رفيق خوري
لا مهرب من القراءة المتأخرة للتاريخ، ولو لم يكن الحدث بعيداً جداً، ولا مجال لتجاهل ما أضافته الوقائع إلى رؤيتنا لتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. فما حدث خلال 19 عاماً كان سلسلة معقدة من الصراعات الجيوسياسية، وأخطر ما في التفجير إلى جانب التراجيديا الإنسانية هو وقوعه في لحظة صدام أيديولوجي بين إرهاب ينتقل من “الأقلمة” إلى “العولمة”، وبين قوة عظمى تنتقل من مرحلة الثنائية القطبية إلى مرحلة الأحادية على قمة العالم.
يوم التفجير
والسؤال هو، أين أميركا وتنظيم “القاعدة” والشرق الأوسط والعالم اليوم مما كان عليه المشهد يوم التفجير وبعد الرد الأميركي عليه؟ إذا كان الإرهاب، في رأي البروفسور جوزف ناي، “مسألة مسرح والبحث عن جمهور، وما يقرر الصراع ليس من يربح جيشه بل من تربح روايته”، فمن ربح في أضخم إرهاب “مسرحي”؟ وإذا كانت التفجيرات في قراءة المحافظين الجدد “فرصة” لتنفيذ أيديولوجيتهم القائمة على استخدام قوة أميركا لتغيير العالم، فما هي نتيجة الاجتياح الأميركي لأفغانستان، وإسقاط نظام طالبان، وتشريد “القاعدة”، والغزو الأميركي للعراق وإسقاط دولته ونظامه، وسط دعوات في كتاب لأحد المحافظين الجدد إلى احتلال ستة بلدان عربية؟
“الحجر الأول”
في رواية “الحجر الأول” للدانماركي كارستن جنسن عن حرب أفغانستان ومشاركة قوات بلاده فيها إلى جانب أميركا ضمن تحالف دولي، حوار يبدو أكثر واقعية من الواقع، يقول أمير حرب أفغاني لقائد وحدة دانماركية “عندما تغادرون أفغانستان، فلن يكون ذلك لأنكم أطلقتم النار على آخر عضو في طالبان، بل لأن هناك 10 أضعاف طالبان مما كانوا عليه عشية جئتم لمحاربتهم”.
وفي رأي الجنرال ستانلي ماكريستال، وهو أهم قائد أميركي عمل في أفغانستان، أن النجاح لا يقاس بعدد من نقتلهم من طالبان، بل بعدد من نحميهم من “السكان”، وفي الواقع، فإن أميركا التي خسرت جنوداً وتريليونات الدولارات تعود بعد 19 عاماً إلى توقيع اتفاق مع طالبان والأشراف على محادثات بين طالبان وحكومة كابول، لضمان الانسحاب الكامل.
“هدية”
وهي تعرف أن “القاعدة” التي ضعفت بعد مصرع أسامة بن لادن في غارة أميركية تستعيد شبكاتها الإرهابية في سوريا والصومال واليمن والساحل الأفريقي، فضلاً عن أن غزو العراق كان “هدية” من السماء لإيران، التي مدت نفوذها فيه وأنشأت ميليشيات معترفاً بها حكومياً، تطلق الصواريخ على القوات الأميركية التي بدأت إعادة التموضع والانسحاب، لا بل إن اللعبة الإيرانية في العراق امتدت إلى اليمن وسوريا ولبنان، أما النفوذ الأميركي، فإنه ينحسر بمقدار ما تضعف صدقية أميركا والتزاماتها تجاه الأصدقاء، حتى تنظيم “داعش” الذي كانت الحرب عليه في العراق وسوريا عنوان النجاح في هزيمة “دولة الخلافة” جغرافياً، فإنه ظهر في أفغانستان نفسها، ويقوم بعمليات في سوريا والعراق وبلدان أخرى.
الجبهة “الفكرية”
المشكلة المستمرة في الحرب على الإرهاب هي التركيز بنجاح على الجبهات العسكرية والأمنية، والعجز عن الفوز في الجبهة “الفكرية” لأن القاعدة و”داعش” وكل تنظيمات الإسلام السياسي الإرهابية هي “فكرة” لا مجرد تنظيمات أمنية، “فكرة” تعتمد على تأويل خطير للأفكار وتشديد على ضيق “التفكير”، وتوسيع لاستعمال سلاح “التكفير”.
وأخطر ما حدث في المشهد العربي هو محاولات السطو على الانتفاضات الشعبية وثورات ما سمي “الربيع العربي” من جانب الإسلام السياسي الإرهابي بكل تنظيماته وفي طليعتها “حركة الإخوان المسلمين”، وما يزيد من الخطر هو الاندفاع الإيراني والتركي للهيمنة على المسرح العربي، لكن الفشل الشامل هو في معالجة القضايا الاجتماعية في المنطقة، قبل الحديث عن القضايا الوطنية والسياسية، فما يربحه طالبان هو خسارة لأفغانستان وشعبها، وإن كانت أميركا قادرة على التكيف مع خسارتها، وما تربحه طهران في العراق بعد الانسحاب الأميركي هو على حساب الوطنية العراقية التي يراهن عليها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لاستعادة العراق كوطن لشعبه فلا يبقى “ساحة” للصراعات.
في مخطوطة تركها الشاعر والوزير في حكومة كابول الشيوعية سليمان لايك الراحل أخيراً، اعتراف واضح بالفشل، إذ يقول “لا الأيدولوجيا الماركسية، ولا العسكرية الإسلامية، وجدتا حلاً للوضع الإقطاعي والقبلي الظالم في أفغانستان”، والمعركة الحقيقية الغائبة في صدام الأيديولوجيات والصراعات الجيوسياسية هي تحرير المجتمع.
رابط المصدر: