مارك ليونارد
لندن ــ شهد عامنا هذا تَـبِـعـات وعواقب العديد من أفعالنا الماضية. فلم تكن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) مجرد صاعقة عشوائية ضربتنا من فراغ، بل كانت كارثة “طبيعية” من صُـنع البشر أرتنا في مرآتها العديد من عاداتنا السيئة وممارساتنا الخطيرة ــ بل القاتلة في واقع الأمر.
كان انتقال فيروس كورونا من الخفافيش إلى البشر نتاجا للتوسع الحضري الطاغي والتعدي المدمر على الموائل الطبيعية، وكان انتشاره السريع نتيجة للتصنيع المفرط، والتجارة المحمومة، وعادات السفر المعاصرة. على نحو مماثل، يعكس عجز العالم عن الاجتماع على نهج لاحتواء الأزمة مدى تأخر قدرة الحكم والإدارة خلف العولمة المفرطة.
كان العديد من هذه الإخفاقات واضحا جليا قبل أن يضربنا الفيروس، حيث احتضن الناس في العديد من البلدان قادة قوميين وشعبويين وعدوا باتخاذ إجراءات حاسمة في عالَـم بدا خارج نطاق السيطرة. ولكن برغم أن عامنا هذا كان صعبا عسيرا، لدي خمسة أسباب على الأقل يجب أن تجعلنا نبتهج بحلول عام 2021.
السبب الأول والأكثر وضوحا هو هزيمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. الواقع أنه لأمر باعث على الارتياح أن تكون قادرا على الاستيقاظ في الصباح دون أن ينهشك القلق بشأن ما قاله أقوى شخص في العالم على تويتر أثناء نومك. سوف تعود الولايات المتحدة قريبا إلى أياد مقتدرة. بالإضافة إلى جعل الناس أكثر قدرة على التنبؤ بتصرفات أميركا التي ستصبح أيضا أكثر حسا بالمسؤولية، يحمل انتصار الرئيس المنتخب جو بايدن معان ضمنية للديمقراطيات في مختلف أنحاء العالم.
لقد أصبح أشباه ترمب في أوروبا ــ من أمثال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ونائب رئيس وزراء بولندا وحاكمها الفعلي ياروسواف كاتشينسكي ــ أيتاما بالفعل بزوال ترمب من الساحة السياسية. وبينما يتطلع الأوروبيون إلى انتخاباتهم ــ في هولندا وألمانيا في عام 2021، وفي فرنسا في عام 2022 ــ لن تستطيع الأحزاب الشعبوية الاستمرار في الادعاء بأنها تحول تيار التاريخ. في المملكة المتحدة، بدأ رئيس الوزراء بوريس جونسون ــ المرشد السياسي البارع ــ يتحول بالفعل مع الرياح السياسية الجديدة. ففي أعقاب خسارة ترمب، أقال أخيرا مرشده الشعبوي الذي وجهه عبر عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، دومينيك كمينجز، وأشار إلى أنه يعتزم صياغة هوية جديدة لعالَـم ما بعد ترمب.
السبب الثاني الذي يجب أن يحملنا على الابتهاج هو أن لقاحات كوفيد-19 أصبحت في الطريق إلينا. هذا من شأنه أن يسمح لنا بالعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، ويجب أن تؤكد الطريقة التي جرى بها تطوير وإنتاج هذه اللقاحات على دعمنا للتعاون الدولي. كان من الـمُـلهِـم أن نرى أول لقاح يخرج إلينا من شركة بيون تِـك، الشركة التي يمولها الاتحاد الأوروبي والتي يقودها عالِـمان ألمانيان من أصل تركي. ونظرا للمخاوف المبررة بشأن “قومية اللقاح”، فمن المهم أن يرى الناس كيف أن الأممية، وليس الفِـكر الضيق الأفق، هي السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة العالمية وغيرها.
يقودني هذا إلى السبب الثالث للتفاؤل: الأنباء المشجعة على جبهة المناخ. كما لاحظ العديد من المعلقين، قد يقودنا تغير المناخ إلى أزمة أضخم من جائحة كوفيد-19. لكن بعد الانخفاض الهائل في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي هذا العام بنحو 7%، صرنا نعلم على الأقل ما هو ممكن. والآن بعد أن أثبتت الحكومات قدرتها على الإنفاق مهما تطلب الأمر في حالات الطوارئ، فسوف تواجه ضغوطا متزايدة لحملها على الاستثمار في التكنولوجيات اللازمة للانتقال السريع إلى الطاقة النظيفة.
يتمثل سبب الابتهاج الرابع في عودة الإيمان بالحكومة. لقد ذَكَّـرَتنا جائحة كوفيد-19 جميعنا بالقيمة العظيمة الكامنة في الإدارة العامة المقتدرة. كما أنها لفتت انتباهنا إلى الحاجة إلى إعادة التوزيع. بعد الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، تمنى كثيرون أن تُـفـسِـح العقيدة النيوليبرالية السائدة الطريق أمام الديمقراطية الاجتماعية وقدر أكبر من السيطرة السياسية على الاقتصاد. ولكن بدلا من ذلك، وجدنا عمليات إنقاذ البنوك وغير ذلك من الأمثلة الصارخة على “الاشتراكية من أجل الأثرياء والرأسمالية من أجل الفقراء”.
بعد عشر سنوات من التقشف المؤلم وما أحدثه من اضطرابات سياسية، بدأت الحكومات أخيرا تتحمل قدرا أعظم من المسؤولية عن الرفاهة العامة. والآن تدفع أحزاب التيار الرئيسي، بما في ذلك الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، بسياسات ترمي إلى دعم العمال وأبناء الطبقة المتوسطة، وهذا يعطينا الأمل أخيرا في معالجة التفاوت البنيوي، الذي دفع كثيرين إلى الشعور بأنهم “نُـبِـذوا بالعراء” (وجعلهم بالتالي منفتحين على إغواء الشعبوية).
يقودنا هذا إلى السبب الأخير للابتهاج والتفاؤل. لقد أشعلت الجائحة شرارة إعادة النظر في النظام العالمي. فبدلا من العولمة المفرطة غير المنظمة، تبحث قوى رائدة عديدة عن طرق للتوفيق بين الشهية المفتوحة للسلع الرخيصة، والتكنولوجيات المتقدمة، وغير ذلك من المزايا والفوائد المترتبة على التجارة، مع الاحتفاظ بقدر أكبر من السيطرة على الشؤون الداخلية. وسواء كان الحديث عن “الانفصال” في الولايات المتحدة، أو “التدوير المزدوج” في الصين، أو “الاستقلالية الاستراتيجية” في أوروبا، فإن الحوارات والمناقشات السياسية التي طال انتظارها تجري الآن على قدم وساق.
هنا، أجد أن المحادثة الأوروبية مشجعة بشكل خاص، لأنها تركز على توجيه الرغبة في قدر أعظم من السيطرة على نحو يستبعد النزعة القومية الهازمة للذات. يمتد سعي الاتحاد الأوروبي إلى السيادة إلى خمسة مجالات على الأقل (القضايا الاقتصادية والمالية، والصحة العامة، والتحول الرقمي، وسياسة المناخ، والأمن)، وقد حقق الأوروبيون تقدما طيبا على كل من هذه الجبهات. الواقع أن إنشاء صندوق التعافي بقيمة 750 مليار يورو (915 مليار دولار أميركي) يثبت أن دولا مثل ألمانيا على استعداد لتجاوز خطوطها الحمراء التقليدية في سبيل التضامن.
بالطبع، من السابق للأوان أن نعلن النصر في أي من معاركنا الحالية. فسوف يناضل بايدن لحكم بلد مستقطب في مواجهة مقاومة شديدة من جانب الجمهوريين. ويشكل توصيل اللقاحات إلى العالم بأسره تحديا لوجستيا هائلا. وقد تتسبب القوى العظمى المتنافسة في عرقلة أجندة المناخ وإخراجها عن مسارها خلال فترة التحضير لقمة المناخ (COP26) التي تستضيفها جلاسجو في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. وقد يُـفضي تهديد الركود وأزمات الدين إلى تفاقم واتساع فجوة التفاوت، مما ينذر بالعودة إلى سياسات أكثر سُـمّـية وخطورة. وسوف يتوقف أحياء الحلم الأوروبي على نتيجة الانتخابات الوطنية الشديدة التنافسية والتنازع.
ولكن رغم كل هذا، مع اقتراب عام 2021، تبدو الأمور أفضل كثيرا مما كانت عليه قبل بضعة أشهر. والآن لدينا خمسة أسباب على الأقل للاحتفال بالعام الجديد.
رابط المصدر: