محمد صلاح
من المؤكد أن حدثاً بوزن الانتخابات الأميركية استحق ذلك الاهتمام الواسع النطاق، فالنتيجة قد تغير العالم والمستقبل قد يتشكل بحسب شخص الرئيس وحزبه، لكن الملاحظة الأكثر بروزاً في العالم العربي عموماً، ومصر خصوصاً، هي تلك المخاوف من أن يؤثر فوز المرشح الديموقراطي جو بايدن في مواقف الدول التي تواجه الإرهاب كمصر والسعودية والإمارات، وأن تنتعش أمال “الإخوان المسلمين” في العالم في العودة الى واجهة الحوادث مجدداً… إنها المخاوف التي انتشرت بالنظر الى هواجس مرتبطة بالعلاقات التي جمعت “الإخوان” بإدارة باراك أوباما الى درجة رسخت الاعتقاد بأن تحالفاً جرى ما بين الولايات المتحدة التي يحكمها الحزب الديموقراطي وتنظيم “الإخوان” المتسرطن في انحاء متفرقة من العالم.
زادت من تلك المخاوف أحاديث من أطلقوا على أنفسهم صفة “النخبة” الذين كانت فرضتهم علينا جهات غربية داعمة لتفجير الأوضاع في دول عربية منذ أن هبّت رياح الربيع العربي، والذين تسلحوا بالثورية وتاجروا بمعاناة الناس وعادوا الى صدارة المشهد مع الانتخابات الأميركية، وهم أصحاب الخبرات الطويلة للصيد في كل ماء عكر والقفز من مستنقع عربي الى آخر أوروبي ومن كارثة أفريقية الى مصيبة آسيوية الى الانتخابات الأميركية، هؤلاء الذين لا تفوتهم دائماً المساهمة في نشر الجهل والكره والتطرف والإرهاب!
لا يحتاج الأمر الى كثير من التنظير أو مزيد من التحليلات، يكفي هنا الإشارة الى أن الثورة المصرية أطاحت بحكم “الإخوان”، حين كانت مصر في أشد فترات ضعفها، في ظل حكم الديموقراطيين للولايات المتحدة، ووسط ذهول أوباما وفريق مساعديه وبينهم من كانوا يزورون “الإخوان” في القاهرة بانتظام وينسقون معهم، أو يحددون لهم خطوات التحرك وسيناريوات التعامل مع الجيش والشعب. لم يستطع أوباما ونائبه الرئيس المنتخب الحالي جو بايدن وقتها إنقاذ الحلفاء، وحين ظهر أن النوايا تتجه الى فرض عقوبات ضد مصر كان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل رحمه الله في الواجهة يحذر وينبه ويتعهد بتعويض مصر كل دولار يُخصم من رصيدها، ويجول في دول العالم ليؤكد مساندة المملكة خيار الشعب المصري.
المسألة محسومة، فالدول العربية التي تصدّت لمؤامرات “الإخوان” ودعم قطر لهم واحتضان تركيا الإرهابيين تملك قرارها ولا تنفذ تعليمات أو أوامر أو توجيهات، وإذا كانت تحرص على علاقات استراتيجية متوازنة مع الولايات المتحدة فإنها لا تفرط في سيادتها أو سياساتها التي تخدم شعوبها.
صحيح أن بايدن غير ترامب، والديموقراطيون غير الجمهوريين، لكن الخبرات السياسية لدى مصر والسعودية والإمارات ذات كفاءة عالىة في تحقيق التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة بغض النظر عن الجالس خلف المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وكلما امتلكت هذه الدول الثلاث أدواتها وأوراقها في التعاطي مع المتغيرات ضاقت مساحة الخلاف أو حتى المواجهة مع أي إدارة أميركية.
انشغل السياسيون العرب ومنظرو الفضائيات ومحللو النخبة والخبراء الاستراتيجيون، الذين هم أكثر من الهمّ على القلب في الوطن العربي عموماً ومصر خصوصاً، بالبحث في أسباب النتائج التي أفضت إليها الانتخابات الأميركية، ومستقبل العلاقات في ظل إدارة بايدن، واللافت هنا أن أصحابنا فسروا وحللوا ونظرّوا باعتبار أنهم يمتلكون الحقيقة وكأنهم يمارسون الدور نفسه الذي اختاره كل واحد منهم لنفسه منذ حكاية الربيع العربي التي أفسحت المجال واسعاً أمام هؤلاء كي يصيبوا المواطن العربي بشظايا آرائهم وتفسيراتهم وتحليلاتهم وربما تحريضهم. وما إنْ أُعلنت وسائل إعلام فوز بايدن وهزيمة ترامب، حتى ظهرت تحليلات ينتمي أصحابها الى النخبة الانتهازية المهترئة التي كانت أحد أهم أسباب الإرتباك الذي ساد مصر بعد 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وصبت نتائج التحليلات غالباً في اتجاه إصابة الناس بمزيد من الكآبة بتخويفهم بأن بايدن سيكون أكثر تشدداً تجاه الأوضاع في مصر ، حيث ستتماهى سياساته مع اليسار الأميركي المتطرف الذي بدأ يبسط نفوذه وقوته في الولايات المتحدة. ولأن “الإخوان” لا يفوتون فرصة إلا وسعوا الى انتهازها عبر إعلامهم وقنواتهم ومواقعهم الإلكترونية، فإنهم استغلوا الحدث المهم وجمعوا كل ما يدعو المواطن المصري للتشاؤم وروّجوه، باعتبار أن ترامب كان تخلّى عن “الإخوان” وساند الانقلاب الذي يترنح!
في المقابل، ظهرت التحليلات الوردية وكذلك الآراء المبنية على التفسيرات المتفائلة التي رأى أصحابها، أن الإدارة الجديدة ستكون أكثر انشغالاً بالهموم الداخلية، وبطبيعة الحال لم يمر موسم التحليلات والنظريات من دون غمز لقصة حقوق الإنسان ومسألة الانصياع لإرادة الشعب حتى لو كان اختياره سلبياً أو مدمراً، وكأن أصحاب تلك النظرية يشيرون الى أن الشعب المصري كان عليه أن يتحمل تصرفات محمد مرسي وأخطاء “الإخوان” وفشلهم في الحكم وضياع البلد طالما أن مرسي أتى بانتخابات حرّة، معبرة عن رأي غالبية المصريين.
المحصلة، أنه حتى لو انشغلت إدارة بايدن بأمور داخلية عن تعاطيها مع العالم الخارجي، خصوصاً الشرق الأوسط، فإن ذلك لا يعني انتهاء “الحرب اللامتماثلة”، أو توقف محاولات تفتيت المجتمعات وتحريض الطوائف والفئات على بعضها، وحرق الشخصيات العامة ذات المكانة، وتلميع النماذج المشوهة واستخدام الأكاذيب لتحريك الجموع الغاضبة، إذ إن جهات أميركية أخرى ستواصل، لفترة غير قصيرة، نهجها في التعامل مع حكام وشعوب المنطقة، سواء لأن ما بدأته وانتهجته لا يمكن وقفه بضغطة زر، أو لأنها بالأساس غير معنية بطريقة تفكير الرئيس، أي رئيس، وسياساته في المنطقة بل لها قناعاتها وأساليبها.
“الحرب اللامتماثلة” غير مرتبطة بوقت محدد ولا تخوض فيها الجيوش المعارك وإنما مداها مفتوح، وهدفها إسقاط دولة أو حكم أو ضرب اقتصاد أو السيطرة على شعب من دون حرب أو تحريك جيوش أو الحاجة الى تسيير بوارج في البحار والمحيطات أو طائرات في الجو، ويؤدي استخدامها بكفاءة الى تفتيت البنية المجتمعية عبر سيل من الإشاعات والأكاذيب والتشكيك في كل حقيقة باستخدام الغاضبين والثائرين وطالبي الشهرة ومحترفي الثأر، وإفساح المجال أمام الإعلام لضخ الطاقة السلبية بين الناس.
إنه التحدي الذي تواجهه شعوب دول اختارت أن يكون مصيرها بين أيادي شعوبها… مجرد مخاوف تبددها وقائع سابقة، فهذه الشعوب صارت أكثر خبرة في التعامل مع هكذا حروب، انتصرت فيها وتستطيع أن تخوض غمارها مجدداً من دون أن تقع في أخطاء دول أخرى انخدعت فاختفت أو كادت.
رابط المصدر: