شوارعها ليلتقي بسكان العاصمة، يضاف الى ذلك ارسال فرق اغاثة ومساعدات ومعدات طارئة، هذه التحركات ماتزال محط اهتمام واسع، خصوصا وان البعض يرى ان فرنسا تسعى الى تثبيت وجوها من جديد في مستعمرتها القديمة التي تعاني اليوم من ازمات ومشكلات اقتصادية وسياسية متفاقمة، وهو ما استفاد منه رئيس الحكومة الفرنسية الذي طالب وبحسب بعض المصادر، بتنفيذ إصلاحات عاجلة وعميقة، وإلا ستبقى الأموال لإعادة البناء محجوزة.

وتلعب فرنسا في لبنان منذ قرون دورا هاما. ففي عام 1860 زادت التوترات الدينية في جبل لبنان المنتمي حينها للإمبراطورية العثمانية، وانتهت في الأخير إلى أعمال عنف مفتوحة بين المسيحيين والدروز. وفي هذا الوضع تدخلت فرنسا وفرضت لدى العثمانيين وضعا مستقلا للمنطقة، وتحولت فرنسا إثرها إلى قوة الحماية للمسيحيين. وفي عام 1920 أعلنت فرنسا قيام لبنان الكبير، الذي سبق لبنان المعاصر الذي نال استقلاله في 1943. ومذ ذلك الحين نشأ تأثير فرنسا السياسي في لبنان، والذي يمكن لباريس أن تستغله في الأزمة الحالية.

وهذه ليست المرّة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان. فبعد التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، ركب جاك شيراك طيارته، وحطّ في بيروت لمواساة العائلة. وعند وفاة شيراك ساد الحداد الإعلام اللبناني المحلّي، في استذكار “صديق لبنان الكبير”. وخلال ولايته، رعى شيراك مؤتمرات باريس 1 و2 عام 2001 وباريس 3 عام 2007، لدعم لبنان اقتصادياً، ونجح بجمع مليارات الدولارات من الجهات المانحة.

وفي عام 2018، رعت فرنسا من جديد مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان، بعد فشل الدولة اللبنانية بإنجاز الإصلاحات الموعودة في مؤتمرات باريس الثلاثة، وجمعت أكثر من 12 مليار دولار، لم تفلح في تجنيب البلاد الأزمة المالية الخانقة التي تشهدها حالياً. وفي حالة ماكرون، فقد زار بيروت قبل انتخابه، والتقى بممثلين عن المجتمع المدني، وبعد انتخابه، لم يهنأ له بال من جهة “بلاد الأرز”. ففي العام 2017، بعد أزمة احتجاز سعد الحريري في السعودية، كان للوساطة الفرنسيّة دور في تحريره، وزار الحريري قصر الإليزيه مع عائلته فور الإفراج عنه.

تلك التحركات دفعت العديد من اللبنانيين لتوقيع عريضة تطالب “بعودة الانتداب” الفرنسي لمدة عشرة أعوام بسبب انتشار الفساد”، فهناك جزء من الشعب اللبناني يشعر بارتباط ثقافي وهوياتي مع فرنسا، ماكرون علق على تلك المطالبات مؤكداً أنه: “لن يتعدى على سيادة لبنان”. وقال “ما أود أن أقوله لكم ألا تطلبوا من فرنسا ألا تحترم سيادة لبنان، سأكون هنا في كل مرة يكون فيها اللبنانيون بحاجة للمساعدة”. وتابع: “صدقوني لن يصدر مني أي تدخل، وأيضاً لن يصدر مني محاباة لأحد، سأتصرف بدافع الصداقة؛ لأنّ بيننا تاريخاً مشتركاً يتواصل منذ 100 عام”.

بعد 100 عام

وفي هذا الشأن احتفل لبنان بمرور مئة عام على تأسيسه، وهيمن رجل واحد على المشهد، من غرس شجرة أرز، الشعار الوطني للدولة، إلى زيارة مرفأ بيروت المدمر. ولم يكن ذلك الرجل زعيما لبنانيا قويا أو شخصية محلية مشهورة. لكنه كان إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، البلد الذي تخلص لبنان من نير حكمه الاستعماري منذ عقود. وفي ذلك علامة على عمق أزمة لبنان وازدراء الكثير من اللبنانيين الآن لساستهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو دروز. وللمفارقة، لم تكن هناك دلائل تذكر على الشكوى من أن أجنبيا وزعيما لقوة استعمارية سابقة قد احتل موقع الصدارة في حدث لبناني بامتياز.

وقال ماكرون لمجموعة من المتظاهرين المناهضين للحكومة بعد أن زار المغنية الشهيرة فيروز (85 عاما) أعدكم.. لن أتخلى عنكم. ويتهاوى الاقتصاد اللبناني بعد سنوات من الفساد الحكومي الواسع النطاق وتراجعت قيمة العملة المحلية بشدة ودمر الانفجار الضخم الذي وقع الشهر الماضي في مرفأ بيروت مساحات شاسعة من العاصمة. ويئن اللبنانيون تحت وطأة ذلك كله. ولا يستطيع عدد متزايد من السكان إطعام أسرهم، بينما يخطط آخرون للهجرة أو غادروا البلاد بالفعل. أما كثير ممن يريدون البقاء أو ليس لديهم خيار آخر ففي حاجة ماسة لمن ينتشلهم من أزمتهم.

وعلى خلفية ذلك المشهد المعقد، ظهر ماكرون في زيارته الثانية في أقل من شهر. وقال نبيل بومنصف نائب رئيس تحرير صحيفة النهار “المشهد كان فرنسيا مئة بالمئة. ماكرون كان شاغل المشهد كله بشكل مش مسبوق لزيارة الزعماء الأجانب”. وأضاف “كان في محلات (أوقات) لاذعا وحادا مع الطبقة السياسية، يهدد بالعقوبات.. وهذه الطبقة لم تعترض إطلاقا لأنها حاسة حالها مدانة وساقطة شرعيا”. وأعلنت فرنسا حدود لبنان الحديث عام 1920 بعد تقسيم استعماري مع بريطانيا قبل أن يحصل على استقلاله عام 1943. بحسب رويترز.

لكن ذلك البلد، بخلافاته الطائفية العميقة، كان منذ فترة طويلة ملعبا سياسيا لقوى إقليمية ودولية يبدي زعماء الفصائل المحليون، وبعضهم لا يزال يتمتع بنفوذ سياسي، استعدادا تاما لتلقي الدعم منها لخوض حروب بالوكالة أو تسوية نزاعاتهم المحلية. وهذه المرة، اصطف الجميع حتى الساسة، الذين ربما كانوا في أوقات أكثر استقرارا سيخرجون بخطب غاضبة عن التدخل الأجنبي، للقاء ماكرون عندما طلب منهم إصلاح “النظام” بأسرع ما يمكن. وخيرهم بين الإصلاح أو مواجهة العواقب، وربما العقوبات. ومثلما قال سياسي لبناني كبير “قد ينجح الأمر” هذه المرة بعد تأجيلات عدة.

خارطة طريق فرنسية

على صعيد متصل تدعو خارطة طريق فرنسية للحكومة القادمة في لبنان إلى استئناف المحادثات فورا مع صندوق النقد الدولي لإصلاح الاقتصاد المتهاوي واتخاذ خطوات سريعة لمحاربة الكسب غير المشروع وتطبيق إصلاحات أخرى تأخرت لسنوات. بعد رسالة قوية لزعماء لبنان بعثت بها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت مفادها: نفذوا الإصلاحات بحلول نهاية أكتوبر تشرين الأول وإلا فستواجهون العقوبات.

وقاد ماكرون، الذي دفعت ضغوطه زعماء لبنان المتناحرين للاتفاق على رئيس وزراء جديد، جهودا دولية لوضع البلاد على مسار جديد بعد عقود من الحكم الفاسد الذي أدخلها في أزمة هي الأعمق منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها من عام 1975 إلى عام 1990. وتعاني البنوك اللبنانية من الشلل مع انهيار الليرة وتصاعد التوتر الطائفي. وعلاوة على كل هذا، دمر انفجار هائل في مرفأ بيروت مناطق واسعة بالمدينة وتسبب في مقتل أكثر من 190 شخصا وألحق أضرارا تقدر بنحو 4.6 مليار دولار.

تتضمن مسودة الخارطة مطالب مفصلة تتماشى مع دعوة ماكرون إلى “التزامات موثوق بها”، من مسؤولين لبنانيين اثنين. ونشرتها أيضا وسائل إعلام لبنانية. وتقول المسودة إن على الحكومة اللبنانية الجديدة وضع إطار زمني للمحادثات مع صندوق النقد الدولي خلال 15 يوما من تسلمها السلطة. وفي غضون شهر، يتعين على الحكومة تطبيق قانون لتقييد حركة رأس المال وافق عليه صندوق النقد الدولي وبدء التدقيق في حسابات مصرف لبنان وتنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء الذي لا يزال عاجزا عن إمداد سكان البلاد البالغ عددهم حوالي ستة ملايين نسمة بالكهرباء طوال اليوم.

كما يتعين على الحكومة في غضون شهر إلغاء خطط حالية لمشروع مثير للجدل لبناء محطة كهرباء في سلعاتا شمالي بيروت وتأسيس هيئة وطنية لمحاربة الفساد. وجرى تكليف مصطفى أديب، سفير لبنان السابق في ألمانيا، برئاسة الوزراء قبل ساعات من وصول ماكرون. وينبغي على أديب ضمان الموافقة على حكومته قبل تولي المنصب وهو أمر كان يستغرق في العادة عدة شهور. وقال ماكرون إن السياسيين وافقوا على إنجاز هذه المهمة في غضون أسبوعين. وقال أديب بعد لقاء مع سياسيين “التحديات داهمة ولا تحتمل التأخير”.

وبدأت محادثات لبنان مع صندوق النقد الدولي في مايو أيار لكنها تعثرت في يوليو تموز حيث تجادلت الحكومة مع الأحزاب السياسية والبنوك بخصوص حجم الخسائر في القطاع المصرفي. وقال مهند الحاج علي من مركز كارنيجي للشرق الأوسط إن الإصلاحات ستكون تحديا للنخبة السياسية لأنها ستجعل من الصعب تمويل شبكات نفوذها. وأضاف إنها “تنقل السياسة من النظام القديم الذي ينظر إلى الخدمات العامة على أنها مجموعة من الغنائم إلى اقتصاد جديد لا يمكن استمرار الممارسات القديمة فيه”.

لكن مصدرا سياسيا كبيرا قال إن الأحزاب تقدم على بعض التنازلات لأسباب من بينها الضغط الفرنسي. وأضاف “إنها خطة طموحة لكن في ظل إدارة (ماكرون) للأمر في لبنان فإنها قد تنجح”. وقاد ماكرون الدبلوماسية الدولية بخصوص لبنان لكن قوى أخرى ما زالت تحظى بالنفوذ الكبير مثل إيران كما تمارس السعودية، خصم إيران في المنطقة، نفوذا على السنة في لبنان كما أن الولايات المتحدة مانح كبير وتدرج جماعة حزب الله على قائمة التنظيمات الإرهابية.

وقال محمود قماطي المسؤول في حزب الله لتلفزيون المنار التابع للجماعة إنه يلحظ تعاونا إقليميا ودوليا بخصوص لبنان. وأضاف “لذلك في فرصة لهذه الحكومة أن تحل بعض الأزمات على الأقل”. وقال حزب القوات اللبنانية، وهو حزب مسيحي يعارض حزب الله بشدة، إن وزراء الحكومة الجديدة من ذوي الخبرة يجب أن يتصرفوا باستقلالية دون أن يضطروا لاستشارة زعمائهم السياسيين على النقيض من الحكومة السابقة التي تتولى حاليا تصريف الأعمال.

وقال وليد جنبلاط، السياسي الدرزي البارز في لبنان، لتلفزيون (إل.بي.سي) إن الحكومة ستتبع خارطة الطريق على الأرجح. وقال جبران باسيل رئيس أكبر حزب مسيحي في لبنان، وهو حزب التيار الوطني الحر المتحالف مع حزب الله، “إذا لم تنجح هذه الحكومة فنحن ذاهبون إلى كارثة أكبر”.

وأمهل ماكرون زعماء لبنان حتى نهاية شهر أكتوبر تشرين الأول لبدء تطبيق إصلاحات، قائلا إن المساعدات المالية ستحجب عن البلد وسيفرض عليه عقوبات إذا شكل الفساد عقبة في طريق الإصلاح. وذكر أن العقوبات المستهدفة يمكن فرضها في حالة ثبوت الفساد وأنه سيتم التنسيق مع الاتحاد الأوروبي، لكن هذا لن يكون على جدول أعمال أكتوبر تشرين الأول لأننا “في خضم عملية بناء ثقة وحوار متبادل”. بحسب رويترز.

وكان ماكرون قال في مقابلة مع صحيفة بوليتيكو أثناء توجهه إلى بيروت “إنها الفرصة الأخيرة لهذا النظام، مضيفا “أدرك أني دخلت مقامرة محفوفة بالمخاطر…أضع على الطاولة الشيء الوحيد الذي أملك: رأس مالي السياسي”. وأضاف أنه يريد من زعماء لبنان “التزامات موثوق بها” و”آلية متابعة دقيقة” وكذلك إجراء انتخابات تشريعية في غضون ستة إلى اثني عشر شهرا. وقال ماكرون لموقع بروت الإخباري إنه سيزور لبنان مرة أخرى في ديسمبر كانون الأول.

حزب الله وباريس

الى جانب ذلك أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن الحزب منفتح على مناقشة الاقتراح الفرنسي بشأن التوصل إلى “عقد سياسي جديد” في لبنان شرط أن يكون “بإرادة ورضا مختلف الفئات اللبنانية”. وتابع نصر الله: “سمعنا دعوة من الرئيس الفرنسي إلى عقد سياسي جديد”. مضيفا: “نحن منفتحون على أي نقاش هادف في هذا المجال لكن لدينا شرط أن يكون هذا النقاش وهذا الحوار اللبناني بإرادة ورضا مختلف الفئات اللبنانية”.

لكن نصر الله لم يتطرق إلى نوع التغييرات التي ينوي الحزب أخذها بالاعتبار، موضحا: “سمعنا في الأيام القليلة الماضية من مصادر رسمية فرنسية انتقادات حادة للنظام الطائفي في لبنان” الذي “لم يعد قادرا على حل مشاكل لبنان والاستجابة لحاجاته”. ويذكر أن في لبنان 18 طائفة، وتتوزع مقاعد البرلمان مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، في عرف فريد من نوعه في الدول العربية.

وعلى الرغم من ذلك، فشلت الحكومات المتتالية التي شُكلت في ظل النظام القائم في تلبية المطالب الشعبية لجهة تحسين الظروف المعيشية. وطالب ماكرون المسؤولين اللبنانيّين المتّهمين بالفساد والعجز، بـ”تغيير عميق” عبر “تحمّل مسؤوليّاتهم” و”إعادة تأسيس ميثاق جديد” مع الشعب لاستعادة ثقته. واعتبر ماكرون أن “القيود التي يفرضها النظام الطائفي” في لبنان، أدت “إلى وضع يكاد لا يوجد فيه أي تجديد سياسي وحيث يكاد يكون هناك استحالة لإجراء إصلاحات”.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/reports/24444

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M