اتفاق إبراهيم- الدوافع المشتركة والتداعيات على القضية الفلسطينية

يمان دابقي


مقدمة

بعد مُضي أكثر من ربع قرن على اتفاق السلام الذي أبرمته الأردن مع إسرائيل عام 1994م لأسباب شُرحت وقتها باعتبارها تتّعلّق بـ “تحقيق سلام عادل وشامل”، اتجهت مؤخرًا دولٌ عربية ولا سيما خليجية إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل علمًا أنها لم تكن في حالة حرب معها. ثم لأسباب داخلية وخارجية سارعت هذه الدول إلى إضفاء شرعية لعلاقاتها مع إسرائيل من أجل “حماية أمنها القومي وتكريس دورها الإقليمي في المنطقة” حتى لو كان ذلك على حساب كسر الإجماع العربي لحل عادل للقضية الفلسطينية وفقَ مبادرة السلام العربية التي قدّمت عام 2002م.

في 13 آب/ أغسطس 2020، أعلن البيت الأبيض أن الإمارات العربية وإسرائيل اتفقتا على تطبيع كامل للعلاقات بينهما، وفي تغريدة على تويتر نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نص البيان المشترك للاتفاق الذي وصفه “بالتاريخي”.[1] وبعد أقل من شهر لحِقَت البحرين بمسار التطبيع، ثم حضرت في ١٥ أيلول/سبتمبر مراسيم توقيع الاتفاق عبر وزير خارجيتها، عبد الله الزياني إلى جانب وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والراعي الرسمي للاتفاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وكان لافتًا أنَّ “حفل اتفاق السلام” قد سُوق له على أنه “مراسم” ضرورية وفقًا للأعراف الدبلوماسية الغربية، لأنه يشكل نهاية لمرحلة وبداية لأخرى[2]، إضافة إلى ادعاء البعض أنه اختراق دبلوماسي يهدف إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وصولًا إلى فرضية السلام الإقليمي، التي روجّت لها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر في سلسلة زيارات قام بها إلى المنطقة العربية قُبيّل الإفصاح عن “صفقة القرن”[3] في يناير/ كانون الثاني 2020.

لكن ذلك لم يمنع من قراءة حقيقة المشهد على أنه استعراض دعائي رُتّب له بعناية خاصة بُغية استثماره سياسيًا قبل موعد الانتخابات الأمريكية من جهة وحرف الأنظار عن أزمات الداخلين الأمريكي الإسرائيلي من جهة أخرى لا سيما بعد سوء إداري في التعاطي مع أزمة وباء كوفيد- 19، كذلك حاولت أطراف الاتفاق من وراء الهالة الإعلامية توجيه رسائل داخلية وخارجية تخص الشعب الفلسطيني ولكامل المنطقة العربية بطبيعة الحال.

شكّل الحدث الراهن انقساماً واضحًا في العالم العربي والإسلامي وأفرز ردود أفعال متباينة بين دول أيّدت مسار التطبيع كمصر والبحرين والسودان، وبين رافض لها كتركيا وقطر، والسلطة الفلسطينية التي اعتبرتها بمثابة خيانة عظمى[4]، فيما حمل الاتفاق ذاته عدة أوجه وظهرت العديد من التأويلات والروايات التي تحدّثت عن دوافع وأسباب كل طرف في الإقدام على التطبيع.

لكن الموقف الرسمي الظاهري الذي أفصح عنه كل من نتنياهو ودونالد ترامب من وراء وصولهما لهذا الاتفاق يندرج ضمن فرضيتين اثنتين، الأولى: قولهما أنَّ الاتفاق الهادف إلى سلام إقليمي يستند إلى تشكيل تحالف استراتيجي تشترك فيه إسرائيل ودول عربية لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة باعتبارها عدوًا تاريخيًا مشتركًا لكل الأطراف حسب زعمهم، إضافة إلى إنعاش المنطقة بمشاريع استثمارية واقتصادية متبادلة، أما الفرضية الثانية: فتتعلّق بأنّ ما جرى هو مدخل إلى الحل الأنسب للصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي.

بناءً عليه نُناقش في هذه الورقة خلفيات الاتفاق ودوافعه والفرضيات الثنائية التي استند إليها دُعاة التطبيع محاولين ترجيح الفرضية الأقرب للواقع، إلى جانب الأثر والتداعيات على القضية الفلسطينية.

أولًا: اتفاق إبراهيم المضامين والخلفيات

حسب نص “الاتفاق”[5] فقد شدّد على موافقة الأطراف على تطبيع كامل للعلاقات مقابل توقف إسرائيل عن قرار ضم الأغوار الفلسطينية. علمًا أن نتنياهو صرح بعد ساعة من إعلان الاتفاق أنه سيبقى ملتزمًا بخطة الضم وما جرى هو تعليق مؤقت استجابة منه لطلب الرئيس الأمريكي على حد زعمه،[6] كذلك ينص الاتفاق على البدء خلال أسابيع بتوقيع اتفاقيات ثنائية في مجالات الاستثمار والسياحة والتكنولوجيا والطاقة والزراعة والصناعة والأمن والاتصالات والرعاية الصحية والثقافة والبيئة وتبادل السفارات، والإسراع في توسيع التعاون فيما يتعلق بعلاج لفيروس كوفيد- 19 وتطوير لقاح له.

يُضاف إلى ذلك وبحسب رؤية السلام التي طرحها دونالد ترامب، أنه سيكون بمقدور المسلمين زيارة المسجد الأقصى عبر رحلات مباشرة من أبو ظبي إلى تل أبيب لأداء الصلاة وزيارة الأماكن المقدسة، وتتعّهد كامل الأطراف بالالتزام بما تمَّ التوقيع عليه وفتح صفحة جديدة من العلاقات بما يتناسب مع المصالح المشتركة، مع ترك الباب مفتوحًا لانضمام دول أخرى وتوسعة التحالف، لا سيما أن مؤشرات عديدة ظهرت عن انضمام دول أخرى تلبية لـطموح إسرائيل التي تضع عينها في نهاية المطاف على المملكة العربية السعودية، خصيصًا بعدما فتحت الأخيرة أجواءها للطائرات الإسرائيلية في أول رحلة علنية شهدتها المنطقة، كما أن صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر أكد في إحدى تصريحاته “أن تطبيع المملكة العربية السعودية مع إسرائيل أمرٌ حتمي”.[7]

ما تمَّ التوصّل إليه لا يُشكل مفاجأة بالنظر للخلفيات التي سبقت الواقعة في مسار التطبيع وتاريخ العلاقات السرية التي جمعت إسرائيل مع بعض الدول العربية والخليجية، بالتالي ما جرى لا يعدو في جوهره أكثر من تتويج للعلاقات الوثيقة التي جمعتهم على أكثر من صعيد أهمها الأمني والتجاري والثقافي،[8] وكون الحديث يخص دولة الإمارات مع إسرائيل فإن الشكل التالي يوضح بعض المحطات بين البلدين في أكثر من مجال.

ويبدو من خلال الوضع القائم أنه مغاير تمامًا للتصورات السابقة التي كانت تتمسّك بها الدول العربية بما يخص مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل وربطها بموضوع حل القضية الفلسطينية، فمنذ اتفاق أوسلو 1993، وما تلاه من اتفاق وادي عربة مع الأردن وصولًا لمبادرة السلام العربية 2002، وإسرائيل لاتزال تتجاهل كامل الشروط والالتزامات التي تعهّدت بها، كانسحابها من حدود أراضي حزيران/ يونيو 1967. بل زادت من ممارستها وغطرستها في تكريس الاستيطان وشن حروب على قطاع غزة بهدف فرض معادلة الاستسلام.

بالتالي إن كان هناك ما يدعو للضغط عليها وإحراجها من خلال الالتفاف العربي والتمسك بمبادرة السلام التي تضمن حدودًا دنيا لحقوق الفلسطينيين، بدأت تنهار مع فهم إسرائيل أن مسار التطبيع سيمنعها من تقديم أي تنازل، وهو بالضبط ما صرّح به نتنياهو عقب الإعلان عن الاتفاق بقوله: “إن إسرائيل لم تضطر لتقديم أي تنازل مقابل اختراق سياسي في المنطقة”.[9] في المقابل وصف مراقبون خطوة الإمارات بالبراغماتية ورأوا أنها لا تمت بصلة لحل القضية الفلسطينية وذلك لأنها قايضت مبادرة السلام بذريعة وقف ضم الأغوار  والتي توقفت لاعتبارات داخلية خاصة بنتنياهو.

ولعل الجرأة التي ظهر فيها نتنياهو عبر احتفائه بما وصفه اتفاق سلام تاريخي تعود إلى سلسلة أحداث كانت رافعة ومُمهدة لاتفاق إبراهيم بدأت منذ تَرأَسَ دونالد ترامب القمة الإسلامية في الرياض عام 2017،[10] حيث بدأ حينها بالترويج لخطته التي جعل أحد دعائمها انخراط الدول العربية في عملية سلام مع إسرائيل، كذلك ساهمت جولات صهره جاريد كوشنر في العامين 2018- 2019 للمنطقة العربية وحضوره ورشة المنامة الاقتصادية في البحرين إحدى أهم المحطات في ترويج صفقة القرن وتشجيع الدول العربية على التنسيق والتعاون مع إسرائيل،[11] علاوة على ذلك يعتبر مؤتمر وارسو الذي عقد في دورته الأخيرة لعام 2019، أحد أهم النوافذ التي ساهمت في دفع الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل مقابل تشكيل تحالف إقليمي لتأمين أمن الملاحة البحرية ومواجهة مُهددات إيران في المنطقة،[12] وكل ذلك حدث على حساب تراجع القضية الفلسطينية في أجندات الدول العربية التي تقاربت مع إدارة ترامب وبنيامين نتنياهو لاعتبارات براغماتية، ومن هنا يُعد اتفاق ابراهيم تتويجًا لمسيرة علاقات وليس حدثًا مفاجئًا.

لكن الإفصاح عن هذه العلاقات والإشهار بها للعلن في هذا التوقيت هو الجديد الذي يدفع للبحث عن الأسباب والدوافع الرئيسية، إذ تشير التطورات في المنطقة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية إلى وجود اعتبارات ضاغطة ومصالح مشتركة دفعت الأطراف المُطّبعة للإعلان عن الخطوة الجديدة والتي ستكون على حساب ركائز ومبادئ القضية الفلسطينية.

ثانيًا: الدوافع ودلالات التوقيت

الاتفاق جاء في توقيت مناسب بالنسبة للقادة الثلاثة، فعبر النظر إلى السياق العام لمنطقة الشرق الأوسط نراها تشهد كمّ أزمات وصراعات متنامية على أكثر من جهة، وصولًا للتنافس المفتوح في منطقة شرق حوض المتوسط، وهو ما يدفع اهتمام بعض الدول العربية وخاصةً الخليجية منها، لإحداث تغيير في توجهاتها لا سيما الخارجية حرصًا على حماية أمنها القومي وتعزيز دورها الإقليمي في المنطقة.

1_ تلاقي المصالح (ترامب- نتنياهو)

تتوّحد الرؤى بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب في منطقة الشرق الأوسط بهدف نزع مكاسب سياسية تعود عليهما بالنفع المتبادل فالرئيس الأمريكي مُقبل على انتخابات صعبة وحاسمة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وتُشير استطلاعات الرأي الأخيرة[13] إلى أنه متأخر عن منافسه الديمقراطي جوبايدن، بسبب فشله في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي على وقع انتشار وباء كوفيد- 19، وسوء تعامله مع موجة الاحتجاجات التي انطلقت في مايو/ أيار 2020.

يطمح الرئيس الأمريكي أن تُساهم واسطته في تحقيق اتفاق سلام بين دول عربية مع إسرائيل إلى حصد أصوات انتخابية في القاعدة الإنجيلية داخل أمريكا والتي تُضمر تأييدها وولاءها لليمين في إسرائيل، وربما يُحاول ترامب أن يُقدّم لهم هذا الإنجاز كأداة تنفيس عن غضبهم في ملف ضم الأغوار بعدما تم تعليقه مؤقتًا. كذلك يوجد هدف استراتيجي يسعى إلى تحقيقه من وراء اتفاقيات السلام وهو تملصه من التزاماته الأمنية تجاه حلفائه العرب في منطقة الخليج العربي بعدما نفَّد عمليات انسحاب متكررة وإعادة انتشار للقوات الأمريكية من أفغانستان والعراق وشرق سورية.[14]

ويُفسر هذا التكتيك من قبل ترامب على أنه تنفيذ لوعد انتخابي أطلقه قبل وصوله لسدة الحكم في البيت الأبيض، ويدخل ضمن استراتيجية مُتكاملة تقوم على تنفيذ عملية انكماش أمريكي من منطقة الشرق الأوسط وتوجيهها نحو احتواء نفوذ روسيا والصين في جنوب شرق آسيا وشرق أوروبا، ومن هنا يعتقد ترامب أن اتفاق حليفين مهمين (الإمارات – إسرائيل) على التعاون المشترك سيخدم هدفه في تحقيق تحالف إقليمي يُخفف عنه التزاماته الأمنية أمام حلفائه في المنطقة.

بالنسبة لنتنياهو فإنّ أولى ثمرات الاتفاق هو حصوله على طوق نجاة بعد عجزه عن تطبيق قرار الضم واستشعاره بأن تنفيذه سُيسبب موجة غضب عارمة قد تُطيح بخطة الرئيس ترامب (صفقة القرن)، يُعزز ذلك ما صدر عن السفير الإماراتي في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، حيث نشر مقالاً 12 حزيران/ يوليو الماضي في صحيفة يديعوت أحرنوت تحت عنوان “الضمّ والتطبيع”[15] الذي شدد فيه على أهمية جهود السلام ومنع انهيارها في حال أصرّ نتنياهو على تنفيذ إجراءات الضم الأحادية لأراضٍ من الضفة الغربية، وقد فُهم من المقال على أنه رسالة تحذير لرئيس الوزراء الإسرائيلي مفادها لفت انتباهه على أهمية جهود السلام بهدف جعلها أولوية عليا على الأقل في هذا التوقيت الذي يُعد فرصة سانحة يمكن استغلالها في تحريك مسار التطبيع العربي مع إسرائيل.

2_ دوافع الإمارات ونفي ادعاءات العدو المشترك (إيران)

وفقًا للمُوقعّين على اتفاق إبراهيم فإنّ أحد أهم أسبابه أنه جاء لمواجهة نفوذ إيران الإقليمي، لكن هذا الادعاء لا ينطبق عمليًا مع ما يجري من أحداث في المنطقة، وحتى تاريخيًا يتناقض الاتفاق معه إذا ما أعدنا النظر في طبيعة العلاقات التاريخية التي تجمع كل أطراف اتفاق إبراهيم مع إيران.

ففي كتاب صدر حديثًا لوزير الخارجية البريطاني الأسبق جاك سترو بعنوان “الوظيفة البريطانية”[16] أشار فيه الكاتب إلى عدة حقائق موثقة ومعلومات وشهادات مخابراتية ذات أهمية كبيرة حول عمق العلاقات الإسرائيلية الإيرانية في مختلف الميادين. ومن ضمن أهم الحقائق والمعلومات التي كشف عنها حول تزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة خلال الحرب العراقية الإيرانية والتي أفصحت عن تعاون استخباراتي وثيق ومتواصل حتى وقتنا الراهن.

واستشهد الكاتب ببعض شهادات مسؤولين إسرائيليين عن طبيعة العلاقة بين إسرائيل وإيران إذ قالوا: إن الهدف الاستراتيجي لطهران ليس تدمير إسرائيل، وإن النقاش يجب أن يدور مع الإيرانيين حول كيفية دمجهم في منظومة الأمن الإقليمية دون التعرض لإسرائيل. وقد كان من بين تلك الشهادات شهادة لوزير خارجية إسرائيلي أسبق “شلومو بن عامي”، حيث قال حينها حسب رواية الكاتب البريطاني ” السؤال المطروح اليوم ليس حول تحديد متى ستصبح إيران قوة نووية وإنما حول كيفية دمجها في سياسة الاستقرار الإقليمي قبل أن تمتلك تلك القوة”.[17]

وكتأكيد على متانة العلاقة التاريخية بين إسرائيل وإيران ذكر “تريتا بارسي” في كتابه “التحالف الغادر”[18] إن إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل، ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي وثقت حقائق مهمة عن التعاون السري بين الطرفين.

وفيما يخص الواقع الراهن فلا شك إن المنطقة تحوي الكثير من الشواهد والحقائق التي تكشف عن التنسيق الأمريكي الإسرائيلي الإيراني في المنطقة، إذ إن تدمير البلاد العربية وانفتاح إيران عليها كسوريا ولبنان والعراق واليمن، لم يتم دون تنسيق غربي معها، أما الخلاف الحالي فيتمحور حول تباين مواقف الحلفاء بموضوع تمركز أذرع إيران في المنطقة مع فصل تام عن أي نوايا غربية في إسقاط النظام في طهران.

وبالنسبة للإمارات وعلى الرغم من العداء التاريخي وارتفاع حدة الخصومة مع إيران إلا أنه توجد عدة مؤشرات تُفضي إلى رغبة الطرفين في احتواء التنافس وتجنب المواجهة في المنطقة كما في الشكل:

وبناءً على ما ذُكر يبدو أن للإمارات دوافع خاصة من جراء إقدامها على خطوة التطبيع وهي غير مرتبطة بمخاطر إيران في المنطقة، وبعيدة عن القضية الفلسطينية وقد تكون كما يلي:

  • تفتح الاتفاقية أمام الإمارات شراء أسلحة وتقنيات متطورة ومعدات عسكرية كانت الولايات المتحدة تشترط حصول أي دولة عربية عليها بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل.[19]
  • تهدف الإمارات لتحسين صورتها داخل الولايات المتحدة سيما بعد الاتهامات الموجهة ضدها في حرب اليمن، إذ إنّ هناك خشية إماراتية أنه في حال خسر ترامب في الانتخابات المقبلة أن يحدث انقلاب في التوجهات الأمريكية ضد طموح وسلوك أبوظبي الإقليمي.[20]
  • هناك خشية إماراتية أيضا من أن ترامب حتى لو ربح ولاية ثانية أن يستمر في الإخلال بوعوده الأمنية مع حلفائه الخليجين بناءً على تطبيقه سياسة فك الارتباط الاستراتيجي عن الشرق الأوسط، وقد كان عام 2019 عام اختبار للسياسة الأمريكية في بحر العرب، آنذاك حدث شبه تخلي من قبل إدارة ترامب عن توفير الحماية للأمن القومي الخليجي، لذا فإن الإمارات ومن خلال خطوة التطبيع الرسمي مع إسرائيل تعتقد أنها ستكون في مأمن عن أي تداعيات مستقبلية في المنطقة.
  • تسعى الإمارات إلى لعب وتعزيز دورها الإقليمي في المنطقة بشكل يجعلها فاعل أساسي في إعادة تركيب الجغرافية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط بما يتناسب مع أهدافها الجيوسياسية، لذا من غير المُرجح أن تتراجع عن سلوكها الذي تبنتّه منذ انطلاق احتجاجات ما بات يُعرف بالربيع العربي 2011. [21]

ثالثًا: المكاسب المشتركة

تنحصر جملة المكاسب المشتركة في عدة اتجاهات وتصب معظمها في صالح إسرائيل، فعدا عن توظيف هذا الاتفاق لأغراض داخلية تخص حسابات ببنيامين نتنياهو، فإن إسرائيل تكون ولأول مرة حققت مكاسب دون تقديم تنازلات، على عكس ما جرى خلال إقدامها على توقيع اتفاق سلام مع مصر 1979، والذي ترّتب عليه انسحابها من سيناء، ومع الأردن 1994، تنازلت بموجبه عن بعض المناطق الحدودية معها وفي مناطق الضفة الغربية.

أما في هذا الاتفاق فقد نجحت دون مقابل في كسر وتجاوز الإجماع العربي على مبادرة السلام 2002، وفرض مزيد من العزلة على الفلسطينيين، وحتى تأجيل قرار الضم لوقت آخر يصب في مصلحة نتنياهو، إذ يكون بذلك قد وجد وسيلة لنزع فتيل الخلاف الذي نشأ مع شركائه في السلطة غانتس وغابي أشكناري.[22]

على صعيد التوجهات الخارجية والإقليمية فإنّ إسرائيل ومن خلال عقد اتفاق السلام مع الإمارات والبحرين تكون قد تقدمت خطوة نحو الأمام في تكريس ادعاء نظرية غير صحيحة وهي اقتسام العداء الإيراني، وتُعول إسرائيل في ذلك على انضمام دول عربية أخرى لركب التطبيع في المستقبل، كما لا تغيب المصالح الإسرائيلية التجارية والاقتصادية من بين ثنايا الاتفاق، بشكل ممكن أن يُسهم في إنعاش الداخل الإسرائيلي ويُنقذه من التداعيات السلبية التي سببتها جائحة كوفيد-19.

وبالنسبة لإدارة الرئيس دونالد ترامب فهي تشترك مع نتنياهو بحزمة من الأهداف متعلقة أولًا بمحاولة الإدارة الأمريكية إحياء رؤيتها للسلام الفلسطيني الإسرائيلي بموجب مسار صفقة القرن، والتي كانت متعثرة أثناء مرحلة الانتخابات الإسرائيلية في منتصف 2019، وفي يونيو/ حزيران 2019، أقرّ المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط جيسون غري نبلات أن الصفقة تأجلت بسبب الدعوة لانتخابات مبكرة في إسرائيل.[23]

أما الهدف الثاني والذي تشترك فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب مع إسرائيل هو الدفع أكثر نحو حشد تحالفات أمنية في المنطقة بشكل يسمح لها تخفيف التزاماتها الأمنية امام حلفاؤها والتفرّغ نحو مواجهة تحجيم نفوذ روسيا والصين، ولعّل هذا ما يُفسر ادعاء ترامب في أكثر من مناسبة أن تنامي نفوذ إيران الإقليمي أصبح مصدر فوضى وإرهاب. على صعيد الداخل لا تغيب عن ترامب كما نتنياهو استثمار الاتفاق كورقة انتخابية كنوع من التغطية عن أزمات الداخل بعد تردي الاقتصاد واستمرار تفشي وباء كوفيد -19، وصعود موجة الاحتجاجات.

أما الإمارات من المُرجّح أن أحد أهم أهدافها هو حصولها على حليف إقليمي قوي يمكن الاعتماد عليه في حال لم تفٍ الولايات المتحدة بالتزاماتها الأمنية، إلى جانب مكاسب أخرى تشترك فيها مع اسرائيل على صعيد دورها التجاري والاقتصادي والإقليمي في المنطقة.

رابعًا: الأثر على القضية الفلسطينية

يشعر الفلسطينيون بتواتر الطعنات والنكسات على قضيتهم وحقوقهم من كل جانب، فعبر عقود مضت ورغم كل العلاقات الخلفية التي جمعت بعض الدول العربية مع إسرائيل، لم يحدث في سلم التخلي العربي والتنازلات عن مبادئ القضية الفلسطينية كما هو راهن اليوم. ويمكن تتّبع أثر الحدث الإقليمي في اتفاق إبراهيم على القضية من خلال اتجاهين اثنين، الأول: من خلال مكاسب إسرائيل من الاتفاق المرتبط بحل الصراع مع فلسطين، والثاني: من خلال مواقف أطراف السلطة الفلسطينية وردودها من الاتفاق.

جاءت المواقف الفلسطينية الرافضة لـاتفاق السلام المزعوم شديدة اللهجة، فرئيس السلطة محمود عباس نعَته بالخيانة، مضيفًا أنه لا يوجد أي سلام بدون إنهاء ما سماه الاحتلال الإسرائيلي، واعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة على حدود 1967. في حين اعتبر صائب عريقات أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية أن ما جرى هو توقيع على صفقة القرن وإقرار الأطراف العربية المُوقعة بسيادة إسرائيل على المسجد الأقصى. أما بقية الأطراف وموقف الشعب الفلسطيني فقد اعتبروا أن ما جرى طعنة في الظهر وانقلاب على مبادرة السلام العربية.[24]

وتعكس موجة الغضب في المواقف الفلسطينية عن وعي جمعي لحقيقة الاتفاق على أنه جاء لتصفية ما تبقى من القضية ونسف مبدأ حل الدولتين ومبادئ حق العودة والسيادة، ويتضح ذلك من بنود الاتفاق ذاته الذي خلا من أي إشارة لقضية فلسطين، وهذا بحد ذاته كاف لتفسير ما يجري في الساحة الدولية على أنه استمرار توظيف عربي وغربي للقضية الفلسطينية.

وعطفًا على ذلك فإن الدوافع والمكاسب الإسرائيلية في اتفاق إبراهيم تُلقي بظلالها مباشرة على القضية الفلسطينية وتُنذر بكارثة مستقبلية في حال عدم تغيير المعطيات وإعادة توجيهها بالشكل الصحيح، وتبدو المساعي الإسرائيلية بالتعاون مع الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية أشد خطورة عبر النظر بالمساعي التالية:

  • رغم وجود تباين واضح في اتفاق إبراهيم حول تفسير الأطراف لموضوع قرار الضم الإسرائيلي بين إيقاف وتعليق أو تأجيل، مع ذلك يبقى نتنياهو متمسكًا بقرار الضم وقضم المزيد من مساحة الضفة الفلسطينية عاجلًا أم أجلاً.
  • هناك سعي دؤوب ومتواصل في اقتحام المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى خاصة بعد حسم موضوع القدس كعاصمة دائمة لإسرائيل بعد اعتراف ترامب، وبالتالي سيبقى هناك جهد دائم في استمرار سياسة التهويد.
  • تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وتفريغها من كامل المبادرات والشروط والالتزامات على إسرائيل، بما فيه نسف مبدأ حل الدولتين، ومعنى ذلك أن إسرائيل ترغب في نهاية المطاف سواء من نافذة إبراهيم أو غيره إلى فرض معادلة استسلام على الشعب الفلسطيني ووضعه في خانة مُنفّذ لشروط وإملاءات إسرائيلية أصبحت واضحة من خلال تبني رؤية ترامب للسلام ووضعه كمرجعية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.[25]
  • تبنّي “السلام مقابل السلام” كبديل عن السلام مقابل الأرض يعد قفزًا على كامل القرارات الدولية منذ 1967، وتخلي الدول العربية المُطبعة عن التزاماتها، وهذه سابقة تاريخية خطيرة على حقوق الشعب الفلسطينية.[26]

خاتمة

انطلاقًا من هذه المساعي لا شك أن اتفاق إبراهيم سيُضعف الموقف الفلسطيني في أكثر من اتجاه سواء على صعيد العمل السياسي وحتى الشعبي، فاستمرار الانقسامات في الموقف العربي وتنامي الصراعات قد يدفع العديد من الدول إلى اللحاق بركب التطبيع، مما يُسهم في تعزيز الادعاء الإسرائيلي الأمريكي بإمكانية تحقيق السلام الإقليمي دون إيجاد حل عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وربما هذا أخطر ما في الاتفاق المزعوم.

وبعد تفنيد الاتفاق وتسليط الضوء على دوافع الأطراف ومصالحهم المشتركة فإن أهم ما خلص له البحث أن الاتفاق الذي جاء في سياق جغرافي عربي مشتعل في الشرق الأوسط هو محاولة توظيف واستثمار لأهداف براغماتية خاصة بالأطراف الموقعة على نحو غير مرتبط بالقضية الفلسطينية، بل جاء على حسابها وتصفير رصيدها التاريخي والبطولي لأصحاب الأرض الرئيسيين.

ثانيًا: الاتفاق رُوّج له خصيصًا من قبل نتنياهو ودونالد ترامب على أنه بداية لتحقيق سلام إقليمي وإنهاء مُهددات إيران، وهذا غير صحيح فقد تم نفي هذا الادعاء عبر إثبات العلاقات التاريخية والتعاون الأمني بين إسرائيل وأمريكا وإيران من طرف، ورغبة إماراتية إيرانية في احتواء التصعيد والحفاظ على العلاقات المشتركة من طرف آخر.

ثالثًا: الاتفاق لا يستند إلا لمرجعية واضحة هي تبني رؤية ترامب للسلام التي كشف عنها ضمن ما بات يُعرف صفقة القرن منذ وصوله للسلطة، وقد ألمح إليها بعد ترؤسه القمة الإسلامية في الرياض 2017، وبعدها بشكل رسمي في مطلع يناير/ كانون الثاني 2020، وهو ما يعني نسف كامل المبادرات العربية للسلام والقفز على القوانين الدولية.

رابعًا: البعد الاستراتيجي من وراء الاتفاق هو استفراد بعض الدول بإعادة تركيب الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية ورؤيتها للمنطقة وهذا ما يدفع تسابق بعض الدول للتطبيع مع إسرائيل.

 

[1] https://bit.ly/3mCEgd3

الأناضول، ترامب يسمي التطبيع بين إسرائيل والإمارات بـ “الاتفاق الإبراهيمي”، ن- 13-8-2020.

[2] https://bit.ly/32TGEVb

ساسة بوست، حول دلالات الاحتفال باتفاقيات التطبيع الخليجي في البيت الأبيض، ن- 15- سبتمبر- 2020.

https://bit.ly/2ZXRYh3

[3] برق للسياسات، حقيقة صفقة القرن، ن- 14- سبتمبر- 2018.

[4] https://bit.ly/33JBb2l

أمد للإعلام، ردود فعل واسعة على اتفاق الإمارات مع إسرائيل وترامب يسميه “اتفاق إبراهيم”، ن- 13-8-2020.

[5] https://bit.ly/3mDIvVR

المركز العربي الديمقراطي، التطبيع الإماراتي الإسرائيلي … أهم بنود الاتفاق، ن- 15- أغسطس- 2020.

[6] https://bit.ly/367BI0X

القدس العربي، نتنياهو يدحض ذرائع الإمارات: خطة “الضم” لم تتغير، ن- 13- أغسطس- 2020.

[7] https://bit.ly/3mDwNdK

الأناضول، كوشنر: تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية أمر حتمي، ن- 15- 8- 2020.

[8] https://bit.ly/2ZWZmJw

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التطبيع العربي مع إسرائيل: مظاهره، ودوافعه، ن- 12- يونيو- 2020.

[9] https://bit.ly/32Mv6Tu

روسيا اليوم، نتنياهو: أنا لم أتنازل عن قضية الضم، ن- 13-8- 2020.

[10] https://cnn.it/3hJbaFi

CNN، خطاب ترامب في القمة العربية الإسلامية الأمريكية (النص الكامل) ، ن- 22- مايو- 2017.

[11] https://bit.ly/2FEtDWI

برق للسياسات، المشهد البحريني: ورشة البحرين: الطريق إلى تسويات كوشنر، ن- 8- يوليو- 2019.

[12] http://bit.ly/2YITSir

برق للسياسات، تفاعلات الدول الإقليمية في مؤتمرات وارسو وميونخ، ن- 12- مارس- 2019.

[13] https://bit.ly/2FGLgFk

الأناضول، استطلاع.. بايدن يتقدم على ترامب بـ 7.6 بالمئة، ن- 24-8-2020.

[14] https://bit.ly/3hR8NA6

مركز الجزيرة للدراسات، اتفاق السلام الإسرائيلي-الإماراتي: مضمون ملتبس ومرتكزات هشة، ن- 17-8- 2020.

[15] https://bit.ly/2FM9C0g

Yousef Al Otaib, “Annexation will be a Serious Setback for Better Relations with the Arab world,” Ynet News, 12/6/2020, accessed on 14/6/2020

[16] https://bit.ly/3mFFqEQ

صحيفة العرب، إسرائيل صديق تاريخي لإيران، ن- 20-2- 2020.

[17] نفس المرجع

[18] https://bit.ly/3iQED1r

موقع الرمسة، عرض كتاب التحالف الغادر، د, علي باكير، ن- 25-5-2020.

[19] https://bit.ly/33JOtvL

عربي 21، مركز دراسات أمريكي: هذه دوافع الإمارات الحقيقية للتطبيع، ن- 22- أغسطس- 2020.

[20] https://bit.ly/33QtPu1

ميرفت عوف، ما الذي يدفع الإمارات للتطبيع مع إسرائيل بهذه السرعة، ن- 6- نوفمبر- 2017.

[21] https://bit.ly/2ZVU40Q

عربي بوست، لماذا أعلنت الإمارات إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل في هذا التوقيت ومن سيكون التالي من الدول العربية، ن- 13- 8- 2020.

[22] https://bit.ly/3hRdCJI

SETA، التحرك الجديد للتحالف التخريبي: الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، ن- 15- أغسطس- 2020.

[23] https://bit.ly/3kPB5Nt

عربي 21، بعد تعثرها.. هل تتهيأ ظروف إعلان صفقة القرن بنوفمبر المقبل، ن- 17- يونيو- 2019.

[24] https://bit.ly/2EiIyF4

عربي بوست، أقروا بسيادة إسرائيل على الأقصى”.. القيادة الفلسطينية: اتفاقية التطبيع هي توقيع على صفقة القرن، ن- 16-9-2020.

[25] https://bit.ly/32QcB0m

مركز مسارات، الاتفاق “الإماراتي-الإسرائيلي” وتداعياته على القضية الفلسطينية، ن- 26- أغسطس- 2020.

[26] https://bit.ly/3cgMXFf

المركز العربي للبحوث ودراسات السياسات، اتفاق “أبراهيم”: تطبيع علاقات أم إعلان عن تحالف قائم بين الإمارات وإسرائيل، ن- 16- أغسطس- 2020.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M