علي عواد
تشهد الولايات المتحدة في الثالث من الشهر المقبل انتخابات رئاسية حاسمة تتوقّع استطلاعات الرأي أن يتصدّر نتائجها مرشّح الحزب الديموقراطي، جو بايدن. ولكن، بمعزل عن اسم الفائز، تواجه كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية اتهامات مِن كلا الحزبَين. إذ يرى الرئيس دونالد ترامب في وسائل التواصل الاجتماعي خطراً أيديولوجياً على حزبه، ويعتبر أن تلك الشركات تقوم عمداً بالتضييق على المحتوى الجمهوري، في مقابل الدفع بأجندة الحزب الأزرق قُدُماً. على المقلب الآخر، يرى الجناح «التقدّمي» في الحزب الديموقراطي أن هذه الشركات أصبحت أضخم ممّا يمكن السماح به، ويجب العمل على تفكيكها أو منعها من التوسّع أكثر.
الديموقراطيون وخطر التفكيك
خلال السنوات الخمس الماضية، ارتفعت قيمة شركات «آبل» و»أمازون» و»غوغل» و»مايكروسوفت» و»فايسبوك» مجتمعةً، بأكثر من ثلاثة أضعاف: مِن تريليونَي دولار إلى أكثر من 7 تريليونات دولار راهناً. وإن كان هناك من أمرٍ مؤكّد بعد حصول أيّ شخص أو كيان على أرقام كتلك، فهو أنه سيلفت الأنظار. هذا ما حصل. بعد تحقيق استمرّ 16 شهراً في الممارسات التنافسية التي قام بها عمالقة الصناعات التكنولوجية، عرض أعضاء الكونغرس الديموقراطيون نتائج تحقيقهم في السادس من الشهر الجاري، في تقرير من 449 صفحة. وخلصوا إلى أن كلّ الشركات المذكورة، باستثناء «مايكروسوفت» (علماً بأن تاريخها حافل بقضايا الاحتكار وسرقة البرمجيّات)، أصبحت عبارة عن «مونوبولي» ضخمة، كونها تتمتّع بقوّة احتكارية بات واجباً كبحها، سواء بتفكيك تلك الشركات أو منع عمليات الاستحواذ المستقبلية أو إجبارها على فتح منصّاتها. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن إخفاء حقد الديموقراطيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً أنهم يعتبرون أنها ساهمت بشكل كبير في وصول ترامب إلى الرئاسة في عام 2016. برز ذلك بشكل جلي عام 2018، عندما كشفت وسائل الإعلام الأميركية أن شركة الاستشارات «كامبريدج أناليتكا» وصلت بطريقة غير شرعية إلى بيانات 87 مليوناً من مستخدمي «فايسبوك» واستخدمتها لمحاولة التأثير على ناخبي ترامب المحتملين.
أبرز الدعاة إلى تفكيك تلك الشركات، هما السيناتوران الديموقراطيان بيرني ساندرز وإليزابيث وارن. كتبت وارن في العام الماضي مقالة على موقع «ميديِم» بعنوان «هكذا سنتمكّن من تفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى»، تشير فيه إلى أن «شركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت تمتلك الكثير من القوة، وبات لديها سلطة كبيرة على اقتصادنا ومجتمعنا وديموقراطيّتنا. لقد دمّرت المنافسة، واستخدمت معلوماتنا الخاصة من أجل الربح. وأثناء هذه العملية، أضرّت بالأعمال الصغيرة وخنقت الابتكار». ما كتبته وارن ينبع من واقع بات من الصعب تجاهله أو تبديله دون قوانين تحمي المبتكرين والشركات الناشئة. على سبيل المثال، تُعتبر شركتا «أمازون» و»علي بابا» متشابهتين، كونهما أيضاً لا تصنعان المنتَج بل تعملان بصفة الوسيط بين المنتِج والمستهلك. في عام 2009، برزت شركة أميركية ناشئة هي «Diapers.com»، عرضت منتجاتها (من بينها حفاضات للأطفال) مع خاصية مميزة أتاحت للأهل جدولة الطلبات المتكرّرة كي تصلهم المنتجات من دون تكرار دخولهم إلى الموقع، وبأسعار تنافسية. ماذا فعلت «أمازون»؟ أرسلت الأخيرة نائب رئيس الشركة لتناول الغداء مع مؤسّسي «Diapers.com»، ليعرض عليهم البيع. رفض هؤلاء بيع شركتهم، لتبدأ عملية السحق المنظّم. قامت «أمازون» بخفض أسعار الحفاضات على موقعها بشكل غير مسبوق لا يمكن «Diapers.com» أن تجاريه. هكذا، انتهت الشركة الناشئة.
ليس جيف بيزوس، مؤسس شركة «أمازون» وأغنى رجل في العالم بثروة تُقدّر بأكثر من 175 مليار دولار، وحده من يتبع هذا النهج. فمنذ تَربُّع شركات البرمجيات الأميركية على عرش العظماء، مَنعت هذه الأخيرة، تقريباً، نشوء أي شركة برمجة يمكن أن تمثل خطراً عليها في المستقبل، وذلك عبر سياسات ناعمة تمثّلت بإغرائها بالمال. تبحث كبرى شركات «وادي السليكون» دوماً عمّا يُسمّى بشركات المرآب (Garage Companies)، وهي شركات صغيرة تتألّف عادة من مبرمجين وجدوا فكرة مميزة وجديدة وبدأوا العمل عليها من مرأب المنزل. وهنا، تأتي الشركات الكبرى بعروضات مالية مغرية بالنسبة إلى هؤلاء، بينما تُعدّ ضئيلة بالنسبة إلى ما يمكن أن تصبح عليه قيمة الشركة في المستقبل، فتشتري البرنامج أو التطبيق وتسجّل براءة الاختراع باسمها. هذه السياسة باتت «موضة» عالمية، إلى درجة أن أحد الأساتذة الجامعيين قال لطلاب البرمجة: «إن أفضل ما يمكن أن يحصل لكم في عالم البرمجة اليوم، هو أن تشتري شركة كبرى برنامجكم». بالطبع، لا تقتصر سياسة «المونوبولي» على شراء الشركات الصغيرة، إذ استحوذت «فايسبوك» على تطبيق «واتسآب» مقابل 16 مليار دولار عام 2014، وعلى «إنستغرام» مقابل مليار دولار عام 2012.
على رغم خطورة ما سبق، لا يعارض الديموقراطيون شركات التكنولوجيا الكبرى من منطلق خوفهم على مستقبل الشركات الناشئة، أو بسبب استغلال وبيع تلك الشركات الكبرى لبيانات المستخدمين. في الواقع، هم يخشون من أن تصبح تلك الشركات أقوى من الحكومة نفسها، ويصبح لها نفوذ سياسي قادر على إطاحة أي مشروع سياسي أو قضائي. وفي ظلّ اقتصاد عالميّ يئنّ تحت وطأة أزمة وبائية، يتوقّع المحلّلون أن يحصل تغيير كبير في المشهد التكنولوجي. يقول رويلوف بوتا، من شركة «سيكويا كابيتال» لرأس المال الاستثماري في «وادي السليكون»، إن «هذه صدمة للنظام، وفي بعض الأحيان يخرج من تلك الصدمة نظام جديد، يشبه الأمر انقراض الديناصورات، وهذا يعيد ترتيب من يمكنه البقاء على قيد الحياة في العصر الجديد. الصدمة هي التي تسرع المستقبل الذي يبنيه وادي السليكون». إذاً، ستكون الشركات الكبرى، في خضم الأزمة الاقتصادية الراهنة، المستفيد الأكبر بفعل ما راكمته من قوة، جنباً إلى جنب عدم تأثّر أعمالها بالوباء، ما يمكن أن يمهّد الطريق أمامها إلى فرض نظام عالمي جديد. وهذا ما لا يريده الديموقراطيون طبعاً.
ترامب وإلغاء المادة 230
ترامب المأزوم داخلياً، والمكروه من غالبية وسائل الإعلام الأميركية، وجد في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ملاذاً للوصول إلى ناخبيه. في تغريدة على موقع «تويتر» في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2019، أشار بيتر بايكر وهو كبير مراسلي البيت الأبيض لصحيفة «نيويورك تايمز» ومحلّل لدى قناة «إم إس إن بي سي»، إلى أن ترامب غرّد وأعاد تغريد 123 تغريدة في يومٍ واحد! حدث ذلك في خضمّ إجراءات عزله. في فترة ولاية ثانية، إذا نجح، يرجَّح أن يحافظ الرئيس الأميركي على سياسة التدقيق التنظيمي الواسع النطاق لشركات التكنولوجيا التي ميّزت ولايته الأولى. وشمل هذا الجهد مزاعم بالتحيّز ضد المحافظين عبر الإنترنت، وإجراءات ضد التطبيقات المملوكة للصين مثل «تيك توك» و»ويتشات».
عملياً، لا مشكلة لدى ترامب في توسّع عمالقة التكنولوجيا. جلّ ما يريده الرجل هو مساحة أكبر وأكثر عدلاً للحزب الجمهوري على منصات التواصل. غير أنه، منذ تفشّي وباء «كورونا»، وبدء الرئيس الأميركي بنشر تغريدات منافية للحقائق العلمية، وحذف «تويتر» لتلك التغريدات، شنّ ترامب حملةً على تلك المنصات، مهدّداً بإلغاء المادة 230 من قانون آداب الاتصالات، والتي تعتبر حالياً أن منصات التواصل الاجتماعي هي «منصات» غير مسؤولة عن المحتوى الذي ينشره المستخدم. على أن إلغاء تلك المادة سيعطي الشركات صفة «ناشر»، ما سيعرّضها للمساءلة أمام كل منشور، وهو ما يُعدُّ بمثابة كابوس بالنسبة إليها. في المقابل، بدت شركة «فايسبوك» أقلّ عدائية تجاه ترامب بدايةً، إذ اعتبر مؤسّسها، مارك زوكربرغ، أنه لا يجب حجب المنشورات الصادرة عن سياسيين، وإن خالفت الحقائق العلمية، لأنّها تُعدُّ ضمن خانة الكلام السياسي. وعلى إثر ذلك، بدأت حملات عنيفة على زوكربرغ تتهمه بتشويه العلم، وبالسماح لأمثال ترامب بتضليل الرأي العام.
آخر هذه المضايقات على وسائل التواصل الاجتماعي حصلت قَبل أيّام قليلة، حين قامت صحيفة «نيويورك بوست» بنشر تقرير بالغ الخطورة والحساسية في التوقيت، عن محتوى بريد إلكتروني، وُجِد داخل كومبيوتر محمول في أحد محال الصيانة، يكشف عن آلاف المراسلات والصفقات التجارية التي قام بها هانتر بايدن، ابن المرشّح جو بايدن، تفيد بأنهما على تواصل مع الصين. وبعدما نشرت الصحيفة من موقعها على «تويتر» رابط التقرير، قام الموقع بحذف التغريدة، وإغلاق حسابها بادّعاء أنه لن يسمح لأي جهة بنشر مواد مقرصنة يمكن أن تؤثر على صاحبها أو تشوّه سمعته. استشاط ترامب غضباً، وبدأ تهديد منصات التواصل الاجتماعي مجدداً بإلغاء المادة 230. يعتبر ترامب أنه عندما اتّهمه الحزب الديموقراطي بأنه «عميل» لروسيا، وعلى رغم أن تلك الادعاءات سقطت، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي سمحت بنشر تلك القضية على منصاتها.
في المحصّلة، مهما تكن نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة، لا شك في أن شركات التكنولوجيا الكبرى ستجد نفسها أمام تحدّيات كبرى. إلّا أنه، بين خطر التفكيك الذي يطرحه «يسار» الحزب الديموقراطي، وبين إلغاء المادة 230 التي ستُبقي «آبل» و»أمازون» في مأمن من التبعات، يبدو أن وصول الحزب الديموقراطي إلى الحكم سيشكّل ضرراً أكبر على تلك الشركات.
رابط المصدر: