صوفيا كالانتزاكوس
أبوظبي- تضع أزمة المناخ والثورة الصناعية الرابعة -بتقنياتها المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس- العالم على مسار تصادم جيوسياسي. ويعتمد كل من الدافع لإزالة الكربون، والمعركة من أجل التفوق التكنولوجي العالمي على قطاع المعادن الحرجة مثل عناصر الأتربة النادرة، والليثيوم، والكوبالت- وكلها تتركز إلى حد كبير في بضعة أماكن، بما في ذلك الصين.
ويتزايد السعي نحو السيطرة على سلاسل التوريد الخاصة بهذه العناصر. فعلى سبيل المثال، تعمل السيارات الكهربائية التي تصنعها شركة Tesla (تيسلا)، وشركات السيارات الأخرى ببطاريات أيونات الليثيوم، لكن حفنة قليلة من البلدان تنتج معظم الليثيوم في العالم. وسيزيد التوتر بين التركيز الجغرافي للموارد الحرجة وبين المنافسة العالمية المتزايدة على العرض من زعزعة الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين.
وهكذا، تقترب حقبة طويلة من المنافسة المستقرة على الموارد من النهاية بسرعة. ففي الماضي، كانت الإمبراطوريات محصورة في سلاسل التوريد الاقتصادية، والمنافسة المُدارة. وخلال دورة إنهاء الاستعمار الطويلة بعد عام 1945، دعمت الولايات المتحدة، بصفتها القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة، قواعد التجارة العالمية ومعاييرها. وفي الوقت نفسه، أصبحت إمدادات الموارد الحرجة -خاصة الوقود الأحفوري- أكثر انتشاراً، حيث ساعدت المعلومات الجيولوجية المحسنَة، والتقنيات الجديدة (مثل التنقيب في أعماق البحار والتكسير) على التخفيف من قبضة منظمة الأوبك.
ولكن الظروف انقلبت اليوم. فالمعادن الحرجة بالنسبة للاقتصاد الرقمي واقتصاد عصر ما بعد الكربون مركزة تركيزا كبيرا من الناحية الجغرافية، بينما أدت نهاية القطبية الأحادية الأمريكية، وزيادة الشكوك التجارية العالمية إلى تحفيز حالة اندفاع لتأمينها.
إن صعود الصين العالمي يدعم التوتر بين المنافسة والتركيز الجغرافي. ولم يعد الابتكار والإنتاج الصناعيان من الاختصاصات الحصرية لاقتصادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ولا سيما الولايات المتحدة، والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، واليابان. لقد ضمنت هذه القوى الكبرى في السابق مدخلات مهمة من خلال التوسع الاستعماري، واقتطاع الموارد، ولكن طموحات الصين فيما يتعلق بالتصدير، وسيطرتها على سلاسل التوريد الرئيسية، غيرت اللعبة. وفضلا عن ذلك، فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية -وهي خطة استثمار للبنية التحتية عبر الوطنية مع الدول المشاركة في جميع أنحاء إفريقيا، وأوراسيا، وأمريكا الجنوبية- تتحدى بانفتاح النماذج السابقة للوصول والتعاون.
وغالبًا ما تكون الحكومات في الجنوب العالمي، حيث توجد العديد من الموارد الحرجة، على استعداد لعقد صفقات حصرية. إذ رحبت بخطط التمويل الشاملة في الصين، وزيادة المشاركة، وسرد “شراكات رابح-رابح”، التي تقدم بديلاً موثوقًا به للتمويل الغربي، ووضع المعايير.
إن هيمنة الصين على الموارد تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية. إذ في عام 2010، خفضت الصين حصصها التصديرية من عناصر الأتربة النادرة إلى النصف، كما ورد في تقارير أنها حظرت بيعها لليابان بعد حادثة سفينة صيد بالقرب من جزر سينكاكو اليابانية، والتي تسميها الصين بجزر دياويو، وتزعم أنها ملكها. وأيقظت هذه الحلقة الاقتصادات الرائدة الأخرى على حقيقة أن منافسًا وخصما رئيسيًا يسيطر على 97٪ من الإمداد العالمي لهذه المدخلات الحيوية للمغناطيس، والزجاج، والإلكترونيات، وأنظمة الدفاع، وتوربينات الرياح، والمركبات الهجينة والكهربائية.
وكان رد فعل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان مجزئا في أحسن السيناريوهات، وبعد مرور عشر سنوات ما زالت لم تنتج استراتيجيات فعالة لتحرر أنفسها من قبضة الموارد الصينية. وتصدرت العناصر الأرضية النادرة العناوين الرئيسية مرة أخرى في عام 2019، عندما أشارت الصين إلى أنها قد “تستخدمها سلاحا” في نزاعها التجاري مع الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، فإن التقارير الإعلامية المثيرة عن اكتشافات العناصر الأرضية النادرة في أفغانستان، وذوبان الأنهار الجليدية في غرينلاند، والبحر السحيق، والكويكبات، والكواكب تُظهر أن التفكير السحري لا يزال يتفوق على صنع السياسات الفعالة.
كذلك، تولي إزالة الكربون أولوية للإنجازات الأخرى في مجال تكنولوجيا البطاريات والتخزين، وهذا هو السبب في ارتفاع إنتاج الليثيوم العالمي من 32500 طن في عام 2015 إلى 95000 طن في عام 2018. ويشارك اثنان من بلدان “مثلث الليثيوم” الثلاثة المتقلبة سياسياً واقتصادياً -تشيلي وبوليفيا- في مبادرة الحزام والطريق، ويحصلان على استثمارات صينية كبيرة، و يفكر الثالث، الأرجنتين، في الانضمام إلى المبادرة. ونظرًا لعدم امتلاك أي منها القدرة على التكامل الرأسي، تتحكم الصين في أكثر من 60٪ من القدرة التصنيعية العالمية لبطاريات أيونات الليثيوم. وحتى أستراليا، التي تمتلك احتياطيات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة والليثيوم، أخفقت حتى الآن في أن تصبح موردًا بديلاً “مستقلًا”.
ويُستخرج الكوبالت، وهو مكون أساسي آخر في البطارية، بصورة مكثفة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتمتلك هذه الأخيرة أكبر احتياطي الكوبالت في العالم -ثلاثة أضعاف احتياطي أستراليا التي تحتل المرتبة الثانية- وتنتج 60٪ من الكوبالت المستخرج عالميًا. ولا تزال البلاد هي المنتج الأكثر تنافسية من حيث التكلفة، والصين هي المستثمر المهيمن، على الرغم من أن الاحتجاج على الممارسات العمالية أثار تساؤلات حول التعدين الأخلاقي.
كيف يمكن لحكومات الدول الغنية أن تدير التوتر بين التركيز والمنافسة فيما يتعلق بالمعادن الحرجة على أفضل وجه، خاصة إذا كانت المؤسسات العالمية التقليدية في طريقها إلى الزوال؟. إن أحد الخيارات هو إحياء النموذج الاستعماري القديم لتقسيم المناطق لإدارة المنافسة. ولكن على الرغم من أن الصين كانت قادرة على توسيع نفوذها الاقتصادي العالمي دون تحمل عبء كونها قوة استعمارية، فإن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، واليابان، لم يعد بإمكانها أن تلعب هذه اللعبة بنجاح. ولدى البلدان النامية الأصغر الآن خيارات وتفضيلات أخرى، وغالبًا ما تقف إلى جانب الصين، أو روسيا، أو الهند، أو قوى أخرى.
وبدلاً من ذلك، يمكن للقوى التقليدية البدء في بناء إطار جديد للتعاون. ولكن موقف “أمريكا أولاً” للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعدم التنسيق بين الحلفاء السابقين، عاملان يقفان عقبة في الطريق الآن. كما أن الأعمال التجارية ليست مهيأة لأن تعطي أولوية للجغرافيا السياسية على حساب الاعتبارات المالية. إن دعوات الحكومات المتكررة للتخلص من سلاسل التوريد بالكاد تحقق شيئا يذكر؛ ويشن الوزراء هجوما عنيفا بشأن المنافسة لكنهم لا يعالجون احتياجات البلدان ومصالحها التي تتركز فيها الموارد الاستراتيجية الرئيسية. وفضلا عن ذلك، سيؤدي تغير المناخ إلى زيادة التقشف، لا سيما في المناطق الغنية بالموارد، ولكنها ضعيفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
لقد أظهرت الصين قوتها الاقتصادية المتزايدة من خلال إقامة شبكة عالمية من الشركاء بصورة منهجية. ويجب على القوى القديمة الآن أن تبني طرقًا جديدة لكسب ثقة البلدان النامية والتعاون معها، ليس فقط لتأمين المعادن الحيوية الضرورية لتزويد العالم بالطاقة في عصر الأنثروبوسين، ولكن أيضًا لأن الكوكب الذي تحوم حوله المخاطر يمثل تهديدًا للجميع.
* صوفيا كالانتزاكوس، أستاذة الدراسات البيئية والسياسة العامة في جامعة نيويورك/جامعة نيويورك أبوظبي ، وزميلة في معهد أبحاث تاريخ العلوم والتكنولوجيا في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وهنتنغتون ، وزميلة فونج العالمية السابقة في جامعة برينستون. وهي مؤلفة كتاب الصين والجغرافيا السياسية للأرض النادرة.
رابط المصدر: