محمد الرميحي
كل الأنظمة السياسية التي “صاغتها” البشرية “لإدارة” الحكم والسلطة هي بالضرورة غير كاملة، فيها عيوب، ولكن بعض العيوب أخفّ من بعضها الآخر… عيوب مُقعدة ومُعطلة للنظام السياسي، وعيوب مُعوقة موقتاً للنظام.
كان العالم ينظر الى النظام السياسي الأميركي على أنه الأقرب الى “الديموقراطية “المثالية”، ولكنه ليس الديموقراطية المتوخاة، ففيه ثغر تتسلل منها “الأهواء الشخصية”. مُناوئو النموذج الديموقراطي الأميركي يتمنون أن تتسع تلك العيوب، ومؤيدوه يتمنون أن تتقلص العيوب من خلال إصلاح النظام الانتخابي. في الفترة الأخيرة بدأت تلك العيوب الجانبية تؤثر في سلامة البُنية الديموقراطية، وأحد الأسباب الرئيسية يكمن في أن التغير الاجتماعي والاقتصادي والديموغرافي يفوق في سرعته سرعة استجابة التغيير في النظام، وهي المعادلة التي أوصلت شعوب كثيرة الى المأزق. على سبيل المثال، فإن الثورات الملونة في أوروبا في تسعينات القرن الماضي والربيع العربي في بداية العشرية الثانية من هذا القرن وأخرى مماثلة بما فيها سقوط الاتحاد السوفياتي، يمكن إرجاعها في الغالب الى تلك المعادلة “تغير في المجتمع لا يصاحبه تغير في النظام السياسي متوافق معه”، وقد يقود التغيير إلى الفوضى!
ومن جهة ثانية “الشخصنة” وكل نظام سياسي فيه شخصنة، إلا أنها عندما تتضخم تضر بالنظام كله. ما يحدث في الولايات المتحدة من مظاهر سياسية تنبئ عن ذلك التغير من جهة والشخصنة من جهة أخرى. فبوتقة الانصهار التي أُشيد بها في السابق ما زالت تفعل، ولكنها أظهرت أيضاً أن ذلك الانصهار متعثر. واحد من كبار المعلقين والكتاب هو فريد زكريا قال مؤخراً، انه كان يشعر بهوية مختلفة وهو في الهند كونه مسلماً، ومنذ قدِم الى الولايات المتحدة في الثمانينات من القرن الماضي اختفى ذلك الشعور. وقد حقق فريد الشهرة والانتشار نتيجة جهده وبسبب التسامح أيضاً. تعليقه جاء في سياق أن ذلك التسامح بدأ يختفي. اختفاء التسامح ليس بسبب تغير في الاخلاق بل بسبب وعي مختلف بدأ يظهر في القطاعات الواسعة والتي خضعت قبل ذلك للأمر الواقع.
يعبر عن ذلك عنوان الكتاب الأخير للسيد باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأسبق حتى في العنوان “الأرض الموعودة”! والذي يظهر الفرق في التفكير بين فئتين اجتماعيتين، قوى صاعدة وأخرى منكمشة، البيض والسود، الأغنياء والفقراء، أبناء المهاجرين الجدد وأبناء المهاجرين القدامى! وهو أصل الشقاق الحالي في الخبرة الأميركية المعاصرة. يتحدث أوباما في الكتاب عن أن “إعلان الاستقلال الأميركي” يقول إن “كل الناس سواسية”، ويكمل، ولكنهم “أي الآباء المؤسسون” اعتبروا العبد “ثلاثة أخماس رجل”. اكتشاف هذا التناقض الذي جعل من حقوق السود تتأخر كثيراً وما زال البعض منهم يعتبر انها ناقصة، يأخذ السياسة الى الشخصنة. يضرب مثالاً آخر في الكتاب في رفض المحاكم الأميركية في وقت ما الاعتراف بحقوق ملكية الأرض للمواطنين الأصليين، ويشير الى حكم إحدى المحاكم، “أن محاكم الغالبين ليست لها قدرة على الاعتراف بحقوق المغلوبين!”. أوباما كشخص من تربة مزدوجة واضح انه لم يكن قريباً من والده الرجل الأسود المسلم من كينيا “الذي يعتبر انه هجره” ووالدته بيضاء من جذور إيرلندية، ويصفها في الكتاب بأنها كانت متمردة على الوضع القائم، بدليل أنها تزوجت ليس رجلاً واحداً اسودَ بل إثنين وطلقتهما، وتربّى أوباما معها ومع جده وجدته لأمه البيض. ولأن والدته فقيرة كانت تأخذه معها الى العمل لعدم قدرتها على تأمين جليسة أطفال، وحتى تشغله كانت تأمره بالقراءة… من هنا أحب الكتب التي أنكب عليها بكثافة في حياته كما يقول.
هذا الرجل بتلك الخلفية أصبح أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، والتي تعوّد شعبها في 250 سنة سابقة “قرنان ونصف قرن” على رؤية رئيس أبيض في البيت الأبيض. وصول أوباما الى البيت الأبيض حمل معه شخصنة من نوع مختلف وموقف مضاد مما سماه “الرأسمالية المتوحشة” وبنى عليها مجمل سياسات إدارته، التي تتعاطف مع “المغلوبين” ما أثار حفيظة البيض “الواسب- بروتستانت انغلو ساكسون بيض” على النظام، واستثمر ذلك بقوة السيد دونالد ترامب.
كان من الطبيعي ان يكون الرد مضاداً وقاسياً وجذرياً يتصف بعدائية أوصلت الرئيس ترامب الى البيت الأبيض في 2016 مع ما يحمله من تحيز مضاد. ترامب اتخذ عدداً من السياسات المضادة تماماً لفلسفة وأعمال أوباما “الليبرالية والمشبعة بأفكار يسارية”، وربما هو الرئيس الوحيد الذي كرر وهو في الحكم أكثر من أي رئيس سابق، اسم سابقه وبالسلب، ويذكّر قواعده بأنه النقيض الطبيعي لحكم “الأغراب والملونين” في انزلاق واضح نحو الشخصانية. وعلى الرغم من أن بعض سياسات ترامب كانت إيجابية للبعض، إلا أن محصلة قراراته كانت سلبية جداً، فهو حطّ من قيم المؤسسة التقليدية وتعامل مع الحكم كما يتعامل مع شركة، وأتى بخبرته في المضاربة العقارية الى المضاربة السياسية، أي الربح بأي ثمن!، وهو ما أثار وباء الكراهية بين فئات المجتمع الأميركي وعرّض المؤسسات في الداخل والنظام الدولي في الخارج الى الكثير من الاضطراب. إلا أن هذا الصراع لن يختفي وسوف يؤثر في العالم، فإن مرض العالم وأميركا بقيت سليمة سوف يشفى، اما اذا مرضت أميركا، كما يظهر في معركة التسليم والتسلم، فعلى العالم أن يعاني من الحُمى!!
رابط المصدر: