بات معروفا ان الحكومة الحالية جاءت وهي تواجه ازمة اقتصادية حادة بسبب انتشار وباء كورونا والانخفاض الحاد في أسعار النفط، فكانت احدى أولوياتها هي ” اعداد مشروع قانون موازنة استثنائي للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة”. لكنها لم تقدم الموازنة في الأشهر الخمس الماضية واكتفت بالاقتراض الداخلي والخارجي، برغم إنها وعدت بإعداد ورقة إصلاحات جذرية تقدمها للبرلمان في غضون الأسبوع القادم ومازال الجميع بانتظار هذه الورقة.
الوضع المالي الحالي
قبل الخوض بما سوف تأتي به الورقة الإصلاحية، لنلقي نظرة سريعة عن الوضع المالي الحالي. عملت الحكومات السابقة على استحداث ملاين الوظائف في مؤسسات الدولة على مدى السنوات الماضية، حتى تخطت الرواتب حدود المعقول (ما بين ١٠ و ١٥ بالمئة)، لتصل هذه النسبة في العراق لأكثر من ٣٠ بالمئة من الناتج القومي.
وتفاقمت الازمة المالية بانهيار الأسواق العالمية جراء انتشار جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط، فأصبح الدخل الشهري من مبيعات النفط لا يساوي ربع الانفاق في بعض الاحيان، وأكد مصدر مقرب من وزارة المالية بان الدخل الحقيقي من مبيعات النفط كان مليارين و ٦٠٠ مليون دولار في حين كان الانفاق تقريبا ٨ مليارات دولار لشهر أيلول الجاري، ما يعني عجز قدره ٥،٤ مليار دولار.
صرح وزير المالية في لقاء متلفز ليلة امس بأن الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي يبلغ ٥٣ مليار دولار في حين ان هذا الاحتياط كان ٦١ مليار في شهر حزيران الماضي، وقبل البدء بتنفيذ بنود قانون الاقتراض الداخلي والخارجي لسنة ٢٠٢٠ ، والذي سحبت الحكومة بموجب هذا القانون ١٥ تريليون دينار وعادت لتطلب قرضا إضافيا في هذا الشهر يقدر ٣٥ تريليون دينار.
وتلجأ الحكومة للاقتراض بسبب قلة الإيرادات النفطية المتوقعة والتي قد لا تزيد عن ٣-٤ مليارات دولار في احسن الأحوال في الأشهر القادمة، مما يعني أن الايراد الأساسي للدولة سيكون بين ٣٦ الى ٤٨ مليار دولار في سنة كاملة فيما يصل الانفاق الى ما يقارب ٨٤ مليار دولار ، وهذا يعني ان العجز الفعلي للسنة القادمة سيتراوح بين ٣٦ – ٤٨ مليار دولار، مما يؤكد أن الإفلاس الحكومي واقع لامحال، اذا لم تتخذ حكومة الكاظمي إجراءات استثنائية سريعة لتدارك ومعالجة هذا الانفاق الهائل.
ورقة الإصلاح الموعودة
وعد وزير المالية علي عبد الأمير علاوي في جلسة مجلس النواب يوم ٨ أيلول بانه سوف يقدم ورقة إصلاحية والتي أصبحت لزاما على الحكومة تقديمها بعد تمرير قانون الاقتراض المحلي والخارجي في حزيران ٢٠٢٠، واكد وزير المالية بانه سيقدم الورقة لمجلس الوزراء في جلسة يوم الثلاثاء المصادف القادم ١٣ تشرين الأول، لغرض إقرارها تمهيدا لإرسالها الى مجلس النواب للمصادقة عليها.
من جانبه افاد مصدر مطلع أن الورقة مكونة من فصلين، الفصل الأول عبارة عن شرح مفصل للوضع المالي الحالي، وسرد شامل عن الإخفاقات المالية خلال العقود الأربعة الماضية. الفصل الثاني هو تفصيل المعالجات المالية التي تود الحكومة اجراءها وتنقسم الى خمسة أجزاء، الجزء الأول يتناول الهدر المالي ومعالجاته، الجزء الثاني يتناول الإصلاح الاقتصادي في قطاع النفط والكهرباء والزراعة والصناعة والنقل وغيرها من قطاعات. الجزء الثالث يتناول البنى التحتية وتمويلها، الجزء الرابع يتناول تحسين الخدمات مثل المستشفيات والمدارس وغيرها، والجزء الخامس يتناول الإصلاح المؤسساتي وترشيد الإنفاق، مثل المشتريات في الدولة وجعلها مركزية وحسب ضوابط ونظام مالي يحصر الهدر ويكبح جماح الفساد المستشري.
مصدر آخر أكد بأن الورقة سوف تتبنى اتخاذ خطوات صعبة وقاسية ولكن ضرورية للإصلاح وتتضمن أفكار عملية لبناء والاستثمار ودعم القطاع الخاص ورفع أداء القطاع المصرفي ليخدم عجلة النمو والاستثمار. ومن المتوقع أن تضم معالجات مالية لسد الثغرات التي تسحب منها الأحزاب الأموال السائبة وخصوصا في القطاع النفطي متل المصافي والتكرير، او المنافذ الحدودية، او الرواتب التي تدفع للموظفين الفضائيين، وغيرها من خطوات إصلاحية او احترازية او اجبارية مثل تغيير سعر صرف الدينار أمام الدولار، وذلك لسد حاجة الحكومة في الاقتراض من دون المساس برواتب الموظفين، علما ان هذا الاجراء له جانب سلبي وهو زيادة التضخم وارتفاع الاسعار ويحد من القوة الشرائية للدينار وبالتالي لدى المواطن مما يؤثر على عجلة الاقتصاد وحركة السوق.
ردود الأفعال المتوقعة
يستمر التراشق الإعلامي والسياسي بين مجلسي النواب والوزراء، بعد تبادل الاتهامات بينهما حول الوضع المالي المتردي، ودعا رئيس مجلس النواب في جلسة يوم ١٠ تشرين الأول “تحديد موعد لمقابلة كل من رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية” وتأتي هذه الدعوة بعد ان اعلنت الحكومة ارسال قانون الاقتراض الداخلي لتمويل العجز المالي الى مجلس النواب في ٣٠ أيلول فيما ينفي مجلس النواب وصول مشروع القانون بالرغم من مرور ١١ يوما على ارساله.
هذا الخلاف الدائر بين مجلس النواب ومجلس الوزراء ستكون نتيجته الحتمية معارضة مجلس النواب للورقة الموعودة كما هي او رفضه تماما، وستهاجمها القوى السياسية من جانبها، كونها تتضمن العديد من الإجراءات الإصلاحية القاسية التي ستؤثر على مصالحها وهم على اعتاب الانتخابات النيابية المبكرة، بعض الإجراءات مثل رفع الدعم الحكومي عن الكهرباء او توسيع نطاق الضرائب على الرواتب لتشمل الراتب الاسمي والمخصصات سيؤثر على المواطن بشكل مباشر وسيصب المواطن جام غضبه على القوى السياسية وسيكون له موقف معها خلال الانتخابات.
ليس خافيا بان العديد من الكتل السياسية تعد العدة لمحاسبة الحكومة وبالأخص وزير المالية والذي يُحمِلونه المسؤولية بما آلت اليه الأمور، فيما يُحمل وزير المالية مجلس النواب المسؤولية لتأخر الرواتب ويتهم النواب بعدم تفهم الوضع المالي.
من المعروف عن وزير المالية الحالي بأنه خبير مالي على مستوى عالمي ولكن ادواته لمعالجة الوضع المالي العراقي محدودة جدا، ولن يكون بإمكانه اجراء الاصلاحات المنتظرة بدون تعاون الأحزاب وقادة القوى السياسية، وهذا التعاون ليس مضمونا بل قد يكون العكس، حيث يتوقع مراقبون بان تقدم مجموعة من النواب طلبا لاستجواب وزير المالية وليس مستبعدا بان يكون الوزير اول ضحية لمجلس النواب اذا لم يسبق الاحداث ويقدم استقالته وهو معروف عنه بانه ليس متمسكا بالمنصب، ويؤكد مراقبون بان الحكومة قد توافق على مضض على تقديم الوزير كبشا لفداء الفشل وتراكم الأزمات، أملا بالحصول على بعض الوقت لتهدئة القوى السياسية لبضعة الأشهر القليلة القادمة.
فوضى مابعد الانهيار
التكهن بانهيار الاقتصاد العراقي في هذه الأجواء ليس اجتهادا او تحليلا وانما توقعا منطقيا يستند لعملية حسابية سهلة كما أسلفنا سابقا، حيث يتراوح العجز المالي القادم بين 36 – 48 مليار دولار، بعبارة أخرى أن الانهيار واقع لامحالة، اذا استمرت الحكومة على جدول الانفاق الحالي واحدى اهم نتائج الانهيار الاقتصادي هو عجز الدولة عن دفع المستحقات والالتزامات المالية الداخلية والخارجية وخصوصا تسديد مستحقات و رواتب الموظفين والمتقاعدين والذي قد يكون شرارة تولد فوضى تجتاح الشارع العراقي، خاصة وان الشعب غاضب على كل الطبقة السياسية، ومن غير المستبعد نزول حشود غاضبة للشوارع مطالبة بإزاحة الطبقة الحاكمة، مما يشكل بداية انهيار العملية السياسية القائمة.
ان الطبقة السياسية الحاكمة في كل انحاء العراق سيطالها هذا الانهيار، واذا لم تتدارك الوضع بمسؤولية وطنية، فأن الفوضى ستكون سيدة المشهد، وآنذاك لا ينفع معها لا برلمان ولا وزارات ولا أحزاب. كل ذلك يحتم على الأحزاب السياسية والزعامات قبول الإصلاح الاقتصادي اليوم قبل غد مُجبَرين لا مُخيَرين.