د. نعمة العبادي
يراقب العالم بأعتناء كبير نتائج الانتخابات الأمريكية، والتي طرحت صورة غير معهودة منذ قرون عن التجربة الأمريكية، إذ أصبح من الطبيعي الحديث في أعلى مستويات المؤسسات الأمريكية المهمة عن تزوير واتهامات متبادلة بين المتنافسين، وربما حتى يكون هناك رفضاً للتداول السلمي للسلطة عندما يجزم بفوز بايدن، في صورة تجعل أمريكا لا تختلف كثيرا عن دول العالم الثالث من حيث الصراع على السلطة.
بعيدا عن البحث في حقيقة رصانة ما تسمى بالديمقراطيات المستقرة، فنحن أمام مشهد يقتضي إعادة تعريف أمريكا على أساسه بوصفها أكبر الديمقراطيات في العالم وأكثرها مأسسة، ومن المؤكد أنه سيدفع باتجاه حراك داخلي أمريكي، تنتج عنه تغييرات مهمة تمس جوهر النظام الأمريكي، ولو بعد حين.
يوجد جدل (خارج أمريكا) حول مدى الفوارق العملية في عموم السياسة الأمريكية والخارجية على وجه الخصوص بين كلا المرشحين المتنافسين على الرئاسة، وبعبارة أدق، الفرق بين الترامبية والديمقراطيين، لأن الترامبية جيل مختلف من النهج الجمهوري، وملخص الجدل يتمحور حول رأيين: الأول/ يرى بأن أمريكا دولة مؤسسات، ومواقفها الخارجية محكومة بانضباط شديد، ولذلك لا فارق عند فوز أي من المرشحين، والثاني/ يذهب إلى العكس من ذلك، ويعول كل اتجاه ضمن هذا الرأي حول من يراه موافقا مع توجهاته، ويظهر أنصار هذا الرأي بوضوح في الشرق الأوسط.
مما لا شك فيه، أن ترامب لم يكن حزبياً منضبطاً، بل يرفض الكثير تصنيفه جمهورياً، وأن سنواته الأربع شهدت الكثير من المفاجئات والتوترات والصوت المرتفع، كما أن النهج المباشر، ولغة البزنس، مع الرغبة في الظهور وكسر المألوف، والتوجه الشعبوي، وسمت الكثير من تصرفاته، ويختلف الشرق الأوسط حول أعوام ترامب، بين من يراها نازلة خطرة ألمت بالمنطقة، وخلفت نتائج كارثية، وبين اتجاه آخر يراه صاحب فتح عظيم، وحقق ما لم يكن بالحسبان تحقيقه، كما انه لا بد من التأكيد على أن بايدن صقر حزبي، قضى أكثر من (47 عاما في السياسة)، وهو ممثل حقيقي لروح واشنطن السياسية، كما أن له آراء خطرة أيضا، وعنده جرأة كبيرة في طرح توجهاته، كما ظهر واضحاً في اقتراحه مشروع تقسيم العراق، والذي نسب له، وإن كان الأمر في حقيقته أسبق من بايدن، وخلفه كواليس طويلة الذيل ترجع إلى أزمنة قديمة، وتعمل عليه توجهات متعددة ليس هنا محل الحديث عنها، ولكن من المؤكد، انه لن يدير البلاد ويتصرف مع العالم بنفس الفجاجة التي مارسها ترامب.
بحسب فهمي، إن الديمقراطيين يؤمنون بالمنهج الدوائي، بخلاف الجمهوريين الذين يؤمنون بالمنهج الجراحي، وهم أقرب إلى طريقة العسكر في مقاربة الأمور من حيث الرغبة في الحسم الواضح والعاجل لها، وإن كان هناك رأي ينسب المنهج الجراحي إلى مثاليي التوجه الذين يتواجد أكثرهم في الحزب الديمقراطي، كما ينسب لأكثر من ديمقراطي الدخول في حروب وصراعات.
المهم في هذا الحديث، التعرض إلى حجم الفوارق المتوقعة عندما يربح بايدن الرئاسة، وهو أمر راجح بحسب المؤشرات، وعندها يخلف المرحلة الترامبية، فأن شروخ السنوات الأربع، وخصوصا تداعيات الانتخابات، ستجبر الرئيس الجديد على أن ينشغل لمدة لا بأس بها بتداعيات الداخل الأمريكي لتجاوز حدود الانقسام الحاد السياسي والمجتمعي، وستكون العلاقة حادة بين مجلس الشيوخ والبيت الأبيض، الأمر الذي يؤثر على القوانين والتشريعات والخطوات التي يطلب الرئيس المصادقة والتصويت عليها، والتي تتعلق بأجراء تغيرات على أوضاع المرحلة السابقة.
مجموعة علاقات التطبيع مع إسرائيل، والتي شهدتها المنطقة خلال الأشهر القريبة الماضية، ومن سيلحقها في ركب العلاقة مع إسرائيل، لن يتأثر كثيراً بمجيء بايدن، لأن ذات العلاقة تحمل عوامل استدامة ذاتية، فالرغبة السياسية والشعبية موجودة لدى طيف واسع من أطراف هذه العلاقة، ربما يختلف الأمر قليلا مع السودان، ولكنه سيمضي أيضا، وأن بايدن مؤيد مبدئيا لأي خطوة تدعم إسرائيل ولو بصراحة أقل من ترامب، وسوف تعود طريقة المقاربة الأمريكية التقليدية مع الخليج ودول المحور الأمريكي، والمتمثلة بالحراسة الامنية والدعم العسكري والحماية المعنوية مقابل المزيد من النفوذ والمنافع المادية والهيمنة لصالح أمريكا، كما أنه سيدفع باتجاه تسوية مشتركة للقضية السورية والليبية واليمنية، ويسمح لأكثر من طرف بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وروسيا بل وحتى تركيا وإيران في حسم تلك الملفات.
ستخف اللهجة الحادة على إيران، ويمكن أن يتم استعادة نهج أوباما مع الموضوع الإيراني، ولكن لن تخطو العلاقات مسافات كبيرة، ويبقى الموقف العدائي المبدئي بين الطرفين قائما، ولا يبعد أن يتخلل العلاقة مواسم تصعيد.
أما العراق، فوصف أهميته بالنسبة لأمريكا المتداول في الفضاء العام لا يخلو من مبالغة في تقديره، ولكنه يبقى في صدارة الدول محل الاهتمام، ولا يحمل الديمقراطيون مشروعاً محددا للعراق، ولكنهم سيتعاملون بشكل أكبر مع الوقائع، ومع وضوح وتوحيد الخطاب العراقي تجاه أمريكا، وبيان ما يريده العراق من خلال رأي وطني موحد، سوف يلزم الأمريكان التعامل معه مهما كان، ولكن الواقع العراقي، لا يساعد على مثل هذا الرأي، لذلك سوف يكون هناك صوتاً متعدداً ومشتتاً، وفي مثل هذا الحال، يفضل الديمقراطيون التعامل مع الأكراد والسنة بشكل اكبر منه مع الشيعة، كما هو حال في عهد الجمهوريين المحافظين في كل ترتيبات الشأن العراقي، كما أنهم سيدعمون بشكل أكثر مجازفة من الجمهوريين، التغيرات العميقة في الواقعين السياسي والاجتماعي العراقي بغض النظر عن طبيعة الصورة النهائية لهذا التغيير وانعكاساتها على الواقع العراقي، ومع ذلك، سيبقى منهجهم المفضل هو المنهج الدوائي وليس الجراحي.
لن تنخرط أمريكا بايدن في قصف معسكرات الحشد أو الفصائل المسلحة، ولكنها تدعم خطوات إضعاف هذا الاتجاه، كما أنها لن تمنع بلغة المنع الصارم نفوذا صينيا في العراق ولكنها تنافسه في الحصول على المزيد من الهيمنة والاستثمار، ولن ترضى له أن يتحول إلى استثمار أمني.
استبعد أن يعود بايدن طرح مشروع التقسيم بوصفه حلاً للعراق، ولكنه لن يقف في طريق خطوات وتوجهات داخلية أو خارجية تدعم أي نحو من التجزئة للعراق، وخصوصا ما يسمى بالإقليم السني.
في البايدنية، تعود قطر والكويت للعب أدوارا ما وراء محلية في المنطقة والعالم، وستكون أدوات يتم توظيفها في أكثر من منطقة صراع في المنطقة والعالم، عموماً، في حال فوز بايدن سيكون العالم أكثر هدوءاً، وأقل قدرة على حسم بعض المشاكل العالقة، وسوف تكون هناك مناطق رمادية أكبر.
رابط المصدر: