محمد علي جواد تقي
“أ ولا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك مكروه”.،
محمد بن الأشعث الكندي، يطلب من الإمام الحسين يوم عاشوراء مبايعة يزيد.
لم يكن ابن الأشعث الكندي الوحيد الذي لم ير ثمة حقائق ثابتة في قضية الامام الحسين مع الحكم الأموي، فهو لا يرى قبيحاً او خطأ في مبايعة الامام الحسين ليزيد، لذا نراه يتكلم بسلاسة متأثراً بخلفيته القبلية –الجاهلية؛ شخصٌ من هذه القبيلة يتنازل للحكم لآخر من تلك القبيلة لمصلحة معينة، ما الضير في ذلك؟! وعلينا أن نتذكر أن هذا المتحدث وجميع من حضر لقتال الامام الحسين في كربلاء، بل وحتى الأمويون انفسهم قرأوا الآية القرآنية التي تحرم شرب الخمر، وقتل النفس المحترمة، وارتكاب الفجور، وأنهم يعرفون يزيد، كما يعرفون الحسين حق المعرفة. ولكن! لماذا يجب أن تكون على حق يا حسين؟!
الوصول الى الحقائق الثابتة سعيٌ بشري
بذل الفلاسفة في سالف الزمان جهوداً مضنية لتحديد السبل الكفيلة نحو الحقائق الثابتة في الحياة، ليحرزوا نصراً معرفياً يخلدهم في تاريخ الانسانية، فالانسان المسكون بالتقلّب والتغير والحركة، يرنو –من حيث الفطرة- الى الثبات والاستقرار في عالمه الخارجي، لذا نقرأ من افلاطون أنه رأى الحقيقة الثابتة في “عالم المُثل”،وهو العالم الثابت والمعقول، في مقابل العالم المادي المتغير والناقص الذي يعيشه الانسان، ثم جاء من بعده تمليذه ارسطو لينسف المثالية وعالم الظل والخيال، ويقدم للعالم رؤيته المادية البحتة، وفق نظرية “الجوهر”، أو المادة، وأن “كل شيء في هذا العالم عبارة عن جوهر، وهذا الجوهر هو الحقيقة”، وقد تركت هذه النظرية والرؤية الارسطية أثرها البالغ في الذهنية الغربية، ثم انتقلت الى الذهنية الاسلامية لتوجد لنا “فلاسفة مسلمين” يفسرون الأشياء في الحياة بنظرة مادية تحت شعار “الاحتكام الى العقل”، أما ديكارت، الذي يعد الأب الشرعي للفكر الغربي المعاصر، فانه “جعل من الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة، فقد شكك في كل المعارف الموروثة”، فاذا كان شيئاً ما جميلاً وصحيحاً لدى الأب أو الجد، فربما لا يكون كذلك بالنسبة لك أنت في زمانك، بما لديك من عقل، “فالحقيقة من إنشاء العقل نفسه”، ولا دخل للتجارب، ولا للتراث مهما كان.
ثم جاءت الثورة الصناعية لتغير حياة الانسان والعالم، وبشّرت بنظرية التغيير والتحول الدائم، وعدم وجود حقيقة مطلقة في الحياة، وأن الحقيقة يجسدها الواقع الذي يصنعه الانسان بنفسه، ومنها برزت نظرية البقاء للأقوى، ثم ظهرت نظريات أسست لواقع جديد للعقيدة والدين تحت شعار “العلمانية”، وللانسان؛ “البراغماتية”، و”الليبرالية”، لتزيح عن ساحة الفكر الانساني، الاخلاق، والآداب، والدين، والاعراف الاجتماعية، والخطورة ليس فيما جرى ويجري في عالم الغرب، بقدر ما يشعرنا بالقلق من سريان العدوى الى بلادنا الاسلامية، وأن الحقائق الثابتة لا توجد حتى في الدين، وللحصول على منظومة معرفية صائبة للدين علينا الاحتكام الى العقل فقط، وليس الى “التراث”، متمثل بكلام الوحي (القرآن الكريم)، و الروايات المنقولة عن المعصومين، حتى راح البعض يردد مقولة: “رأيي صح ويحتمل الخطأ، ورأيك خطأ ويحتمل الصواب”!
وفي اللحظة التي أعلن فيها الامام الحسين، عليه السلام، معارضته للحكم الأموي، وحتى وصوله الى أرض الواقعة (كربلاء) فانه حدد حقائق ثابتة يقبلها العقل، ولا ينكرها الواقع، ولذا كان موقف الطرف المقابل، من أناس عاديين من أهل الكوفة، و حتى وجوه القوم من المناوئين له، مثل؛ شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر وغيرهم ممن كتبوا للإمام بالبيعة ووعدوه بالنصرة على النظام الأموي، هو الصمت تارةً، وإنكار حقيقة الرسائل التي بعثوها تارة أخرى، فلم تعد ثمة مثالية، او تصورات ذهنية، او حدس، او ما أشبه يعتمده الامام الحسين في محاججته، إنما هي حقائق ناصعة وثابتة مثل الشمس في رابعة النهار، فعندما عرض عليه ابن الأشعث، وهو ابن ذلك الذي ساير أمير المؤمنين، بمكره وغدره ونفاقه، التنازل عن الحكم، ذكّره الامام بحقيقة الغدر المتأصلة لديهم، وقال له: “أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم بن عقيل”. أي أمانك هذا ليس سوى وهم وخيال أمام حقيقة الغدر على أرض الواقع، أما سائر الناس فان الإمام الحسين كشف بمحاججته لهم، حقيقة الجبن والخذلان مديناً إياهم بلسانهم: “نقاتلك طاعة للأمير ابن زياد”!
وعليه؛ فان الأمويين وأذنابهم، وعامة الناس من “الهمج الرعاع” يبحثون عن المبررات السياسية والاقتصادية، وحتى الدينية لخذلانهم، وما يبعدهم عن مسؤولية التصدّي للواقع الفاسد، بينما الامام الحسين كان يفجّر الحقائق الانسانية من تحت ركام الجهل والجبن والخذلان وكل اشكال الانحطاط، علّها تضيء لهم وللبشرية من بعدهم الطريق الى الصواب والنجاة، فكان أول وأبرز المستفيدين من هذه الفرصة العظيمة؛ الحر الرياحي، الذي اكتشف الحقيقة الكبرى التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}
كما هي حركة الانبياء والمرسلين، وهي حركة جدّه المصطفى خاتم الانبياء، صلى الله عليه وآله، في التعامل مع الحقائق الثابتة تعريفية –إن جاز التعبير- او لنقل؛ تبليغية أو تذكيرية، كانت طريقة الامام الحسين، عليه السلام، من بدء الانطلاق وحتى الاستشهاد، تذكيرية وتبليغية بامتياز، وإلا فان حججه البالغة، واستغاثاته، ثم استشهاده مع ابنائه وصحبه، وما جرى على عياله، لم يغير شيئاً يذكر في الواقع الاجتماعي والسياسي في الامة آنذاك، إلا بعد حين، وهذا يفسر جانب آخر من حكمة الامام بالذهاب صوب العراق والكوفة، وليس وحده، وإنما مع عياله واطفاله، “فقد كانت جميع تحركات الامام وأهل بيته من المدينة، ثم الى مكة، والى الكوفة ومنها الى الشام، مخططاً لها من أجل إيقاظ الناس وإقامة الحجة عليهم”. (الامام الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة- آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي).
بمعنى؛ أن القضية ليست “إسقاطية” كما يسميها البعض اليوم، بأن “الفكر الاسلامي اليوم هو فكر إسقاطي” شأنه فرض رؤية محددة وتفسيرات خاصة للأمور على الجميع، في حين إن منهج الرسالة في البناء الانساني قائم على مبادئ؛ الاختيار، والارادة، والقرآن الكريم يشير الى هذه المبادئ في غير آية بأن {ونفس وما سوّاها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها}، و{من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، إنما المهم في التبيين والتذكير فقط، فمن يأخذ بها هو المُفلح المُنجح.
بعد كل ما جرى في كربلاء والكوفة والشام، وفي ضوء ذكرى أربعينية الامام الحسين، عليه السلام، هل نبقى منكرين للحقيقة المطلقة في الدين والاخلاق؟
وهل إن كلمات الامام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء، وايضاً؛ ما بلغت به العقيلة زينب، والامام السجاد من حقائق ناصعة خلال مسيرة السبي، كانت خاصة بأهل ذلك الزمان كون عقولهم لم تكن بالمستوى الذي هو عليه عقولنا وادراكنا؟
إن الحرارة الموجود في قلوب المؤمنين والموالين للإمام الحسين، موجودة ايضاً في عقول واذهان غير المسلمين، لاسيما المسيحيين الذي قرأوا الإمام الحسين، كما قرأوا أباه أمير المؤمنين من قبل بشكل موضوعي دقيق، بعيداً عن أي مسبقات فكرية، او حالة نفسية معينة، فقادهم ذلك الى الحقيقة المطلقة، بينما نلاحظ البعض من دعاة التشيع، ومن يعد نفسه موالياً لأهل البيت، يقرأ تراثهم وشخصيتهم بما تملي عليه رغباته النفسية وظروفه المحيطة به، فينزلق نحو تجريد الأئمة وحتى رسول الله من العصمة، ويضعهم على حافة الخطأ في مواقفهم وأعمالهم وأقوالهم، قبل ان يجردهم من امتلاكهم للحقيقة المطلقة في الحياة، في حين إن القرآن الكريم يُقرن ولاية الله بولاية الرسول، وحتى المغفرة للمذنبين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، و آيات عدّة تقرن الايمان بالله وطاعة وعصيانه والهجرة اليه –تعالى- بالنبي الأكرم.
فعندما لا تكون هنالك حقيقة ثابتة ومطلقة فربما يأتي اليوم الذي يغير البعض موقفه من الشمر، لأن لولا قتله الامام الحسين، لما كان كل ما لدينا اليوم من مأساة وقضية للامام الحسين، وكل هذا التحشيد والتعبئة لإحياء الذكرى!
رابط المصدر: