لا تزال موسكو تنتهز فرص سياسات فك الارتباط الأمريكي من المنطقة، فبعد نجاحها في دخول مياه المتوسط عبر سورية وإنشائها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، توجّهت مؤخرًا إلى مد نفوذها لمياه البحر الأحمر عبر بوابة السودان، وهي منطقة استراتيجية عاد إليها زخم التنافس الدولي في السنوات الأخيرة؛ بهدف بسط النفوذ والسيطرة على الموارد من جهة والتحكّم بطرق التجارة العالمية من جهة أخرى. وحيال إقدام موسكو على تحويل المركز اللوجستي البحري الذي أعلنت عنه في منطقة بورتسودان- السودان إلى قاعدة متكاملة على غرار قاعدتها في طرطوس- سورية، فمن شأن ذلك أن يزيد المخاطر والنزاعات في المنطقة ويضاعف من حالة العسكرة للمياه الدولية، لا سيما بعد ملامح متغيّرات قادمة في السياسات الأمريكية على أيدي الديمقراطيين.
تناقش الورقة نفوذ روسيا في السودان، خلفياته والأهداف الاستراتيجية والتداعيات المستقبلية.
مقدمة:
في 11- تشرين الثاني/ نوفمبر- 2020، وافق رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميتسوستين على مسودة اتفاق مقدّمة من وزارة الدفاع تقضي بإنشاء مركز لوجستي بحري في السودان، يمكن من خلاله تأمين إمدادات الوقود وعمليات الصيانة للأطقم والأفراد الروسية البحرية التي تعبر المنطقة، وحسب نص الاتفاق المنشور على موقع الحكومة الروسية،[1] فإنَّ المركز سيسمح بوجود 300 عسكري ومدني روسي وأربع مركبات تعمل بالطاقة النووية، وستقوم موسكو بنقل المعدات والأسلحة اللازمة عبر مرافئ ومطارات السودان لتأمين تشغيل القاعدة، مقابل مساهمتها في عمليات حفظ السلام والاستقرار في المنطقة.
بورتسودان على البحر الأحمر، المصدر: EURACTIV.[2]
بعد أيام قليلة من إعلان وزارة الدفاع صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مذكرة المنشأة البحرية،[3] ما يمهد الطريق لأول موطئ قدم عسكري لموسكو في إفريقيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد توقعت رويترز نقلًا عن وكالة تاس الروسية، أنَّ المنشأة الجديدة ستسهل عمل قوات البحرية الروسية في المحيط الهندي، وستساهم في تحصين مكانة روسيا في إفريقيا من خلال تأمين أنظمة صواريخ أرض-جو متطوّرة، وهو ما قد يسمح مستقبلًا بإنشاء منطقة حظر طيران على غرار ما قامت به في قاعدة حميميم السورية.[4]
جاء الاتفاق بعد شهر واحد من إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمها إزالة السودان من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب،[5] والتي يُنظر إليها على أنَّها ثمرة تفاهمات لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، وفي هذا السياق سيكون الاتفاق الروسي السوداني عامل استفزاز للولايات المتحدة التي تأمل في تحقيق نفوذ أكبر على السلطات الانتقالية في السودان.
وعلى الرغم من أهمية الاتفاق الروسي السوداني وتفاعلاته المستقبليّة مع دول الجوار الإفريقي، لكنه لم يأتِ بشكل مفاجئ، بل جاء نتيجة مسار علاقات صاعدة بين روسيا والسودان طيلة السنوات الخمس الماضية، ويعتقد الكثير من الخبراء أنَّ اتفاق المنشأة البحرية قد تمَّ نقاشه في عهد الرئيس المعزول عمر البشير أثناء زيارته إلى روسيا في 2017، لكن الاتفاق لم يُنفذ حينها بسبب اعتقاد موسكو أنّ الظروف الدولية غير مناسبة فضلًا عن رغبتها في عدم إزعاج واشنطن، وما جعلها تميل إلى تنفيذ الاتفاق مؤخرًا هو رغبتها في ملئ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة، بالتالي بدأت روسيا تنظر إلى تعزيز وجودها في السودان على أنها فرصة لاستعادة مكانتها القديمة في القارة، تجلّى ذلك من خلال دبلوماسية الكرملين في التعامل مع السودان وحفاظها على الاتفاقيات التي أبرمتها مع حكومة البشير والبدء في تنفيذها مع القيادة الحالية، وهو الأمر الذي طرح تساؤلًا عن كيفية نجاح موسكو في تعزيز حضورها داخل السودان الذي شَهِدَ موجة تحولات خلال الفترة بين 2017- 2019.
أولاً: روسيا أساليب بناء النفوذ في السودان
1- حقبة الرئيس المعزول عمر البشير
يدخل السودان ضمن اعتبارات السياسة الخارجية الروسية انطلاقًا من موقعه الحيوي المطل على البحر الأحمر بساحل يمتد مسافة أكثر من 700 كم، يفصل بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، ويطلُّ على مضيق باب المندب وخليج عدن وشبه جزيرة سيناء. أما ميناء بورتسودان الذي تتوجّه الأنظار إليه فهو أحد أهم الموانئ في المنطقة إلى جانب ميناء عصب ومصوّع في إريتريا، كونه يتوسط ساحل البحر الأحمر وتبلغ سعته حوالي 1.3 مليون حاوية سنويًا ويستقبل ما يقارب 400 ألف حاوية.[6] ومن أجل تحقيق عدة أهداف استراتيجية بالنسبة لروسيا في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر لجأت خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز حضورها داخل السودان، فمن وجهة نظر الكرملين تخدم العلاقات القوية مع الخرطوم المصالح الروسية في نواحي متعددة.
شهدت حقبة الرئيس المعزول عمر البشير تطورًا ملحوظًا في تعزيز العلاقات الروسية السودانية، وذلك من خلال تبنّيه مقاربةً خارجية تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي في العلاقات مع الدول الكبرى، وفي أواخر عهده أصبح يهتم بشكل عملي في فك عزلة السودان الدولية، والتي يُعتقد أنَّ الولايات المتحدة هي من تقف خلفها، وعلى خلفية التهميش الأمريكي للسودان في حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى جانب خضوع البلاد لأزمات داخلية متعددة أهمها تحقيق استقلال جنوب السودان في 2011 والتي أدّت إلى استنزاف موارد الخرطوم النفطية، دفعت البشير إلى زيارة موسكو في 2017 حيث طلب بشكل مباشر وفق مصادر[7] المساعدة العسكرية من موسكو ضد ما أسمَاه الخطر الأمريكي الهادف إلى تقسيم السودان إلى خمس دول، ومن بين الطلبات كانت تسهيل حصول السودان على أسلحة متطوّرة من الجيل الرابع، كذلك عرض على الرئيس بوتين إنشاء قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان مقابل تأمين الحماية له، ومن وجهة نظر البشير وبالنظر إلى حقيقة أنه مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي على خلفية اتهامه بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، فإنَّ الشراكة مع روسيا والصين من شأنها أن توفر له الحماية داخل مجلس الأمن.
استغلّت موسكو حاجة البشير ووقعت معه عدة اتفاقيات في مجالات مختلفة تتعلّق بالتدريب وتبادل الخبرات ودخول السفن الحربية لموانئ البلدين،[8] كما حصلت بنفس العام على وصول تفضيلي لاحتياطات الذهب لصالح شركة تعدين تابعة لها،[9] ومع اندلاع الاحتجاجات في المحافظات السودانية ضد حكومة عمر البشير في كانون الأول/ ديسمبر- 2018 سارعت موسكو من باب الحفاظ على الاتفاقيات لدعمه، ورغم إزاحة الجيش للبشير ، إلّا أنَّ موسكو لم تخسر رهانها في حفاظها على الاتفاقيات حيث بدّلت موقفها ودعمت المجلس العسكري الانتقالي، وبذلك تكون موسكو قد فتحت صفحة علاقات جديدة تسعى من خلالها إلى استكمال استراتيجية بناء النفوذ، والنفاذ من خلال السودان إلى البحر الأحمر.
2- دعم المجلس العسكري الانتقالي
بعد إزاحة الجيش للبشير في نيسان/ أبريل- 2019، سارعت موسكو لتقديم الدعم للمجلس العسكري السوداني، بهدف الحفاظ على الامتيازات والعقود التي أُبرمت في حقبة البشير، واستخدمت في دعم المجلس نفس الطرق والأساليب الناعمة التي استخدمتها في كثير من مناطق النزاعات الموجودة فيها كسورية – أوكرانيا- فعلى سبيل الذِكر وفي 4- حزيران/ يونيو- 2019 أجهضت موسكو بالتعاون مع بكين قرارًا لمجلس الأمن الدولي يدين ارتكاب المجلس العسكري انتهاكات ضد المدنيين في أوائل حزيران/ يونيو-2019،[10] وخلال هذه الفترة تأثّرت صورة روسيا داخل الأوساط المدنية السودانية والتيارات المعارضة للجناح العسكري التي رأت في الدعم الروسي له وقوفًا ضد تطلعاتها في البلاد، مما دفع موسكو إلى نسج علاقات معهم بهدف تحسين صورتها وذلك من خلال تأييدها اتفاق تقاسم السلطة الذي تمّ التوصل إليه في آب/ أغسطس 2019.[11] كذلك سعت إلى تعزيز الروابط العسكرية بين الجيشين الروسي-السوداني عبر عقد عدة مشاريع مشتركة مع الخرطوم في المجال الأمني خلال المنتدى الاقتصادي الروسي الإفريقي الذي عقد في سوتشي في 23-24/ تشرين الأول/ أكتوبر 2019،[12] حينها تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد لقائه مع رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان بتنفيذ عدد من المشاريع المرتبطة بإصلاح وتدريب الجيش السوداني وتعزيز قدراته، إلى جانب التمسّك بتنفيذ الاتفاقية البحرية والتي بدأ الحديث عنها بشكل رسمي في مطلع كانون الأول/ ديسمبر -2020. ويعد هذا المطلب هدف موسكو الاستراتيجي الأول من جراء وقوفها مع المجلس العسكري الانتقالي.
ثانيًا: حسابات موسكو الاستراتيجية من وراء بناء نفوذها في السودان
خلال فترة الحرب الباردة بلغ التنافس الدولي أشدّه على فرض الهيمنة والنفوذ في الشرق الأوسط وإفريقيا، خاصةً بما يتعلّق بالقواعد العسكرية والموانئ البحرية، حينها حاولت روسيا السوفييتية الحفاظ على وجودٍ عسكريّ دائم لها في شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي، بهدف تأمين إمدادٍ دائم لعملياتها البحرية، ومن المعروف أنها كانت تتحكّم بقاعدة بربرة[13] _الميناء الرئيسي لما يُعرف بأرض الصومال_ لكنّها خسرتها عقب اندلاع الحرب الأهلية بين أثيوبيا- إريتريا، ومع توالي الأزمات الداخلية في تلك المنطقة وصولًا إلى انهيار دول الاتحاد في 1991م فقدت روسيا موطئ قدمها في تلك المنطقة بعد تنفيذ عمليات انسحاب للقوات، مما أدى إلى انحسارٍ كبيرٍ لها في الشرق الأوسط وإفريقيا.
ومع وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسلطة عام 2000، أعاد ترتيب أولويات واعتبارات موسكو الخارجية، فكانت سورية أولى نقاط الارتكاز للعقيدة البحرية الروسية، ولعلّ النجاح بوضع ركيزة لها في المياه الدافئة فتحت شهية الكرملين لاستعادة طموحات روسيا التاريخيّة في المنطقة، وكانت أولى الاهتمامات وضع نقطة ارتكاز استراتيجي في القرن الإفريقي الذي شهد مؤخرًا تزاحمًا للقوى الخارجية انطلاقًا من جيبوتي التي تحوي قواعد عسكرية لفرنسا- وأمريكا،[14]ووفقًا لبعض المصادر[15] فإنَّ موسكو حاولت خلال الفترة بين 2012-2016 إقناع جيبوتي بإنشاء قاعدة عسكرية، لكن الأخيرة رفضت بعد معارضة الولايات المتحدة، كما أن جيبوتي امتنعت عن تلك الخطوة خشيةً من أن يؤول ازدحام القواعد لديها إلى حدوث اشتباك بحري دولي بين قوى متضاربة في الأجندة والمصالح.
بعد فشل الجهود مع جيبوتي لجأت موسكو إلى إريتريا معتمدةً على إرث العلاقات القديمة، وفي آب/ أغسطس- 2018 أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رسميًّا أنَّ روسيا وإريتريا تتفاوضان بشأن فتح قاعدة لوجستية على الساحل الإريتري.[16]
ورغم كل ذلك شاب الغموض مصير الاتفاقية ولم يصدر أي تقدّم أو تصريح من الطرفين، وهو ما قاد إلى اعتقاد بأنَّ تحرّك موسكو نحو السودان كشف عن تعثر محاولاتها السابقة مع عدة بلدان منها اليمن، حيث كانت موسكو تضع عينها على جزيرة سقطرى لكن الإمارات وضعت يدها عليها منذ حزيران/ يونيو- 2020.[17]
وبموجبه وانطلاقًا من كل تلك الجهود استطاعت روسيا جني ثمارها من خلال بوابة السودان فالقاعدة اللوجستية في بورتسودان تعد مرحلة أولى أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله تحقيق الآتي.
- وجود منشأة عسكرية في بورتسودان ولو كانت في البداية على صعيد لوجستي فهي تُنذر بعودة روسيا إلى الخريطة الجيوسياسية في إفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول جنوب الصحراء، وقد تزداد جهود روسيا مستقبلًا ليس فقط في وسط إفريقيا بل مع دول الساحل الإفريقي، حيث أنشأت موسكو سابقًا وجودًا أمنيًا لها في ظل فشل الجهود الفرنسية في محاربة الإرهاب، وتعد جمهورية مالي آخر النماذج التي شهدت تناميًا للدور الروسي بعد وقوع حادثة انقلاب داخل السلطة.[18]
- عطفًا على البند السابق توجد عدة دلائل تكشف عن إمكانية إطلاق يد روسيا في إفريقيا حيث تُعتبر موسكو مُورِّدًا رئيسيًا للأسلحة الإفريقية وحسب تقديرات معهد ستوكهولم الدولي[19] للأبحاث فإنَّ نسبة صادرات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا بلغت 37.3%، تليها الولايات المتحدة بـ16% وفرنسا بـ 14%، والصين بـ9%، كما أنَّ موسكو ستستفيد في الجانب العسكري مع الدول التي وقّعت معها مؤخرًا صفقات عسكرية من بينها أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية، بما في ذلك الطائرات والمروحيات، الصواريخ المضادة للدبابات ومحركات للطائرات الحربية.[20]
- يؤمّن الارتكاز البحري لموسكو في السودان إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر، ممّا يعني فرض نفسها كلاعب متحكّم في معادلات الطاقة الجديدة والتي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.
- بوابة السودان البحرية ستفتح المجال أمام الأسطول الروسي لتعزيز موقعه البحري في المحيط الهندي، ما يوفر مرفقًا آخر للمياه الدافئة إلى جانب قاعدة طرطوس حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد ومن دون شرط العبور من قاعدة طرطوس.
- سيُتيح قرب المركز اللوجستي من جيبوتي واليمن والطرق الرئيسية لأساطيل حلف الناتو إمكانية لموسكو من مراقبة أنشطتهم التجارية والاقتصادية والعسكرية، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على التوازنات الإقليمية في المنطقة.
- يمنح الوجود العسكري الروسي في السودان ورقة قوة قد تستخدمها في إطار النشاط التركي المتزايد والوجود الأمريكي والصيني، ويتضح ذلك من خلال توقيت الاتفاقية التي تزامنت مع سلسلة المفاوضات بين الخرطوم والولايات المتحدة.[21]
- أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لروسيا من وراء بناء نفوذ لها في السودان محاولتها تأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي بهدف خدمة أهدافها في شرق أوروبا، إلى جانب التهرّب من حزمة العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب سياساتها في المنطقة كأزمة أوكرانيا على سبيل المثال.
- في المقابل ستستفيد الخرطوم من تعزيز علاقاتها مع موسكو في عدة مجالات وهي:
- تنظر الخرطوم إلى روسيا كشريكٍ موثوقٍ به يمكنه مساعدتها في الحفاظ على سلامة واستقرار البلاد، وهذا يتماشى مع ما سبق من دعم موسكو للنظام السوري.
- رغبة السودان في حضور موسكو الحيوي نابعة من إرادة سياسية داخل مكونات السلطة وتهدف إلى تحقيق علاقات متوازنة مع الدول الكبرى، وهي سياسة خارجية مستمدّة من حقبة الرئيس المعزول عمر البشير واستمرّت على أيدي قادة المجلس العسكري، بالتالي قد تلجأ السودان إلى استخدام المنشأة البحرية الروسية في بورتسودان لممارسة ضغط على الدول التي لها مصلحة في توسيع وجودها داخل السودان.
- تسعى الخرطوم إلى الخروج من عزلتها الدولية وإنعاش قطاعها الاقتصادي بعد تحررها من بعض القيود الغربية التي كلفتها فاتورة باهظة الثمن خلال حقبة البشير، وفي هذا الصدد ومن خلال تقاربها مع موسكو فهي تستعد لحصولها على ثمار الصفقات العسكرية التي جاءت في بنود الاتفاقية البحرية، فموسكو قد تُزوّد الخرطوم بأسلحة ومعدات مقابل حصولها مجانًا على أرض للمنشأة، كذلك ستقوم موسكو بتطوير القوات البحرية السودانية.
- على صعيد الاقتصاد ستستفيد الخرطوم من عائدات الاتفاقيات في قطاع التعدين من خلال رفع الكفاءة وتطوير خط نقل النفط بين الجنوب والشمال فضلًا عن عائدات الذهب والغاز بموجب اتفاق جرى في 2018.[22]
ثالثاً: تحديات النفوذ الروسي
1- مع السودان
لا شك إنَّ تنامي النفوذ الروسي في السودان والذي اتضح أكثر بموجب الإعلان عن اتفاقية المنشأة البحرية، سيضعها أمام تحديات هائلة في المستقبل، وحسب اعتقاد رئيس مركز الأمن الدولي في معهد بريماكوف لبحوث الاقتصاد العالمي أليكسي أرباتوف، فإنَّ تعزيز مكانة روسيا في المنطقة قد يؤدّي إلى تكاليف إضافية إذ سيترتّب على موسكو أن تضع في اعتبارها المخاطر المحتملة لعدم الاستقرار السياسي في السودان.[23]
استند أرباتوف في كلامه على اعتقاد أنَّ التحولات الداخلية الجارية في السودان قد لا تؤول إلى تحقيق استقرار نهائي، فالمرحلة الانتقالية التي انطلقت عقب الإطاحة بحكومة البشير لا تزال متراخية، ولا تزال الأزمات والوضع الاقتصادي يعصف بالبلاد رغم محاولات المجلس العسكري فك عزلة البلاد عبر جذب المستثمرين والأموال من الخارج.
على صعيد آخر تحمل خطوة موسكو الاستراتيجية الخاصة بالمنشأة البحرية جانبًا سلبيًا مرتبطًا بأمن السودان، وذلك لأنَّ الاتفاق قد يُتيح لروسيا جلب أسلحة نووية إلى داخل المنشأة التي ستكون منفذها الثاني في المياه الدافئة، ومن شأن ذلك أن يُعرِّض أمن السودان للخطر أمام جميع القوى الموجودة في المنطقة حيال أي تصعيد مع روسيا.[24]
2- الصين
ستضطر روسيا إلى خوض منافسة عالية مع الصين على وجه الخصوص والتي عملت طيلة عقود ماضية على بناء نفوذ ضخم داخل إفريقيا مستفيدةً من تراجع اهتمام الولايات المتحدة في المنطقة، كما أنَّ خطتها الحزام والطريق التي أعلنت عنها في 2013، تعد من أهم المشاريع الجيوسياسية والاقتصادية التي لم يشهد العالم مثلها منذ خطة مارشال التي نُفّذَت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية،[25] وبما يتعلق بخط الاشتباك مع روسيا سيكون في الجزء المخصص من خطة الحزام في إفريقيا حيث تسعى بكين لربط الموانئ والمعابر البحرية في مياه المتوسط والبحر الأحمر مع بعضها البعض بهدف تأمين الموارد النفطية والغازية، بالتالي فإنَّ موسكو التي تسعى للعب دور حيوي في معادلة الطاقة ستكون في تماس مباشر مع الصين، وقد يؤول ميزان القوى لصالح الأخيرة كونها لاعب قديم في المنطقة لها حضور فاعل في سلسلة موانئ البحر الأحمر والمتوسط عبر شركات تابعة لها، كما أنَّ قاعدتها البحرية في جيبوتي التي أعلنت عنها في 2018، يُضفِي عليها طابع الوجود العسكري والذي حسب زعمها سيكون لحماية مصالحها في المنطقة، عند هذا المنعطف قد لا يوجد خيار أمام موسكو إلّا التعامل مع الصين من مبدأ وحدة المصالح المتبادلة والأهداف المشتركة ضد الولايات المتحدة الأمريكية والتي قد تعود على خط المنافسة بقوة مطلع العام 2021.[26]
3- تأثير أقل مع الولايات المتحدة
من المعلوم أنَّ سياسات روسيا التوسعيّة في الخارج تنطلق في جزء منها برغبة إظهار قوتها أمام الولايات المتحدة، وقد كان لافتًا أنَّ مصادقة الرئيس بوتين على تمرير صفقة المنشأة البحرية قد جاءت في وقت حرج بالنسبة لأمريكا التي تمر في حالة تبدّل على مستوى الحكم في البلاد، كذلك الاتفاقية جاءت بعد سلسلة وعود أمريكية للسودان بإزالتها لأول مرة من قائمة الإرهاب، لكن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب بالنسبة لحكومة الخرطوم والتي أزعجها إلى حدٍّ ما قرار الرئيس دونالد ترامب تمديد حالة الطوارئ في البلاد بُعيد التفاهمات لتطبيع علاقات السودان مع إسرائيل، بالتالي قد تلجأ السودان إلى استثمار تقاربها مع موسكو كورقة ضغط في العلاقات الأمريكية القادمة مع السودان، وتحديد أطر هذه العلاقة ستكون مهمة بالنسبة لروسيا، فإذا استمرت إدارة بايدن في تجنّب السودان ربما ستحتفظ موسكو بقدرتها على العمل كشريكٍ موثوقٍ به للخرطوم، أما إذا ما تحسّنت العلاقات الأمريكية السودانية فمن شأن ذلك أن يهدد علاقات روسيا مع السودان،[27] لكن هذا لا يعني أنَّ روسيا ستفقد كامل نفوذها بسبب أنَّ خطتها الاستراتيجية الشاملة في قارة إفريقيا والقرن الإفريقي لم تبنيها بشكل كامل من خلال علاقاتها مع السودان، فهي أحاطت نفسها مسبقًا عبر تعزيز شراكاتها مع دول جوار السودان الحيوي كأثيوبيا التي ألغت لها كامل ديونها المستحقة عليها منذ حقبة الاتحاد السوفيتي والبالغة 163.6، مليون دولار،[28] ومن هنا يمكن القول: لا يغفل عن موسكو خيار عودة العلاقات الأمريكية السودانية مستقبلًا وفي حال تم استقطاب حكومة الخرطوم لصالح الولايات المتحدة فسيكون هناك شركاء آخرين لموسكو في المنطقة ستلجأ إليهم بهدف المضي قدمًا في تحقيق استراتيجيتها تجاه إفريقيا والبحر الأحمر.
ويعود سبب اهتمام روسيا بمياه البحر الأحمر إلى اعتبارين رئيسييّن، الأول يرتبط بأهمية المنطقة الجيوبوليتيكية وما تحمل من أبعاد جيوسياسية مهمة للمشروع الروسي التوسّعي، فموقعه الحيوي سهّل إمكانية وصول الدول الكبرى إلى المحيطين الهندي والأطلسي، فهو يقع بقلب قوس غير مستقر كما حدده البروفيسور برجنيكسي، وهو القوس الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الإفريقي ومنطقة المحيط الهندي، كما يعد ضمن الإطار الجيوبولتيكي لمنطقة الخليج العربي، كذلك له أهمية خاصة بحركة التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا حيث تُقدر السفن التجارية العابرة منه سنويًا بعشرين ألف سفينة.[29]
أما الاعتبار الثاني يرتبط بمعادلات التنافس والسيطرة مع الدول الكبرى على المنطقة
بهدف تأمين الموارد ولعب دورِ حيوي في التجارة الدولية، فأمريكا مثلاً تهتم بالمنطقة لما تشكّله من أهمية لها في ارتباط البحر الأحمر بمنطقة الخليج العربي والتي يتم من خلالها تأمين خطوط الملاحة التي يمر بها النفط عبر البحر الأحمر وقناة السويس، ولا تغيب الدول الأوروبية عن هذه المزاحمة كفرنسا – وبريطانيا التي تحتفظ ببعض قطعها البحرية في البحر الأحمر بموجب الإطار العام لحلف شمال الأطلسي، كذلك تزايدت الاهتمامات في المنطقة من قبل دول أخرى كاليابان- والصين الصاعدة وإيران التي اهتمّت بشكل خاص بوجودها في ضفة البحر الجنوبية على مقربة من الوجود الإسرائيلي – الأمريكي، فبنت قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، وأقامت شبكة علاقات مع بعض دول المنطقة كإريتريا والسودان واليمن تحديدًا مع جماعة أنصار الله الحوثي، وتعتقد إيران أن تعزيز مبدأ القوة في تلك المنطقة من الممكن أن يُجنّبها خطر استهداف مفاعلها النووي.
ومن خلال هذه المعادلة ظهرت من جديد روسيا كأحد القوى المنافسة على النفوذ السياسي والثروات، لا سيما أنَّ المنطقة لها اعتبارات وإرث خاص بها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي.
خلاصة:
استنادًا على ما ورد يمكن ذكر بعض الاستنتاجات كما يلي:
- الاهتمام الروسي في السودان ليس بجديد بالنظر إلى حقبة العلاقات التاريخية والمصالح المتبادلة على صعيد الاقتصاد والتجارة والعسكرة فعلى سبيل المثال: إنَّ تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتدريب القوات البحرية السودانية بموجب الاتفاق الأخير يعكس مدى أهمية الشراكة التي كانت سابقًا، فروسيا يعود لها الفضل في تأسيس القوات البحرية السودانية في عهد الفريق إبراهيم عبود عام 1959م، بالتالي عودة موسكو اليوم إلى المنطقة من بوابة السودان تحمل دلالات خاصة تعكس حقبة الإرث القديم، ولعله سبب لجوء موسكو لها بعد فشل محاولاتها السابقة مع جوارها الحيوي والذي يتبع جزءٌ كبيرٌ منهم اليوم المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
- الجديد في هذه العودة كانت مواصلة روسيا انتهاز الفرص بعد تراجع اهتمام المنطقة من قبل الولايات المتحدة في إدارة الرئيسين باراك أوباما – ودونالد ترامب، حيث استطاعت موسكو النفاذ إلى المنطقة انطلاقًا من أوكرانيا- وسورية- وليبيا- ومصر- والسودان، وهذه التوليفة من الدول تضم قوس متصل بين منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا- والقرن الإفريقي والبحر الأحمر.
- اهتمام موسكو في المنطقة انطلاقًا من السودان يُفصح عن مشروع روسي طويل الأمد ولا يقتصر على وضع موطئ قدم لها في منطقة بورتسودان- السودانية، فكما تمّ ذكره أعلاه هناك أهداف استراتيجية روسية تخص منطقة إفريقيا- القرن الإفريقي – البحر الأحمر.
- التوجّهات الروسية الصاعدة في إفريقيا والبحر الأحمر وتعزيز وجودها في المتوسط والقوقاز ودول البلقان، تدخل جميعها ضمن مشروع روسي متكامل للنظام الدولي البديل والذي تتضح معالمه من خلال اقتراب إسرائيل من فك ارتباطها التقني والفني مع البيت الأبيض، لتكون دولة ذات إمكانيات تشغيليّة مستقلة مع كيانات شبه عسكرية دولية ذات قدرات عالية ومنفصلة عن الإدارة في واشنطن.
- النظام البديل سيكون محدد رئيسي للعلاقات الدولية بعد التخلّص من شكلها الكلاسيكي الذي عرّفه مؤتمر سان ريمو 1919م ومركز النظام الجديد العاصمة أستانا حيث تُغيّر روسيا وحلفاؤها بعيدًا عن الأعين شكل العالم القديم في الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
[1] https://bit.ly/3qIyysb
Официальный интернет-портал правовой информации. Распоряжение Президента Российской Федерации от 16.11.2020 № 279-рп “О подписании Соглашения между Российской Федерацией и Республикой Судан о создании пункта материально-технического обеспечения Военно-Морского Флота Российской Федерации на территории Республики Судан
EURACTIV. Putin, extending Russian footprint, approves new naval facility in Sudan. 17- NEF.2019.
EURACTIV. Putin, extending Russian footprint, approves new naval facility in Sudan. 17- 11-2020.
REUTERS. Putin, extending Russian footprint, approves new naval facility in Sudan. 25 DAYS AGO
DW، مقابل تعويضات ترامب مستعد لشطب السودان من لائحة الإرهاب، ن- 19-10- 2019.
AFRICA. The Rising Importance of Port Sudan.12-10-2020.
TRTWORLD. Russia’s influence deepens as Sudan remains ignored by western powers. 19-FEB-2020.
SPUTNIK. مرسوم رئاسي لتسهيل دخول السفن العسكرية الروسية لموانئ السودان، ن- 19-1-2019.
CARNGIE. Moscow’s Hand in Sudan’s Future. July 11, 2019.
فرانس- 24، مجلس الأمن يفشل بإصدار بيان بشأن السودان بسبب اعتراض الصين مدعومة من روسيا، ن- 5-6- 2019.
وكالة الأناضول، السودان.. توقيع اتفاق تقاسم السلطة خلال المرحلة الانتقالية، ن- 17.08.2019.
OURONEWS. القمة الروسية الأفريقية 2019: موسكو تريد زيادة حجم التبادل التجاري مع القارة السمراء، ن- 30/10/2019.
TRT، تحاول إيجاد موطئ قدم بالبحر الأحمر حقيقة القاعدة ذات القدرات النووية التي تؤسسها روسيا بالسودان، ن- 16-11- 2020.
مركز فاروس للدراسات، القواعد العسكرية في جيبوتي الأسباب والدوافع- ن- 28-10- 2020.
عربي 21، القاعدة الروسية في السودان، ن- 28- نوفمبر- 2020.
عربي بوست، تحاول إيجاد موطئ قدم بالبحر الأحمر.. حقيقة القاعدة ذات القدرات النووية التي تؤسسها روسيا بالسودان، ن- 16-11- 2020.
الجزيرة للدراسات، التداعيات العسكرية والاستراتيجية لسيطرة الإمارات على أرخبيل سقطرى اليمني، ن- 29- يوليو- 2020.
برق للسياسات والاستشارات، انقلاب مالي الرابع جذور الأزمة وطبيعة الدور الخارجي، ن- 20- أكتوبر- 2020.
THENEWARAB. A gateway to Africa: Russia’s new naval base in Sudan. November 25, 2020.
الأناضول، عبر الاستثمار.. روسيا تبحث عن موطئ قدم ثابتة في إفريقيا، ن- 28-10- 2019,
BBC، السودان وإسرائيل: اتفاق على إقامة علاقات بين البلدين وترامب يرفع الخرطوم من قائمة الإرهاب، ن- 23- 10- 2020.
روسيا اليوم، اتفاق بين روسيا والسودان على التنقيب عن النفط والغاز، ن- 23-7- 2018.
ALMONTIOR. Is Russia’s naval base in Sudan a signal to Turkey … and Biden. Nov 19, 2020.
التغيير، ما وراء القاعدة الروسية المجانية، شوهد، ب- 10- ديسمبر- 2020.
العربي للبحوث والدراسات، التنافس الإقليمي والدولي في البحـر الأحمـر وأثره على أمن الدول المتشاطئة، ن- 1- يناير- 2020.
ARMYTECHNOLOGY. Russia reaffirms its growing footprint in Africa with announcement of military base in Sudan. 20 November 2020
TRT. Russia’s influence deepens as Sudan remains ignored by western powers. 19-FEB-2010>
Middle east. Resilience amid turmoil: Russia and Sudan maintain strong ties despite political upheaval. November 26, 2019.
الميادين، ماهي الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، ن- 18- أيلول- 2017.
رابط المصدر: