مُستقبل القدس في ظلّ الاستيطان والتهويد

مصطفى قطبي

 

ما يجري من عدوان يومي ممنهج بحق القدس والمسجد الأقصى من قبل شرطة الاحتلال ومستوطنيه تخطى كل عدوان سابق وكل ما يمكن تخيله منذ احتلال القدس سنة 1967، وليس غريباً إذن، والحال هذه، أن يجد كيان الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه مرتعاً خصباً، وأرضاً ممهدة للعربدة وانتهاك المقدسات الإسلامية في القدس المحتلة تحت مرأى ومسمع من العالمين العربي والإسلامي، وتحت حراسة مشددة من غيوم ”الربيع الإسرائيلي ـ الغربي” ومؤامراته وكوارثه، جدد مستوطنون إسرائيليون يوم 14/01/2021 اقتحام المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وذكرت وكالة وفا أن عشرات المستوطنين اقتحموا الأقصى من جهة باب المغاربة ونفذوا جولات استفزازية في باحاته بحراسة مشددة من قوات الاحتلال. وقد أكدت الخارجية الفلسطينية أن حكومة الاحتلال تواصل الاستناد على الانحياز الأميركي الكامل لسياستها الاستعمارية في تنفيذ مخططاتها ومشاريعها التهويدية للقدس المحتلة وللمسجد الأقصى وباحاته بشكل خاص، مشيرة إلى أنها لطالما حذرت المجتمع الدولي من تلك المخططات، وحذرت مجدداً من تداعيات الصمت على إجراءات الاحتلال، ومن نتائج التعامل معها كأمور اعتيادية باتت مألوفة، مؤكدة أن تصعيد الاحتلال من عمليات تقسيم الأقصى تتحدى مصداقية المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظماتها المختصة، وتختبر قدرتها ورغبتها على تحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية في توفير الحماية للشعب الفلسطيني من انتهاكات الاحتلال وجرائمه المتواصلة، وفي تحمل مسؤولياتها أيضا في تنفيذ وضمان تنفيذ قراراتها ذات الصلة.

ومن باب تأكيد المؤكد، فإنّ انتهاك المقدسات الإسلامية في القدس المحتلة من قبل المحتل الإسرائيلي، مرتبط بشكل أساسي بعامل خطير وهو إخضاع المقدسيين وما يتبعها من قرارات المنع والحظر والاعتقالات المتواصلة للعاملين في الحرم القدسي أو المرابطين حوله وتحويل المدينة المقدسية إلى ثكنة عسكرية تخضع لحصارين متتاليين، الأول حول الحرم القدسي بإغلاق البوابات الخارجية ومنع الفلسطينيين من الدخول إليه، والثاني تقطيع أوصال المدينة وعزلها عن محيطها لإثبات وجود الصهاينة في المكان بشكل دائم.

وفي هذا السياق، حذرت اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس في فلسطين من خطورة مخطط الاحتلال الإسرائيلي لتهويد البلدة القديمة في القدس المحتلة وتغيير هويتها التاريخية. وأكدت اللجنة في بيانها أوردته وكالة وفا، أن مخطط الاحتلال الاستيطاني التهويدي الذي يهدف إلى تغيير الطابع التاريخي العربي الإسلامي والمسيحي في البلدة القديمة يشكل خرقا صارخا لكل القرارات الدولية ذات الصلة وفي مقدمتها قرارات منظمة اليونسكو التي أدرجت البلدة القديمة في القدس المحتلة على قائمة التراث العالمي.

وفيما يتبنى العرب خيار ”المفاوضات” مع مغتصبي الأرض والمقدسات والحقوق، من دون أي خيارات أخرى، ويضعون كل بيضهم في ”سلة أمريكا” التي ترغمهم على تقديم المزيد من التنازلات المجانية… فقد وضع “نتانياهو” السلطة الفلسطينية، والدول العربية أمام الحقيقة المؤلمة التي تجاهلها سنوات طويلة، وهم يبحثون عن فتات حقوق على طاولة المفاوضات المذلة، وفي أروقة المؤسسات الدولية الحامية والراعية للحالة الإسرائيلية، وقال للجميع وبالفم الملآن: لا لخطة السلام العربية، لا للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، لا لعودة اللاجئين، ولا لإقامة الدولة الفلسطينية، ونعم للاحتفاظ بالقدس الموحدة عاصمة ”يهودية لإسرائيل”.

نتانياهو ـ وكما عادته في اقتناص الفرص ـ استغل الانقسام الفلسطيني، والمستجدات التي تعصف بالمنطقة، وتجاهل المجتمع الدولي لجرائمه، ليقوم برفع وتيرة الاعتداءات على القدس والأقصى، وتصعيد حمى الاستيطان والحصار، وجرائم التطهير العرقي، والحكم على الشعب الفلسطيني بالنفي والتشرد في أربعة أرجاء المعمورة، وهو موقن بأن القضية الفلسطينية في مجملها، لم تعد لها الأولوية على الأجندة السياسية العربية، وذلك لتحقيق استراتيجية الكيان الصهيوني القائمة على تحويل الضفة الغربية إلى كانتونات وجزر معزولة، وتهويد القدس، وتالياً، إيجاد المسوغات لنسف ما يسمى بعملية ”السلام” ومنع إقامة الدولة الفلسطينية.

للأسف الشديد، فالوقائع المادية على الأرض، تشير أنّ الاحتلال الإسرائيلي يعمل على تهويد القدس المحتلة على مختلف الصعد ويستثمر مقدرات ضخمة في سبيل تحقيق خططه التهويدية وتتجلى خطط التهويد في الاستهداف الدائم للمسجد الأقصى ومحاولات الاحتلال المستمرة احتلال كامل المسجد، ولا تنتهي الموجة بتهويد أسماء شوارع القدس، واستهداف سكان المدينة الفلسطينيين، وخطط الاحتلال الرامية إلى طردهم من المدينة، وحصارهم بعشرات المستوطنات والبؤر الاستيطانية في مختلف أنحاء القدس المحتلة، إن كان داخل البلدة القديمة أو خارجها.

ويمكن القول أنه مع نهاية العام 2020، بالنسبة لمدينة القدس، فإنها عاشت أوضاعا عصيبة واستثنائية، مع تواصل واستمرار عمليات التهويد حتى داخل أحيائها العربية القديمة، دون أن ترف جفن عين الاحتلال الإسرائيلي، الذي يضع أمامه الآن إنهاء الوضع العربي وتحويله إلى أقلية في بحر الوجود اليهودي، خصوصا من مجموعات اليهود المتدينين، الذين يعلنون ليل نهار، أن “مدينة القدس عاصمتهم الأبدية”. لقد كانت مدينة القدس، وما زالت، ضحية كبرى من ضحايا النكبة، حيث ما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تسلط عليها سيف التهويد والاستيطان لمحو الوجود العربي بداخلها، وتحويلها لمدينة يهودية صافية على المديات البعيدة دون مواطنيها الأصليين من العرب الفلسطينيين أصحاب البلاد.

ففي العام 2019 قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بهدم وتدمير 678 مبنى في الضفة الغربية، منها حوالي 40 في المائة في محافظة القدس بواقع 268 عملية هدم، وتوزعت المباني المهدومة بواقع 251 مبنى سكنيا و427 منشأة، كما أصدر الاحتلال الاسرائيلي خلال العام 2019 أوامر بوقف البناء والهدم والترميم لنحو 556 مبنى في الضفة الغربية والقدس. وحسب مؤسسة المقدسي، ومركز عبد الله الحوراني للأبحاث والدراسات في قطاع غزة، فمنذ العام 2000 وحتى 2019 تم هدم نحو 2.130 مبنى في القدس الشرقية (ذلك الجزء من محافظة القدس الذي ضمته دولة الاحتلال الإسرائيلي عنوة بُعيد احتلالها الكامل للضفة الغربية في عام 1967). ولا ننسى ما تم هدمه بعد ذلك عام 2020، في حي (وادي الجوز)، وحي (صور باهر) في حدود مدينة القدس. وحي (وادي الحمّص) الواقع تحت يد الاستهداف الإسرائيلي التهويدي الاستيطاني، ففي عام 2015 بدأ جيش الاحتلال بسياسته المعهودة لضم الحي، وسلم أصحاب ثلاث بنايات أوامر بالهدم، ثم امتدت أوامر الهدم لتشمل 12 بناية أخرى، وهكذا أصبحت عشرات الشقق السكنية تحت خطر الهدم منذ العام 2015.

وتُقدّر منظمة مراقبة حقوق الإنسان، ووفق مُعطيات مكتب الإحصاء المركزي الفلسطيني في رام الله، في تقرير شامل نشره في الذكرى الــ72 للنكبة، أن هناك نحو تسعين ألف فلسطيني في القدس الشرقية يعيشون حاليًّا في مبانٍ مُهددة بالهدم. فسياسات الإسكان الإسرائيلية في القدس الشرقية تميّز بشكل عنصري ضد الفلسطينيين، بحيث لم تخصص للمنشآت الفلسطينية سوى 12 في المائة فقط، بالمقابل خصصت 35 في المائة من أراضي القدس الشرقية لبناء المستعمرات اليهودية، وحتى في هذه المنطقة الصغيرة، لا يمكن للفلسطينيين تحمل كلفة إتمام عملية استصدار تصاريح البناء، وهي عملية معقدة وباهظة التكلفة.

إذاً المعركة متواصلة في القدس المحتلة، وعناوينها تزداد يوماً بعد يوم، وتتنوع بين محاولات وسياسات تهويد وتدنيس المدينة ومقدساتها، وحتى مقابرها التاريخية، وأسماء شوارعها وأحيائها، والتضييق على الصامدين من أهلها المقدسيين، وتصعيد وتيرة العدوان عليهم، من خلال سياسة العزل، والاعتداء الجسدي واللفظي، وسحب الهوية، ومصادرة أملاكهم وزرعها بالمستوطنات، وقد أخذت معركة القدس أبعاداً جديدة، عندما دخلت المواجهة المفتوحة، في ساحات المسجد الأقصى المبارك… مرحلة الاشتباك غير المتكافئ بين الفلسطينيين العزل، وجنود الاحتلال المدججين بالسلاح…

إن إسرائيل وبتلك الأعمال اللاأخلاقية في حق المسجد الأقصى بشكل خاص قد تجاوزت كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية والمعاهدات القانونية المعمول بها في هذا الخصوص، كاتفاقية جنيف المبرمة في عام 1945 والملاحق الملحقة بها في العام 1977 واتفاقية فيينا لعام 1983 بشأن خلافة الدول في الممتلكات، والتي أضفت حماية قانونية خاصة على المقدسات الدينية، والقرار الدولي رقم 533 لعام 1986 والذي يقضي بإدانة محاولة تهويد بيت المقدس وإزاحة الطابع العربي والإسلامي منه، والقرار رقم 476 الصادر في 5 يونيو 1980 والذي شجب تمادي إسرائيل في تغيير الطابع العمراني لها، وتكوينها الديموغرافي وهيكلها المؤسسي، وغيرها الكثير من القوانين الرسمية المعترف بها دولياً. والغريب في الأمر أن الحكومة الإسرائيلية نفسها قد أقرت بتلك الالتزامات وأصدرت قانوناً لتأكيده هو القانون رقم 5727 لسنة 1967 والذي جاء فيه أنه ”تحفظ الأماكن المقدسة من أي انتهاك لحرمتها ومن أي شيء قد يمس بحرية وصول أبناء الأديان… أو بمشاعرهم تجاه هذه الأماكن ”ونص على عقوبة الحبس لمدة خمس سنوات لكل معتد على هذه الأماكن.

فأين العالم الإسلامي والمسيحي والدولي من كل تلك الانتهاكات السافرة لحقوق الشعب الفلسطيني ومقدساته الإسلامية والمسيحية؟ وأين هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الحقوقية والقانونية والإنسانية وكل أولئك المتشدقون بحقوق الإنسان والديمقراطيات وغيرها من تلك المصطلحات ”التي أصبحت لا تسمن ولا تغني من جوع” من كل تلك الجرائم البشعة التي تمارس يومياً بحق المقدرات والمقدسات الفلسطينية؟ نعم أين هؤلاء مما يجري في الأقصى؟ أين هم وأعلام إسرائيل ترفع وترفرف فوقه؟ وقطعان المستوطنين تدنس حرماته كل يوم؟ والحفريات الإسرائيلية تدك الأساسات من تحته ومن حوله وتذيب صخوره بالمواد الكيماوية؟ لماذا لا يدعون لاجتماع طارئ لمجلس الأمن؟ أو يحشدون لمؤتمر أصدقاء الشعب الفلسطيني والأقصى؟

خلاصة الكلام: هي معركة وجود وبقاء يخوضها المقدسيون ومن ورائهم الفلسطينيون بالنيابة عن بقية الأمة لحماية مقدساتهم والوقوف في مواجهة آلة التغول التهويدية التي لم تترك حجراً إلا وعملت على نهبه ونسبته إلى تاريخ مزيف من الوجود اليهودي في فلسطين المحتلة، وإلى أن يدرك العرب والمسلمون وبقية الشعوب ما يجري لتلك المقدسات والمحاولات الجارية للاستيلاء عليها، يظل العبء الأكبر ملقى على عاتق المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام، وهي مسؤولية لا يتم بها تشريفهم إلا مع القيام بها على أكمل وجه، لكن ذلك لا ينتقص من مطالبهم تجاه توفير الحد الأدنى من الدعم المعنوي والمادي، وهو بالمقابل حق وواجب على أبناء العرب والمسلمين وليس تفضلاً أو تكرماً، فمسؤولية حماية أولى القبلتين وثالث المساجد المقدسة لدى المسلمين هي مسؤولية عامة ومشتركة، ولا يجوز التعويل فيها على ردات فعل أو تصرفات فردية، مهما كانت مهمة أو مؤثرة.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/25849

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M