ماذا تحمل مرحلة حرق الجسور الجغرافية – السياسية؟

راغدة درغام
تعتقد القيادات الإيرانية أن إحراج الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر سلسلة انتقامات أو استفزازات سيكون في غير صالح إعادة انتخابه، وأنه سيضطر الى طأطأة الرأس خضوعاً لأنه لا يريد المجازفة قبل 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، موعد الانتخابات. الحسابات الإيرانية خاطئة وكذلك قراءة “الحرس الثوري” للمواقف الأميركية – والأوروبية أيضاً – في حال أطلق العمليات التي يتدارسها أما ليعبِّر عن الغضب العارم من اتفاقية السلام بين دولة الإمارات والبحرين وإسرائيل التي رعاها الرئيس الأميركي، أو ليثبّت قبضته القاضية على لبنان.
القمة الأوروبية المقبلة في 24 و25 الشهر الجاري قد تشهد بعض المدّ والجزر في شأن الاتفاقية النووية مع إيران، لكن القيادات الأوروبية ليست جاهزة لتبنّي التهوّر الإيراني أو لتدمِّر العلاقات مع الولايات المتحدة إكراماً لعيون “الحرس الثوري”. فالأولويات الأوروبية تصبُّ في التحديات الكبيرة التي تواجه علاقاتها مع روسيا والصين وتركيا. صحيح ان هناك مخاوف من انتقامات إيرانية، لكن هناك أيضاً إدراكاً لجدوى سلاح العقوبات الذي بدأت الدول الأوروبية باعتماده كجزء من استراتيجيّاتها بالذات نحو روسيا والصين كما استخدمته إدارة ترامب وتنوي مضاعفته في وجه إيران والدول التي تنوي بيعها السلاح بتاريخ 18 تشرين الأول (أكتوبر) بعدما تُعطّل روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي الجهود الأميركية لمنع تسليح إيران.
فالمحور الصيني – الروسي – الإيراني سيتلقّى عقوبات أميركية ثلاثية ضخمة. روسيا خائفة من عقوبات أوروبية ضدها تتصدّرها ألمانيا الشريك التقليدي الأهم لموسكو – وذلك بسبب استنتاج ألمانيا أن المعارض الكسي نافالني تم تسميمه عمداً. الصين قلقة من تداعيات رزمة العقوبات الأميركية على اقتصادها وشركاتها وتخشى مواقف أوروبية مماثلة آتية. وفي خضمّ كل هذا، تفيد المعلومات بأن هناك خطّة لشن حرب الكترونية عبر قراصنة Hackers من الصين وإيران بدعم من خبراء قرصنة من كوريا الشمالية وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية بهدف ثلاثي هو: الحاق الهزيمة بدونالد ترامب أوّلاً، خلق الفوضى في العملية الانتخابية ثانياً، وثالثاً، التحريض على نزاع جديد خطير بين الديموقراطيين والجمهوريين عنوانه الأساسي هو إضعاف الولايات المتحدة. لكل هذا تداعيات مرحليّة وبعيدة المدى على مختلف بقع العالم – والشرق الأوسط في مقدّمها بفضل المشاركة الإيرانية في مشروع القرصنة كما في مشاريعها الإقليمية.
بعض الدول الأوروبية يودّ التحرّك في القمة الأوروبية المقبلة لاستصدار قرار يدعم مجدّداً الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA كوسيلة من وسائل امتصاص الانتقام والغضب الإيراني المتوقّع لدى إطلاع طهران على حجم العقوبات الأميركية الآتية بعد 18 تشرين الأول (أكتوبر). وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لمّح الى امكانية العودة الى مجلس الأمن قبيل ذلك التاريخ – تاريخ نفاذ القرار الذي أرادت واشنطن تمديده والقاضي بالمضي بمنع تسليح إيران – حتى وإن كان التحرك الأميركي سيلاقي الفيتو الروسي والصيني. الهدف من ذلك هو إظهار سوء المواقف الروسية والصينية أمام الرأي العام الأميركي والأوروبي بما يعطي العقوبات الأميركية المقبلة صفةً مميّزة وقويّة تبيّن دعم موسكو وبكين للمغامرات الإيرانية النووية والصاروخية والإقليمية.
هذه العقوبات “ستُغلق كل ثغرة” تتمكّن من خلالها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووكلائها من التملّص من العقوبات، قالت مصادر مطّلعة وصفت العقوبات بأنها عبارة عن “قطع تام لصلة إيران” بالعالم.
الولايات المتحدة تُدرك أن الاستراتيجية البعيدة المدى نحو العلاقة الصينية – الإيرانية لم يحن بعدها اليوم. الآن، إن الأولويّة القاطعة هي للعقوبات. الهدف مستقبلاً سيكون وضع استراتيجية لفصل الصين عن إيران أو إيران عن الصين. هذه رؤية لاحقاً. اليوم هو يوم التكبيل التام لإيران وشركائها بحزمة عقوبات لا مثيل لها.
المشهد الانتخابي الأميركي يفيد بأن إيران ستكون الهدف الأول قُبيل الانتخابات بأسبوعين وقد تصبح الخبر الأكبر. سيكون مفيداً لإدارة ترامب أن تفشل في إقناع الصين وروسيا، بل وأوروبا المتردّدة بدعم منع مجلس الأمن لإيران من التسلّح بينما هي تتحدّى القيود على ترسانتها، وتوفّر السلاح الى “حزب الله” و”حماس”، وتُخوِّن الدول العربية التي توصّلت الى اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتتوعّد بالانتقام منها.
كل هذا يشكّل ذخيرة انتخابية لدى فريق ترامب علماً أن هناك شبه اجماع أميركي على عدم الموافقة على فتح الباب أمام تسليح إيران، وأن تحميل الصين وروسيا المسؤولية مادّة قويّة ومفيدة، إضافة الى وضع أوروبا في موقف صعب جداً وهي تترنّح بين التمسك بالاتفاقية النووية وبين عدم استعدادها لدخول معركة مع الولايات المتحدة من أجل إيران.
فريق ترامب واثق من أن إيران العدو الرقم واحد واثنين – الصين وإيران – في المناظرة مع المرشّح الديموقراطي جو بايدن، اضافة الى إنجاز اتفاقية السلام الخليجية – الإسرائيلية والى انتقاد الأداء الروسي، كلها ذخيرة ثمينة تُدمِّر بايدن لا سيّما في مناظرة وجهاً لوجه، يصرّ عليها ترامب، بحسب تقويم فريقه. فالصوت اليهودي مهم لأن إسرائيل مسألة محلية، والخوف من الصين الشيوعية عارم أميركياً، ولا يوجد تعاطف مع إيران اليوم كما كان الحال في زمن باراك أوباما لا سيّما إذا صعّدت طهران كما يتمنى “الحرس الثوري”.
أحد المصادر نقل عن أجواء “الحرس الثوري” أن اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل “صدمت” shocked القيادات الإيرانية أوّلاً لأنها لم تتوقّعها وثانياً لأن ردود الفعل العربية والإسلامية عليها تميّزت بالتقبّل لها، بل بالترحيب، بدلاً من فورة الشارع التي تراهن عليها السياسة الإيرانية. وهكذا خسرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العمق الاستراتيجي لسياساتها التي تعتمد على تخوين العرب في المعادلة مع إسرائيل وتحريض الشارع العربي تحت غطاء “المقاومة”. بقي لها “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزة ولذلك تفضَّل زعيم “حماس” اسماعيل هنيّة الى بيروت بدعوة من “حزب الله”، إنما ليس هناك قاعدة شعبية – لا إيرانية ولا عربية – وراء استخدام إيران لفلسطين خدمةً لغاياتها في اطار تهادنيتها التقليدية مع إسرائيل.
لن يكون القرار الإيراني سهلاً من الآن حتى الانتخابات الأميركية. جزء من القيادات يدعو الى التعقّل كي لا تُسيء إيران الحسابات، وجزء آخر يدفع الى المواجهة ويرى أن من المستحيل عدم الرد على اتفاقيَّتي السلام مع إسرائيل. وبحسب المصادر، سيُعقَد اجتماع مهم اليوم (الأحد) في طهران لبحث الإجراءات المتاحة للرد على اتفاقيَّتي السلام الإماراتية والبحرينية – والعين على الانتخابات الأميركية.
يفترض البعض في طهران أن جو بايدن سيُهرول الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA والى إنقاذ إيران من العقوبات. هذا البعض لا يفهم السياسة الأميركية، ذلك أن جو بايدن لن يتمكن – والأرجح انه لن يريد – من التغيير التلقائي في السياسات التي اعتمدها دونالد ترامب لا سيما أن جزءاً منها بات في خانة القوانين الأميركية. الصين وإيران تعتقدان أن إسقاط ترامب في الانتخابات سيؤدّي الى احتضان وعناق بايدن لهما تقديراً لخدماتهما، إنما هذا افتراض فيه سذاجة لأن الأرجح أن يستمر بايدن بسياسات ترامب بدلاً من إحياء سياسات أوباما ولن يتسرّع الى الثقة إما بالصين أو بإيران.
أوروبا أيضاً تراقب عن كثب الانتخابات الأميركية وهي منقسمة بين معسكر يفضّل ترامب وآخر بايدن وبين طرف يصرّ على التمسّك بالاتفاقية النووية JCPOA وآخر يُعرب عن طفح الكيل مع إيران ومغامراتها السورية وإصرارها على قطع الطريق أمام تعافي العراق ولبنان. لذلك أنّ أوروبا اليوم مضطرّة أن تواجه نفسها أثناء القمة المقبلة لا سيما أن هذه من أهم قممها على الإطلاق لجهة العلاقات الأوروبية – الروسية التي تُقلق موسكو كثيراً، وليس فقط الصين وتركيا وليبيا وإيران.
الروس يسمّون هذه القمة برئاسة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي أعطت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة الاعتراف بالتسمّم وإلا العقوبات وتعليق مشاريع ضخمة على نسق أنابيب نورد ستريم للغاز، يسمونها “قمة حرق الجسور” Burning Bridges Summit. بوتين غاضب من ميركل ويرفض الاتصال بها (حتى الآن) لأنها زجّته في زاوية مستحيلة، وهو أيضاً مستاء من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن إلغاء مشاورات 2+2 التي تُقام بين البلدين على مستوى وزيرَي الخارجية والدفاع. بوتين كان يعتمد على ماكرون – بالرغم من تصنيف روسيا لفرنسا في خانة “اللاعب الثانوي” – مفترضاً أنه لن يواجهه في مسألة الكسي نافالني، لكنه فعل، فسخط بوتين إنما مشكلته الكبرى تبقى ألمانيا ووزنها ونفوذها في القمة الأوروبية المقبلة.
المتوقع أثناء هذه القمّة ان تُبادر أوروبا الى فرض عقوبات على روسيا، تتبعها في ذلك الولايات المتحدة، وهذا تطوّر فائق الخطورة على روسيا ينطوي على تحوّل جذري في المعادلات الجغرافية – السياسية. من المتوقّع أيضاً بحث القمة في عقوبات على تركيا، استمرار التوتر والعقوبات مع الصين، وفرض عقوبات شخصية على بيلوروسيا.
مشكلة الكرملين هي في اللكمة الجغرافية – السياسية للهيبة الروسية، وانحراف العلاقات مع ألمانيا، والقلق من اضطرار إدارة ترامب الى الالتحاق بقطار العقوبات الأوروبية.
مشكلة إيران أن القمة الأوروبية لن تلبّيها كما تريد مهما تخوّفت أوروبا من أن تؤدّي العقوبات المتزايدة على إيران وعزلها كاملاً الى انتقامات إيرانية مباشرة في الخليج وعبر أدواتها ضد إسرائيل وفي عمليات تخريبية في أوروبا.
فأوروبا تراقب أفعال إيران في لبنان، كمثال، وهي تترقّب ما ستسفر عنه المبادرة الفرنسية، وهكذا قد تبحث القمّة الأوروبية ملف لبنان وتتخذ إجراءات ليست مُدرجة الآن على جدول أعمالها. فلقد فضحت الطبقة السياسية المُتحكّمة بلبنان نفسها أكثر فأكثر وباتت عارية أخلاقياً في نظر القيادات العالمية كلها.
أثناء الحلقة الافتراضية الأولى من الموسم الثاني لقمة بيروت انستيتوت في أبو ظبي والتي تم تكريسها تحية لبيروت بعد كارثة تفجير مرفأها، (https://m.youtube.com/watch?t=129s&v=S9lGWLdVLZw) أجمع ضيوف الحلقة على أن فساد الحكم فيه هو مصدر انهياره. المفوّضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت دعت الى وضع حقوق الإنسان “في قلب الاستجابة القصيرة المدى والتعافي الطويل المدى” للبنان، والى “مؤسسية لمعالجة مظالم الشعب”.
رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيتر ماورير حمَّل مسؤولية تفاقم الوضع الى “الضعف البُنيوي في الحكم الرشيد” والى “الإهمال الاستراتيجي للبنان والشعب اللبناني”، مع التركيز على “ديناميكية النزاعات في الدول المجاورة… وليس في وطأتها على لبنان”. البارونيس فاليري آموس، رئيسة الكلية في جامعة أوكسفورد تحدّثت عن مساهمة “الإيديولوجية” واستفحال “عدم الكفاءة” في تدهور لبنان وتخوّفت من أن وضع “لبنان قد يزداد سوءاً قبل أن يتعافى”. أما فريد بلحاج نائب الرئيس لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي فإنه أكد أنه “لم تكن هناك رغبة كافية من جانب الحكومة للتوصّل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي” ووصف لبنان بأنه يعاني من أزمة “ذاتية” حيث “لا توجد حكومة ولا توجد مساءلة”.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M