أوسكار جونسون/تايلور أوين
مدريد/مونتريال ــ اليوم، مع انتقال حياتنا الاقتصادية والاجتماعية على نحو متزايد إلى شبكة الإنترنت بسبب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، أصبح المجالان الرقمي والمادي أكثر تكاملا من أي وقت مضى. والآن بات لزاما على تدابير الحوكمة والضوابط التنظيمية التي تحكم هذا العالم الرقمي المفرط القوة أن تلحق بالركب.
إلى جانب إشعال شرارة الأزمة الاقتصادية الأكثر شِدة منذ الركود الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، تعمل أزمة كوفيد-19 أيضا على التعجيل بالاتجاهات التكنولوجية التي كانت جارية بالفعل. يتمثل أحد أبرز هذه الاتجاهات في تزايد ضخامة شركات التكنولوجيا الكبرى. ارتفع مؤشر NASDAQ (ناسداك) بنحو 30% حتى الآن خلال عام 2020، في حين تجاوزت القيمة السوقية المجمعة لشركات أبل، وأمازون، وفيسبوك، وألفا بيت (الشركة الأم لشركة جوجل) خمسة تريليون دولار. ونتيجة لهذا، سجلت الثروة الشخصية التي يمتلكها جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، زيادة تجاوزت 70 مليار دولار، أو 68% منذ اندلعت الجائحة، في حين سجل صافي ثروة مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، ارتفاعا بنحو 30 مليار دولار ليبلغ 87.8 مليار دولار.
الواقع أن تركيز السلطة والثروة على هذا النحو المتزايد في أيدي قِـلة من الشركات الرقمية العالمية سيشكل هيئة السياسة الوطنية والدولية مع خروجنا من الجائحة. تكتسب شركات التكنولوجيا الكبرى القيمة من أصول غير ملموسة مثل البيانات، واللوغاريتمات، والملكية الفكرية، وليس الأصول المادية الملموسة وحسب مثل العمالة المادية أو السلع والخدمات، كما استفادت من ضعف الحوكمة الرقمية في تجنب سداد الضرائب ومساهمات الضمان الاجتماعي. لقد بُـني نظام الحوكمة العالمية للعالم المادي، وكانت الحكومات بطيئة للغاية في تكييف القوانين والضوابط التنظيمية لبناء اقتصاد رقمي عادل.
تتجلى الفجوة المتزايدة الاتساع بين الرابحين والخاسرين في الاقتصاد الرقمي بكل وضوح في التفاوت بين الناس وتآكل الطبقة المتوسطة، والذي من المرجح أن يتفاقم بفعل الجائحة في الأمد القريب. كما تقلص الوسط السياسي، مع تزايد الدعم للأحزاب اليسارية واليمينية المتطرفة. وقد تراجع الإيمان بالديمقراطية والثقة في وسائل الإعلام في كل من أوروبا والولايات المتحدة: اليوم، يعتقد 30% فقط من جيل الألفية في الولايات المتحدة أن الحياة في ظل نظام ديمقراطي ضرورة أساسية. وتهدد كل هذه الاتجاهات بأن تتضخم في المستقبل القريب، لمصلحة الشعبويين غير الليبراليين.
تسببت الجائحة أيضا في زيادة حدة الخصومات الجيوسياسية العالمية وتسليط الضوء على حقيقة مفادها أن مواجهة القوى العظمى تحدث على نحو متزايد في المجال الرقمي، في المناطق المملوكة لشركات خاصة عالمية. على سبيل المثال، أصبحت شركات مثل فيسبوك وجوجل ميدانا للتنازع لكل من الصراعات الوطنية والدولية، كما أوضحت الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة في عام 2016 ثم 2020، فضلا عن انتخابات أخرى في مختلف أنحاء العالم.
من ناحية أخرى، يناضل صناع السياسات الوطنية للتأكيد على السيادة التكنولوجية من أجل التحكم في البيانات والكيانات الرقمية العملاقة. لم تتمكن حكومات بعض الدول الأوروبية الكبرى من تنفيذ بروتوكولات تتبع المخالطين في إطار محاولات احتواء كوفيد-19 بسبب القبضة الخانقة التي فرضتها شركات مثل أبل وجوجل، التي قررت فيما بينها فعليا كيف يمكن ــ أو لا يمكن ــ استخدام 3.2 مليار هاتف ذكي في العالم لمحاربة الجائحة.
يتعين على صناع السياسات أن يتعاملوا على وجه السرعة مع هذه التطورات. في العالم الرقمي الجديد، وهو تقريرنا الذي تقدمنا به مؤخرا إلى مركز حوكمة التغيير التابع لجامعة IE، نوصي بثلاث مجموعات من الحتميات لصناع السياسات.
أولا، نحتاج إلى نماذج حوكمة جديدة للاقتصاد الرقمي. ويجب أن يتضمن هذا منتدى جديدا للتنسيق الدبلوماسي والعالمي للتغلب على التفتت الذي يعيب حوكمة البيانات حاليا. لا يسمح نهج الصين المرتكز على الدولة ولا نهج الولايات المتحدة الذي يتمحور حول الشركات للأفراد بالتحكم في بياناتهم الشخصية. على النقيض من هذا، تذهب اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي إلى مسافة أبعد في هذا الاتجاه. المشكلة هي أن المناطق الثلاث التي تحددها هذه الأساليب من غير الممكن أن “تتحاور” مع بعضها بعضا. ونتيجة لهذا، من غير الممكن لشركة تكنولوجية أو تشريع خاص بالتكنولوجيا أن يصبح عالميا حقا، لأنه من المستحيل أن يمتثل لقواعد المناطق الثلاث جميعها في ذات الوقت.
نحتاج أيضا إلى هيئة دولية لتشكيل المعايير والضوابط التنظيمية العالمية لاقتصاد المنصات. من الممكن أن تقدم هذه المؤسسة المشورة بشأن أفضل الممارسات، وتقوم برصد المخاطر الناشئة عن التكنولوجيات الجديدة (بما في ذلك تأثيرها على المجتمع المدني)، وتطوير التدخلات التنظيمية والسياسية لمعالجتها. الواقع أن المجال الرقمي اليوم يعمل على تقويض قدرتنا على التوصل إلى فهم مشترك للحقائق. ولمنع حدوث أزمة معرفية، نحتاج إلى مساحة للمعلومات تشكل منفعة عامة، وليست مساحة تسعى إلى تعظيم الربح.
ثانيا، نحتاج إلى نماذج حوكمة اقتصادية جديدة. إن الاقتصاد الرقمي مدفوع بالتكنولوجيا الخاضعة للملكية، وهو بطبيعته يحابي المحركون الأوائل واقتصادات التكتل. ويجب أن تعمل الحكومات على خلق ساحة لعب متكافئة للمبدعين والمتقاعسين، وابتكار ضوابط تنظيمية ذكية ورشيقة لتصحيح تأثير الارتباكات التكنولوجية في القطاعات التقليدية. كما ينبغي لصناع السياسات أن يعكفوا على تطوير طرق جديدة لحماية العاملين في اقتصاد العمل المؤقت وتزويدهم بذات أشكال الأمن الاجتماعي الاقتصادي التي يتمتع بها العمال العاديون، وإن كان ذلك من خلال آليات مختلفة.
ثالثا، نحن في احتياج إلى عقد اجتماعي جديد لإنهاء الانقسام الاجتماعي واستقطاب السياسة. لم يعد من الممكن إدامة الوضع الراهن لاقتصاد رقمي غير خاضع للضريبة أو التنظيم إلى حد كبير. يؤدي الفشل في فرض الضرائب على مكاسب الشركات العامة الضخمة إلى تقييد قدرة الحكومات على توفير المنافع العامة الاجتماعية والخدمات. يتعين علينا أن نعمل على إنشاء نظام عالمي جديد قادر على معالجة مشكلة المراجحة الضريبية من قِـبَـل الشركات المتعددة الجنسيات التي تستمد قيمتها إلى حد كبير من الاقتصاد غير المادي.
بالإضافة إلى هذا، من الممكن أن يساعد تعزيز وتنظيم ترتيبات العمل الشاملة المبتكرة في إعادة إعمار المناطق الأقل نموا، والمساهمة في تضييق الفوارق الإقليمية التي تساهم في الاستقطاب السياسي. ويُـعَـد التعليم الأداة الأكثر فعالية لتعزيز الحراك الاجتماعي، لكن تكاليفه تتزايد في حين تتسم المناهج بالبطء في التكيف مع الاحتياجات المتغيرة للاقتصاد الرقمي. إن توفير التعليم الفعّـال الحديث بتكاليف ميسورة للمواطنين أمر بالغ الأهمية.
يستلزم تخفيف التأثيرات السلبية المصاحبة للمجال الرقمي تبني أساليب شاملة في التعامل مع حوكمة المنصات والبيانات. لقد ترك صناع السياسات مسألة حوكمة التكنولوجيا في أيدي أولئك الذين يتولون تصميمها، لفترة طويلة للغاية، وفيما يتصل بالعديد من القضايا. والآن لم يعد بإمكانهم تحمل تَـرَف الوقوف موقف المتفرج.
رابط المصدر: