حرية الرأي والتعبير بين الإباحة والتجريم_ الإساءة للرسول الأكرم محمد (ص) إنموذجا

د. ضياء الجابر الاسدي

 

من المسلمات والبديهيات المعروفة منطقا وقانونا لا توجد حرية مطلقة، بدون تنظيم او قيود قانونية، فالحرية المطلقة تقود للاعتداء على حقوق وحريات الآخرين، فهي مفسدة وتقود إلى الفوضى وتؤدي إلى بث الكراهية ونشر العداوة والبغضاء بين الأفراد والمجتمعات والشعوب، الأمر الذي ينعكس سلبا على الأمن والاستقرار المجتمعي، وبشكل يهدد السلم والأمن المجتمعي بشكل صريح وواضح، و قد تكون من نتائجه إراقة الدماء او المساس بسلامة الأشخاص وحرياتهم.

ومن بين الحقوق أو الحريات التي يتمتع بها الإنسان حرية الرأي، والذي يتم التعبير عنه بواسطة وسائل متعددة منها المقروء والمسموع والمكتوب، فأصبحت حرية الرأي والتعبير متلازمتين، بحيث تعرف احدهما من الأخرى، وتحتاج أولهما للثانية، فهما وجهان لعملة واحدة (الحق في حرية الرأي والتعبير).

فحرية الرأي والتعبير تعني وباختصار شديد حرية التعبير عن الآراء والأفكار والمعتقدات عن طريق استخدام إحدى وسائل التعبير المسموعة ام المقروءة ام المكتوبة، تقليدية كانت ام حديثة، بعيدا عن الرقابة الحكومية ووفقا للقانون.

لكن هذا الاستخدام يجب أن يكون بحدود ما سمح به القانون وأجازه بعيدا عن المساس بحقوق وحريات الآخرين، فمن يستخدم حرية التعبير والرأي يجب أن لا يتجاوز على حقوق وحريات غيره من الأفراد او الفئات او الطوائف او الديانات او القوميات، وإلا كان ذلك تعديا يجرمه القانون ويحاسب مرتكبه، ويضع له الجزاءات المناسبة.

وما صدر من بعض الأشخاص في فرنسا، وردده ودافع عنه رئيس الدولة الفرنسية هو صورة من صور التجاوز الفاضح والخروج غير المبرر على حدود ونطاق تلك الحريات التي نصت عليها العديد من الإعلانات والمواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية (إعلان حقوق المواطن الفرنسي 1789، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام1948، الميثاق الأوربية لحقوق الإنسان 1950، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966، الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان 1969، وثيقة اليونسكو للمبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي، الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان 1979، مبادئ جوهانسبورغ حول الأمن القومي وحرية التعبير، الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004،، وأكدتها وكفلتها الدساتير العالمية وبنصوص صريحة وواضحة لا غموض او لبس فيها، ومنها الدستور الفرنسي “دستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 المعدل”.

إن مثل هكذا سلوك مخالف للقانون يتطلب منا كمسلمين ومن الدول الإسلامية، عموما، ومن الحكومة العراقية خصوصا موقفا موحدا تجاه ذلك، ليشعر من صدر منه مهما كانت صفته ومركزه ووصفه الوظيفي انه ملاحق وسيحاسب قانونا، من قبل دولته أولا، ومن قبل الدول الأخرى أيضا، لاسيما الإسلامية منها، والأمم المتمدنة التي يجب عليها إدانة مثل هكذا تصريحات تهدد الأمن والاستقرار، وتبث روح الكراهية بين الأمم.

إن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان وفي أكثر من قرار لها تؤكد على ضرورة المحافظة على حقوق الآخرين وحرياتهم عند ممارسة تلك الحريات الشخصية، فلا تجوز الاعتداء على حرية الرأي والتعبير، وحرية الديانة والمعتقد، ولاسيما وان الشخصية التي اسيء لها هي شخصية رسول البشرية ونبي الرحمة والإنسانية، ومحارب التطرف والفكر المنحرف، ولها مكانها في قلوب وعقول المسلمين جمعاء، فالرسول الأكرم محمد ” صلى الله عليه واله وسلم” هو الانموذج والقدوة الصالح التي أرسلها الله تعالى للبشرية جمعاء، فلم يكن سبابا ولا لعانا، بل كان على خلق عظيم، ولم يسمح في يوم من الأيام بسب الكفار او غير المسلمين، وقد جاءت آيات القران الكريم مؤكدة لذلك، فهو أرسل رحمة للعالمين، فكيف يسمح بتهجم أفراد من دولة فرنسا او رئيس دولة فرنسا نفسه على شخصية الرسول الأعظم “صلى الله عليه واله وسلم”، تحت حجج وأسانيد واهية، لا تمت للحقيقة بصلة.

كان حريا بالحكومة الفرنسية أن تبدي أسفها واعتذارها عما صدر من مواطنين لها بحق الرسول الأكرم، الذي هو رمز للمسلمين جميعا بل ولغير المسلمين أيضا، ومن رئيسها الذي لا يمتلك مثل هكذا حق أصلا، فالفهم المغلوط لحرية الرأي والتعبير من طرف ما يجب أن لا يؤثر على حقوق وحريات الآخرين وبالشكل الذي ينعكس ويؤثر سلبا في امن واستقرار ذلك المجتمع، وغيره من المجتمعات، كما يجب على الدول التي تدعى التطور واحترام حقوق وحريات الأفراد أن لا تصادر تلك الحقوق والحريات وتعمل على نقضها من خلال ما يصدر من تصرفات مخالفة للقانون مخالفة صريحة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

إن ما حصل لا نراه يشكل تعارضا مع النصوص القانونية الداخلية والدولية، بل هو تناقض كلي وتام معها، بل ينسفها نسفا، فمن يشكك بنبوة نبي الرحمة والإنسانية محمد (صل الله عليه واله)، ويحاول إلصاق التهم به وهو الصادق الأمين الذي ارتضاه رسولا رب العالمين، عليه أن يتحمل تبعات فعله وتصرفاته، كما إن الطعن بعقيدة المسلمين ومن خلال الإساءة للنبي الأكرم “صلى الله عليه واله وصحبه وسلم” هو الخروج عن القواعد التي تعارفت عليها الأمم المتمدنة وأقرتها دوليا ووطنيا، فلماذا هذا التناقض الواضح مع ما نص عليه القانون الوطني الفرنسي عندما منع أي كتابة او حديث علني من شأنه أن يؤدي إلى الكراهية لأسباب عرقية أو…. دينية.

فهذه الأفعال والأقوال تشكل انتهاكا لحقوق وحريات الآخرين لاسيما المسلمين في فرنسا أو خارجها، والتي من المفترض أن تحترم وتصان وتحمى وفقا للقوانين الفرنسية والقوانين الدولية، كما إنها تشكل خرقا للأمن القومي الفرنسي الذي يؤكد على ضرورة حماية الدولة واستقرارها وعدم إثارة العنف المتسبب في ذلك، وما صدر في فرنسا يعد وسيلة لإثارة مثل هكذا أعمال، فلابد من محاسبة المتسبب في ذلك أي من صدرت منه تلك التصرفات المسيئة للرسول الأكرم.

كما إنها تتعارض مع النظام العام الذي يقوم على أسس يتبناها المجتمع وهي واجبة الاحترام من قبل الجميع وفي مقدمتهم السلطة التنفيذي التي يمثلها الرئيس الفرنسي، لارتباط كيان المجتمع بها، والخروج عليها يمثلا خروجا على المجتمع ذاته، كما إنها تمثل خروجا على الآداب العامة فليس من الآداب الإساءة للآخرين بالطريقة التي صدرت في فرنسا، وهذا من المسلمات في المجتمع الفرنسي الذي يدعي التمدن والتحضر، فالقانون يحظر ممارسة حرية الرأي والتعبير القائمة على بث ونشر الكراهية، وتجريم الأفكار القائمة على أساس ذلك.

كما إن القضاء الفرنسي وفي قضايا مماثلة أو مقاربة اتخذ موقفا حازما وحاسما من الخروج على حدود حرية التعبير، وقرر إجراءات مشددة وحازمة بحق المتجاوزين، ففي عام 2005، أصدرت إحدى المحاكم الفرنسية قرارا يقضي بمنع نشر وتداول لوحة إعلانية دعائية مأخوذة من فكرة لوحة العشاء الأخير للفنان دافنشي (العشاء الأخير)، وأمر بإزالة جميع اللوحات خلال 3 أيام، لعلم القاضي إنها تسيء للروم الكاثوليك، ورغم تمسك جهة الإعلان بأن ذلك القرار يشكل تقييدا لحرية الرأي ونوع من الرقابة وقمع حرية التعبير، إلا أن القاضي اقر بأن الإعلان كان مشين وعدواني بمعتقدات الناس، فمحتوى الإساءة إلى الكاثوليك أكثر من الهدف التجاري المقدم.

إن حرية الرأي والتعبير الصادرة من أي شخص يجب أن تكون معززة وداعمة لركائز الدولة ونظامها وأمنها واستقرارها وللمصلحة العامة ومصلحة الوطن والمواطن وليس العكس فتستخدم لبث دعوة الكراهية وإضعاف النظام العام والأمن الوطني، فهنا يجب أن تكون محلا للمساءلة القانونية والمجتمعية بجميع صورها (جزائية، مدنية، إدارية، دستورية، مجتمعية، أخلاقية).

إن مثل هكذا إساءة يمكن اللجوء في مواجهتها لعدة وسائل وأساليب مقرة ومعترف بها دوليا، تبدأ بالاحتجاج ورفض وشجب تلك التصريحات بشكل رسمي وعلني من قبل الدول الإسلامية وغيرها، ومطالبتها بالاعتذار عما صدر منها، وهذا اضعف الإيمان أو خط الشروع كما يقال، وتتصاعد وتيرة تلك الوسائل باستدعاء سفراء الجمهورية الفرنسية أو القائمين بإعمالها في الدول لاسيما الإسلامية وتسليمهم مذكرات احتجاج ورفض لما صدر عن رئيس دولتهم وبعض مواطنيهم، وبإمكان المواطنين الفرنسيين المسلمين اللجوء إلى القضاء الفرنسي للمطالبة باتخاذ الإجراءات القانونية بحق المسيئين مهما كانت صفتهم ومركزهم، كما بإمكانهم اللجوء إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان (محكمة العدل الأوربية)، وتقديم دعوى بخصوص ذلك الموضوع، وبالتالي سحب تلك التصريحات والكتابات والرسوم وحظر نشرها كونها تشكلا إخلالا صريحا وخرقا واضحا للقوانين الداخلية والدولية، كما يمكن مقاطعة البضائع والسلع الفرنسية الصنع، ويمكن إن تصل تلك الوسائل لحد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الفرنسية بمختلف صوره، وان كنا نرى ذلك مستبعدا في ظل الواقع والظروف التي نراها على المستوى الدولي.

إن التجاوز والاعتداء على مكانة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه واله، يشكل تجاوزا ومخالفة صريحة للقانون الوطني والداخلي، لذا يجب أن تكون مواجهته بمواقف حازمة، داخليا ودوليا، وإلا سيستمر ذلك الأمر وبصور مختلفة، وتكون له عواقب وآثار سلبية في مستقبل الأيام سواء على صعيد الدولة الفرنسية او في غيرها من مناطق العالم.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/rights/25159

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M