المرجع السيد محمد الشيرازي
بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنبوة في السابع والعشرين من شهر رجب، وكان عمره الشريف أربعين سنة. حيث نزل عليه جبرائيل (عليه السلام) وهو في غار حراء، فقال لـه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(1).
قال الإمام العسكري (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما ترك التجارة إلى الشام وتصدّق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار ويتذكر بتلك الآيات ويعبد الله حق عبادته، فلما استكمل أربعين سنة ونظر الله عزوجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها وأطوعها، وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمد (صلى الله عليه وآله) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد (صلى الله عليه وآله) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلى الله عليه وآله) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد اقرأ.
قال: وما أقرأ؟.
قال: يا محمد (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(2)، ثم أوحى إليه ما أوحى إليه ربه عزوجل، ثم صعد إلى العلو ونزل محمد (صلى الله عليه وآله) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض..
يقول: وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنه يعتريه شياطين، وكان من أول أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان، وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره ويشجع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلما وصل إلى شيء منها ناداه:
السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر فإن الله عزوجل قد فضلك وجملك وزينك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين، لا يحزنك قول قريش: إنك مجنون وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضله رب العالمين، والكريم من كرمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات، وسوف ينعم ويفرح أولياءك بوصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسوف يبث علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة (عليها السلام)، وسوف يخرج منها ومن علي: الحسن والحسين (عليهما السلام) سيدي شباب أهل الجنة، وسوف ينشر في البلاد دينك، وسوف يعظم أجور المحبين لك ولأخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك علي (عليه السلام) فيكون تحته كل نبي وصديق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنات النعيم)(3).
كانت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد فترة من الرسل، وبعد ما أشرف الناس على الهلاك لكثرة الخرافات وشدة الجاهلية، فقام النبي (صلى الله عليه وآله) برسالته ودعا العالم بأجمعه إلى التوحيد والإيمان بالله عزوجل، وترك عبادة الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ودعى إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، ونهى عن الرذائل وقباح الصفات، ودعى إلى السلم ونبذ العنف، ودعى إلى حب الآخرين وقضاء حوائجهم، ودعى إلى الكرامة والأخلاق بعد ما فشي فيهم القتل والسرقة والزنا وارتكاب الفواحش، وبعد ما كانوا يأخذون الربا ويشربون الخمر، ويطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً.
قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) في خطبتها: (وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله))(4).
وقالت (عليها السلام): (فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمد (صلى الله عليه وآله) ظُلَمها، وكشف عن القلوب بُهَمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم)(5).
من أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) وآدابه
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قمة في الأخلاق الطيبة، وقد اهتدى ببركة أخلاقه الكثير من المشركين والكافرين والمنافقين وغيرهم إلى الإسلام. حتى قال في حقه الباري عزوجل في سورة القلم: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (6).
وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ)(7).
قال ابن شهر آشوب في (المناقب):
كان النبي (صلى الله عليه وآله) أحكم الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعدلهم، وأعطفهم وأسخاهم، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء.
وكان (صلى الله عليه وآله) يجلس على الأرض وينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولم يتجشأ قط، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولايثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد.
وكان (صلى الله عليه وآله) يلبس برداً حبرة يمنية وشملة وجبة صوف، والغليظ من القطن والكتان، وأكثر ثيابه البياض، ويلبس القميص من قبل ميامنه، وكان لـه ثوب للجمعة خاصة، وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً..
وكان (صلى الله عليه وآله) يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن، ويكره الريح الردية، ويستاك عند الوضوء، ويردف خلفه عبده أو غيره، ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار، ويمشي راجلاً.
وكان (صلى الله عليه وآله) يشيع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة.
وكان (صلى الله عليه وآله) يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشر بالبر لهم.
وكان (صلى الله عليه وآله) يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلاّ بما أمر الله، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه القرآن أو تجر عظة، وربما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس، ما شتم أحداً بشتمة، ولا لعن امرأة ولا خادماً بلعنة، ولا لاموا أحداً إلاّ قال: (دعوه)، لا يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلاّ قام معه في حاجته، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يغفر ويصفح.
وكان (صلى الله عليه وآله) يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا لقي مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لايقوم ولا يجلس إلاّ على ذكر الله، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلاّ خفف صلاته وأقبل عليه وقال: (ألك حاجة؟).
وكان (صلى الله عليه وآله) يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط لـه ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إلا حقاً.
وكان (صلى الله عليه وآله) يأكل القثاء بالرطب والملح، وكان أحب الفواكه الرطبة إليه البطيخ والعنب، وأكثر طعامه الماء والتمر، وكان يتمجع اللبن بالتمر ويسميهما الأطيبين، وكان أحب الطعام إليه اللحم، ويأكل الثريد باللحم، وكان يحب القرع، وكان يأكل لحم الصيد ولا يصيده، وكان يأكل الخبز والسمن، وكان يحب من الشاة الذراع والكتف، ومن الصباغ الخل، ومن التمر العجوة، ومن البقول الهندباء، وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً (8).
ومما جاء في صفته (صلى الله عليه وآله): أنه كان يسأل عن أصحابه فإن كان أحدهم غائباً دعا لـه، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، وإذا لقيه الرجل فصافحه لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، وإذا لقيه أحد فقام معه أو جالسه أحد لم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وما وضع أحد فمه في أذنه إلاّ استمر صاغياً حتى يفرغ من حديثه ويذهب.
وكان (صلى الله عليه وآله) ضحوك السن، أشد الناس خشية وخوفاً من الله، وما ضرب امرأة لـه ولا خادماً، يسبق حلمه غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلاّ حلماً.
وكان (صلى الله عليه وآله) أحسن الناس خُلُقاً، وأرجحهم حلماً، وأعظمهم عفواً، وأجود بالخير من الريح المرسلة، وأشجع الناس قلباً، وأشدهم بأساً، وأشدهم حياءً، كان (صلى الله عليه وآله) أشد حياءً من العذراء في خدرها، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، يحب الفال الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن.
وكان (صلى الله عليه وآله) يشاور أصحابه في الأمر، وهو أكثر الناس إغضاء عن العورات، إذا كره شيئاً عرف في وجهه، ولم يشافه أحداً بمكروه، حتى إذا بلغه عن أحد ما يكره لم يقل: ما بال فلان يقول أو يفعل كذا، بل ما بال أقوام.
وكان (صلى الله عليه وآله) أوسع الناس صدراً، ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلاّ قال: (لبيك)، وكان يخالط أصحابه ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ولا يدعوه أحمر ولا أسود من الناس إلاّ أجابه. لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه، ولا مقدماً ركبتيه بين يدي جليس لـه قط.
قال أنس: خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين فما رأيته قط أدنى ركبتيه من ركبة جليسه ـ إلى أن قال ـ وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَ كذا؟، ولقد شممت العطر فما شممت ريح شيء أطيب ريحاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكان (صلى الله عليه وآله) ينادي أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي خفف صلاته.
وكان (صلى الله عليه وآله) أكثر الناس شفقة على خلق الله، وأرأفهم بهم، وأرحمهم بهم.
وكان (صلى الله عليه وآله) أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد، يأكل على الأرض ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد). وكان (صلى الله عليه وآله) يلبس الغليظ، ويحب التيامن في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله، يعود المساكين بين أصحابه، ويعلف ناضحه، ويقمّ البيت، ويجلس ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، لا يجمع في بطنه بين طعامين.
وكان (صلى الله عليه وآله) أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، ما سُئل شيئاً قط فقال: لا، إذا أراد أن يفعل قال: نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت.
وكان (صلى الله عليه وآله) إذا جاء شهر رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل.
وكان (صلى الله عليه وآله) أصبر الناس على أوزار الناس، ليس بالعاجز ولا الكسلان، وما رُئي يأكل متكئاً قط. وكثيراً ما يصلي في نعليه، ويلبس القلانس اللاطئة، ويلبس القلنسوة تحت العمامة، وبدون عمامة، ويتعمم بدون قلنسوة، وكان لـه عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة وهو لابسها، وكان يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه، وروي أنها كانت تسعة أكوار، وقال بعضهم: الظاهر إنها كانت نحو عشرة أذرع، وكانت لـه بردة يخطب فيها.
ومما جاء في وصفه (صلى الله عليه وآله): أنه كان حسن الإصغاء إلى محدثه، لا يلوي عن أحد وجهه، ولا يكتفي بالاستماع إلى من يحدثه، بل يلتفت إليه بكل جسمه، وكان قليل الكلام، كثير الإنصات، ميالاً للجد من القول، ويضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه.
وعن الحسن بن محمد الديلمي في (الإرشاد)، قال: «كان النبي (صلى الله عليه وآله) يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجة من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلم على من استقبله من كبير وصغير وغني وفقير، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى خشف التمرة، وكان خفيف المئونة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بشاشاً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجشأ من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع»(9).
وقال أبو الدرداء: لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مُشي خلفه، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض الأوقات يمشي مع الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم(10).
وقال أنس: كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا ينزع منها يده حتى تذهب به حيث شاءت(11).
ودخل رجل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليه جدري قد يقشر وعنده أصحابه يأكلون، فما جلس عند أحد إلا قام من جنبه، فأجلسه النبي (صلى الله عليه وآله) بجنبه(12).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصافح الغني والفقير والصغير والكبير، ويسلم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حر أو عبد من أهل الصلاة. ليس لـه حلة لمدخله وحلة لمخرجه، لا يستحيي من أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل، لايرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هين المقولة، لين الخلقة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، شديداً من غير عنف، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رحيماً بكل ذي قربى، قريباً من كل ذمي ومسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق، لم يبشم قط من شبع، ولا يمد يده إلى طمع»(13).
وعن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله علمني؟. قال: اذهب ولا تغضب. فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك.
فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تغضب، فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه. فقال: يا هؤلاء،
ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه.
فقال القوم: فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم.
قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب»(14).
الشورى والاستشارة
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على مبدأ الاستشارة في الأمور، وعدم الاستبداد في الرأي، كما نص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ)(15)، وقال عزوجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(16).
فإن الأمور تكون بالشورى إلاّ فيما ورد فيه النص عن الله عزوجل أو المعصوم (عليه السلام)، حيث لا يجوز الاجتهاد في قبال النص.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطبق الاستشارة بنفسه، كما استشار في قصة الخندق، وحرب أحد، وغزوة الخندق، وحتى في اللحظات الأخيرة من حياته عندما نزل عليه ملك الموت…
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمرهم)(17).
وقال (صلى الله عليه وآله): (من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الأمور).
وقال (صلى الله عليه وآله): (من أراد أمراً فشاور فيه امرئ مسلماً وفّقهُ الله لأرشد أموره).
وقال (صلى الله عليه وآله) ـ وهو يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ما بعثه إلى اليمن ـ: (يا علي، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار)(18).
وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها).
وقال (صلى الله عليه وآله): (ما شقا عبـد بمشورة، ولا سعد باستغنـاء رأي).
وقال (صلى الله عليه وآله): (لا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من
المشاورة)(19).
وقال (صلى الله عليه وآله): (ما من رجل يشاور أحداً إلا هُدي إلى الرشد)(20).
وقال (صلى الله عليه وآله): (لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير)(21).
العلم والعلماء
كان النبي (صلى الله عليه وآله) يحث المسلمين على التعليم والتعلّم، ويؤكد كثيراً على العلم والعلماء، فرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) رسول العلم والفضيلة، والدين الإسلامي دين العقل والمنطق، لا السيف والجبر، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ)(22). وقال عزوجل: (لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ)(23).
وقال سبحانه: (فَذَكّرْ إِنّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ، لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)(24).
فكان النبي (صلى الله عليه وآله) يحب العلم والعلماء ويرجح حلقات العلم على حلقات الدعاء، ففي الحديث: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا في المسجد مجلسان: مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله ويسألونه، فقال (صلى الله عليه وآله): (كلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون الله وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم أُرسلتُ)، ثم قعد معهم(25).
وقال (صلى الله عليه وآله): (طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة)(26).
وعن أبي ذر (رضوان الله عليه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العالم أحب إلى الله من ألف جنازة من جنازة الشهداء، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى الله من قيام ألف ليلة يصلي في كل ليلة ألف ركعة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى الله من ألف غزوة و قراءة القرآن كله).
قال: يا رسول الله، مذاكرة العلم خير من قراءة القرآن كله؟!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا أبا ذر، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إليَّ من قراءة القرآن كله اثني عشر ألف مرة، عليكم بمذاكرة العلم فإن بالعلم تعرفون الحلال من الحرام، ومن خرج من بيته ليلتمس باباً من العلم كتب الله عزوجل لـه بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء، وأعطاه الله بكل حرف يستمع أو يكتب مدينة في الجنة، وطالب العلم أحبه الله وأحبه الملائكة وأحبه النبيون، ولايحب العلم إلاّ السعيد، وطوبى لطالب العلم يوم القيامة. يا أبا ذر، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير لك من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، والنظر إلى وجه العالم خير لك من عتق ألف رقبة)(27).
التعددية
النظام السياسي ـ وكذلك الاقتصادي ـ في الإسلام نظام تعددي تنافسي، وهو من مقومات تقدم المجتمع، وهذه التعددية الإيجابية كانت جلية بين المهاجرين والأنصار، وربما الفئات الأخرى من المجتمع.
وفلسفة التعددية هي التنافس في الخير والفضيلة والتقدم. وهذه التعددية لا تنافي الأخوة الإسلامية كما هو واضح.
روي في (غوالي اللآلي) باب السبق والرماية: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بقوم من الأنصار يترامون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك الحزب الآخر وقالوا: لن يغلب حزب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: (ارموا فإني أرمي معكم)، فرمى مع كل واحد رشقاً، فلم يسبق بعضهم بعضاً، فلم يزالوا يترامون وأولادهم وأولاد أولادهم لا يسبق بعضهم بعضاً)(28).
الحريات الإسلامية
لم تر البشرية من الحريات مثل ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث ضمن للكل حرياتهم المشروعة من دون الاعتداء على حرية الآخرين.
وقد وصف الباري تعالى رسوله الخاتم (صلى الله عليه وآله) بقولـه: (الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(29).
نماذج من الحريات الإسلامية:
حرية التجارة، حرية البيع، حرية الاشتراط في العقد، حرية القرض، حرية الرهن، حرية الضمان، حرية الحوالة، حرية الكفالة، حرية الصلح، حرية الشركة، حرية المضاربة، حرية المزارعة، حرية المساقاة، حرية الإيداع، حرية الاستعارة، حرية الإجارة، حرية الوكالة، حرية الوقف، حرية الصدقات، حرية السكنى والعمرى والرقبى والحبس، حرية الهبة، حرية السبق والرماية، حرية الوصية، حرية النكاح، حرية الطلاق، حرية الخلع، حرية المباراة، حرية اللعان، حرية الإقرار، حرية الجعالة، حرية الأيمان، حرية الشفعة، حرية إحياء الموات، حرية حيازة المباحات، حرية اللقطة، حرية الصيد والذباحة، الحريات العبادية، حرية الإعلام، حرية التأليف، حرية البيان، حرية النشر والتوزيع، حرية التجمع، حرية تأسيس الأحزاب والمنظمات والهيئات، حرية التعبير عن الرأي، حرية المعارضة وحقوقها، حرية الخروج بالمظاهرات السلمية، حرية الإقامة والسفر، حرية فتح الشركات والمصانع والمعامل، حرية الكسب والتجارة، حرية البناء والعمران، الحريات السياسية، الحريات الاقتصادية، الحريات الاجتماعية، وغيرها من الحريات الكثيرة(30).
حقوق المعارضة
من أهم الحريات السياسية في الإسلام حرية المعارضة وضمان حقوقها، وهذا ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطبقه في حكومته الإسلامية بالمدينة المنورة، فالمعارضة كانوا يتمتعون بكامل حرياتهم، ومن أمثلة ذلك قصص المنافقين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله).
روى الشيخ المفيد في (الإرشاد) (31)، قال: لما قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) غنائم حنين، أقبل رجل طويل آدم أجنأ بين عينيه أثر السجود، فسلم ولم يخص النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وكيف رأيت)؟.
قال: لم أرك عدلت!
فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال:(ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون)؟!
فقال المسلمون: ألا نقتله؟.
قال:(دعوه، فإنه سيكون لـه أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم الله على يد أحب الخلق إليه من بعدي). فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن قتل يوم النهروان من الخوارج.
المرأة
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكرم المرأة أكبر الإكرام مما لم يسبق لـه مثيل في التاريخ، بعد ما كانت المرأة مهانة في الجاهلية. ولولا الدين الإسلامي لضاعت المرأة ضياعاً كاملاً.
عن بحر السقاء قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا بحر حُسن الخُلق يُسرـ ثم قال ـ: ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة».
قلت: بلى.
قال: «بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله) فلم تقل شيئاً ولم يقل لها النبي (صلى الله عليه وآله) شيئاً حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله) في الرابعة وهي خلفه فأخذت هدبة من ثوبه ثم رجعت.
فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل، حبستِ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات لا تقولين لـه شيئاً ولا هو يقول لك شيئاً ما كانت حاجتك إليه؟. قالت: إن لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه ليستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها فأخذتها»(32).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كلما ازداد العبد إيماناً ازداد حباً للنساء)(33).
وقال (صلى الله عليه وآله): (الجنة تحت أقدام الأمهات)(34).
وقال (صلى الله عليه وآله): (تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة)(35).
اللاعنف
كان المنهج العام في سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو اللاعنف، في مختلف الحالات ومع الجميع، مع المسلم والكافر، مع المؤمن والمنافق، مع الصديق والعدو.
ومن هنا كانت حروب النبي (صلى الله عليه وآله) كلها دفاعية، وما أقل القتلى فيها كما سبق.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ولِّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم وحسن السياسة وصالح الأخلاق، ممن يبطئ عن الغضب، ويسرع إلى العذر، ويرأف بالضعيف، ولا يلح على القوي، ممن لا يسره العنف، ولا يقعد به الضعف)(36).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه، ثم قال: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، وأيما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله عزوجل فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه مأمنه)(37).
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يلقى السم في بلاد المشركين)(38).
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن وقال لي: يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)(39).
مخالفة الهوى
من أهم ما يوجب الفوز بسعادة الدارين مخالفة الهوى، وقد أكد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ذلك. وكان النبي (صلى الله عليه وآله) أول من يخالف هواه، كما سبق في بعض أخلاقياته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم)(40).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه عند عودته من غزوة تبوك: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر! وبقي عليهم الجهاد الأكبر!). قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟. قال (صلى الله عليه وآله): (جهاد النفس)(41).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحل قلوبكم الحكمة)(42).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(43).
وقال (صلى الله عليه وآله): (الكيّس من الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله عزوجل الأماني)(44).
وقال (صلى الله عليه وآله): (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فالثلاث المهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، الخبر)(45).
التعامل مع الكفار
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نموذجاً في علاقته الطيبة مع الإنسان بما هو إنسان، فكان يحترم الجميع حتى الكفار ويسعى في هدايتهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن لم يهتدوا لم يبدأهم بحرب بل يتركهم وشأنهم.
إن الإسلام قد جعل في علاقة المسلمين بغيرهم أصولاً كلها عقلية، وهي على أتم وجه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(46). ولم يخصص الله سبحانه وتعالى هذا الحكم بالنسبة إلى المسلمين فحسب، بل يشمل المسلمين والكفار حيث قال: (يا أيها الناس…).
وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنه قال: (من ظلم ذمياً أو معاهداً فأنا خصمه يوم القيامة، ومن كنت خصمه خاصمته)(47).
وقال تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(48).
وقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) اختلاط المسلمين بغير المسلمين ليطلع غير المسلمين على عقائد المسلمين وحسن أخلاقهم وأعمالهم وشعائرهم حتى يرغبوا في الإسلام عقيدة وعملاً، حيث إن الإسلام جميل في كل شؤونه، فإذا رآه غير المسلم انجذب إليه، ومن مقتضيات العلاقة بينهما المخالطة وتبادلهم المصالح والمنافع وتقوية الصلات، سواء كانوا كفاراً ذميين أم محايدين أم معاهدين، وإنما المستثنى من ذلك الكفار المحاربون في الجملة.
وكان الأمر في حسن العلاقات وحسن التعامل وحسن المعاشرة بين المسلمين ومختلف الكفار منذ فجر الإسلام، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الأمر المشهور بأن غير الكتابي يخير بين قبول الإسلام أو المحاربة لا دليل قوي عليه، كما لا أثر لـه في مرحلة التطبيق الخارجي في مختلف عصور المسلمين، كما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى حكام المسلمين الذين استولوا على الهند وغير الهند، ومن القديم كان فيها المسلمون وغير المسلمين، الكتابيون وغير الكتابيين، من عبدة الأصنام، وعبدة النار، وعبدة الماء، وعبدة البقر، وغير ذلك من الأديان المتعددة التي لا تمت إلى أهل الكتاب (اليهود والنصارى والمجوس) بشيء.
فمن حق غير المسلمين ـ في حدودهم وأطُرهم ـ أن يمارسوا شعائرهم ويظهروا عقائدهم، ولا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة ولا صلوات ولا سائر المعابد، ولا يكسر لهم صليب أو ما يدل على شعاراتهم ومقدساتهم، ولا يهضم لهم حق، ولا ينتقص من حقوقهم ما داموا ملتزمين بالولاء للدولة الإسلامية، محترمين لعقيدتها، غير متعاونين مع أعداء الدولة على صفة الجواسيس وما أشبه ضد المسلمين.
ولذا نشاهد في التاريخ أن الذين دخلوا في الإسلام لم يدخلوا فيه عن سيف وإكراه، وإنما كان السيف لأجل تغيير الحاكم الظالم فقط وإنقاذ المظلومين، ولكن الناس دخلوا بأنفسهم في الإسلام رغبة، وذلك لما رأوا فيه من الحسن والواقعية والمنطق والبرهان والتسامح واللاعنف، ثم إن أخذ الجزية من غير المسلمين هو في مقابل أخذ الزكاة من المسلمين وإنما الفرق في اللفظ، فالجزية أخذ جزء من مال الكفار في مقابل الزكاة التي هي عبارة عن التزكية والتطهير للنفس والمال.
ولم يكن الإسلام يحترم الكفار فيما لهم من الحقوق فحسب، بل كان يحترمهم حتى فيما لم يكن لهم من الحقوق، كما نشاهد ذلك في قصة زيد الذي كان من أحبار اليهود، فإنه أقرض النبي (صلى الله عليه وآله) قرضاً كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد احتاج إليه، ثم رأى زيد أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بدَينه. قال زيد: فأتيت الرسول (صلى الله عليه وآله) فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت: يا محمد، ألا تقضيني دَيني فو الله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلاّ مطلاً. فنظر إليَّ عمر وعيناه تدوران في وجهه ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أسمع وتصنع به ما أرى! فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ينظر في هدوء، فقال:
(يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الاقتضاء. اذهب يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما روعته).
قال زيد: فذهب عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟.
قال: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أزيدك مكان ما روعتك(49).
فإن اليهودي كان معتدياً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع ذلك لم يقابله الرسول (صلى الله عليه وآله) بالمثل بل قابله بالفضل. وهكذا كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى سائر الكفار والمشركين والمنافقين.
ثم إن الإسلام شرع للمسلم أن يتزوج بالكتابية كما أحل طعامهم، قال سبحانه: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(50).
وقال تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لـه مُسْلِمُونَ)(51).
وقال عزوجل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(52).
حيث تدل هذه الآيات على غاية الحنان واللطف والعطف بما لا يجد الإنسان مثلها في أي دين ومبدأ.
وقد حرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) على زيارة الكفار وعيادة مرضاهم وتقديم الهدايا لهم ومبادرتهم البيع والشراء وسائر المعاملات، وهكذا عمل المسلمون طول التاريخ الإسلامي مع غير المسلمين، سواء كانوا من أهل الكتاب أم غير أهل الكتاب، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دَين على الرسول (صلى الله عليه وآله) لليهودي. كما ثبت أن الرسول (صلى الله عليه وآله) زار ذلك اليهودي الذي كان يصبّ على رأس الرسول (صلى الله عليه وآله) الرماد.
وفي حديث صفوان أن النبي (صلى الله عليه وآله) استعار منه أدرعاً يوم حنين، وقد كان صفوان بمثابة وزير الدفاع للكفار، ولما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يذهب إلى حرب حنين طلب منه أن يعيره أربعمائة من الدروع. فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟! فقال (صلى الله عليه وآله): (بل عارية مضمونة)(53). مع العلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو المسيطر والغالب وكان يتمكن أن يأخذ الدروع.
كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقبل الهدايا من الكفار والمشركين، وقصة قبوله للشاة المشوية المسمومة من تلك اليهودية مشهورة(54).
وورد أن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبإجازة من الرسول (صلى الله عليه وآله) ذهبت إلى عرس أقامها اليهود لبعض بناتهم(55).
ومن جانب آخر ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكفار ولم يحاسبهم إذا ارتكبوا المحرمات في بيوتهم ولم يتظاهروا بذلك في المجتمع الإسلامي، وذلك لقانون الإلزام، حيث قال (صلى الله عليه وآله): (ألزموهم بما ألزموا أنفسهم)(56).
نعم لا يجوز للكفار إظهار المناكير؛ لأن ذلك خلاف المعايشة السلمية، فإن اللازم على من يعيش في دولة أن يحترم قوانينها.
ولما فتح المسلمون البلاد أباحوا للمطرودين والفارين منهم أن يرجعوا إلى أوطانهم سالمين، ولهذا أحب الكفار المسلمين ودخلوا في دين الله أفواجاً، فالآية الكريمة وإن كانت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(57) إلا أن ذلك استمر إلى اليوم حيث يدخل الكفار في دين الله أفواجاً.
وقد رأيت تقريراً يقول: إن جماعة من نساء اليهود دخلوا الإسلام حيث رأوا السماحة الإسلامية في أسلوب معاشرة الرجال للنساء، فإنه خير من أسلوب معاشرة رجال اليهود لهن.
فالحرية التي منحها رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمسلمين منحها أيضاً لغير المسلمين كل في إطاره وموازينه على تفصيل ذكر في التاريخ والتفسير والفقه الإسلامي.
ولذا نشاهد أن الآيات القرآنية على الأغلب تميل إلى خطاب كل طوائف البشر، مثلاً قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(58)، وهكذا في آيات أخر وأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرين،.
وفي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبة الوداع: (أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى، ألا فليبلغ الشاهد الغائب)(59).
لا للعصبيات
من الأسس التي سنّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي إبعاد الناس عن العصبيات القومية واللغوية واللونية والعرقية والجغرافية الخاصة التي تسمى بالملية والوطنية بالمعنى الضيق، وكذلك عن سائر العصبيات التي تنافي إنسانية الإنسان، وهذا من أهم أسس السلم والسلام في المجتمع، وارتفع بالجماعة أن يكونوا مرتبطين بعضهم ببعض أو منفصلين بعضهم عن بعض بهذه الروابط الضيقة، فالموجود البديع الذي هو أبدع موجودات الله سبحانه وتعالى أرفع وأسمى من أن يكون بعضهم يواصل بعض أو يقاطع بعض في لغة أو لون أو جغرافية أو ما أشبه ذلك مما يسبب مختلف التنازع والتدابر والتهاجر، ومما يوجب الحقد والشحناء والبغضاء وظهور العداوات والمخاصمات والتي بالآخرة تنتج انفصام عرى الإنسانية الكاملة وتقويض السلام وتقضي على روح التعاون والأخوة.
قال سبحانه: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(60).
وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(61).
وقال عزوجل: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(62).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(63).
لذا فالمهم في الإسلام هو الإنسان والعمل الصالح، كما قال سبحانه:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(64).
التسامح
من أهم الأسس التي أكد عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبدأ التسامح بمختلف صورها، وقد أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بأصل التسامح حتى مع أشد أعدائه، وحينما قدر عليهم.
وفي القرآن الحكيم آيات عديدة تدل على التسامح بمعناه العام والشمولي.
قال سبحانه: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(65).
ومن الواضح أن الآية لا تختص بأهل الكتاب، بل تشمل كل من لم يكن مسلماً.
وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(66).
وقال عزوجل: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(67).
وقال سبحانه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(68).
وقال تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(69).
وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(70).
وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)(71).
وقد أمر الله سبحانه بحسن المعاملة مع الجميع وبالوفاء بالعهد مع الجميع، حيث قال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(72). ولا فرق بين عقد مع مسلم أو كافر.
وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)(73).
وقال سبحانه: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً)(74)
وقال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(75).
وفي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) الشيء الكثير من أمثلة التسامح، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة).
وقد عقد النبي (صلى الله عليه وآله) معاهدة مع قبيلة تغلب في السنة التاسعة من الهجرة وكان الإسلام قد قوي أشد القوة ودانت به العرب والجزيرة ومع ذلك لم يجبرهم على الإسلام وأباح لهم البقاء على نصرانيتهم. وصالح (صلى الله عليه وآله) نصارى نجران ـ كما
سبق ـ وتركهم أحراراً في دينهم. ووجه (صلى الله عليه وآله) عماله إلى اليمن لأخذ الجزية ممن أقام على نصرانيته، وكذلك فعل النبي (صلى الله عليه وآله) مع النصارى واليهود جميعاً في بلاد العرب.
وكان المجوس موزعين في بقاع شتى من جزيرة العرب منهم مجوس نجران وهجر وعمان والبحرين، وهؤلاء جميعاً بقوا على دينهم ودفعوا الجزية، ولم ينقل التاريخ أنه اضطُهد مجوسي بترك دينه أو بترك قريته، وقد فتح المسلمون بلاداً أخرى وسلكوا مع أهاليها مسلك السماحة.
وتسامح رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان منذ اليوم الأول، وقد اشترطت قريش على النبي (صلى الله عليه وآله) في صلح الحديبية شروطاً قاسية، وتسامح النبي (صلى الله عليه وآله) معهم وقبل بها، منها أن من جاء من محمد (صلى الله عليه وآله) إلى قريش لاترده إلى محمد، ومن جاء من قريش إلى محمد بغير إذن وليه رده محمد، وقبل النبي (صلى الله عليه وآله) شرطهم الجائر لحكمة رآها من توسيع الإسلام، كما شاهدناه بعد ذلك وتبرم بعضهم وما كانوا يفقهون من توقيع المعاهدة حتى جاء أول امتحان للوفاء، إذ وصل مسلم من مكة اسمه أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد فاراً من أذى قومه وألح على الرسول (صلى الله عليه وآله) في أن يضمه إليه، لكن الرسول (صلى الله عليه وآله) سلمه لقريش وفاءً بعهده، وقال أبو جندل: إنهم سيعذبوني. فقال (صلى الله عليه وآله): (اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا عقدنا بيننا وبينهم وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله فإنا لانغدر بهم).
ثم وفد على النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة أبو بصير عتبة ابن أسيد فرده وقال لـه مثل ما قال لأبي جندل، ثم اجتمع جماعة منهم في الطريق بين مكة والمدينة وكانوا يقطعون على وفود مكة مما اضطر أهل مكة أن يتنازلوا عن العهد ويقبلوا بالتحاقهم بالرسول (صلى الله عليه وآله)(76).
وكان من سماحة النبي (صلى الله عليه وآله) أن عامل أسرى بدر معاملة حسنة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم، فقد كانت الأمم تعامل أسراها معاملة العدو البغيض، فتقتلهم أو تبيعهم أو تسترقهم، أو تسخرهم في أشق الأعمال، أو تعذبهم أشد العذاب. وقد استشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شأن أسرى بدر، فأشار بعضهم عليه بقتلهم، وأشار بعضهم بفدائهم، فوافق الرسول (صلى الله عليه وآله) على الفداء وجعل فداء الذين يكتبون أن يعلّم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة.
كما أنه أشار بعض الصحابة أن يمثل بسهيل بن عمر وهو أحد المحرضين على محاربة المسلمين، بأن ينتزع ثنيتيه السفليين فلا يستطيع الخطابة، فرفض النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: (لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً)(77).
ولما فتح النبي (صلى الله عليه وآله) مكة قال لقريش: (ما تظنوني فاعل بكم؟). قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
فقال (صلى الله عليه وآله): (ما أقول إلاّ كما قال أخي يوسف لأخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)(78).
كما أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يقبل أن يقطع الماء على يهود خيبر، مع أنه كان في قطع الماء السيطرة عليهم(79).
وكان من إحسانه (صلى الله عليه وآله) إلى أهل الكتاب أنه كان يقترض منهم مكررا، مع أن بعض الصحابة كانوا أثرياء وكلهم يتلهف على أن يقترض الرسول (صلى الله عليه وآله) منه.
وإنما فعل (صلى الله عليه وآله) ذلك تعليماً للأمة، وتثبيتاً عملياً لما يدعو إليه من السلم والسلام والوئام حتى مع الكفار، وتدليلاً على أن الإسلام لا يقطع علاقات المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم.
كما أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) حضر مع يهودي عند شريح القاضي للتقاضي(80).
وقبله حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بعض قضاته مع مشرك ادعى عليه كذباً(81).
وقد شايع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يهودياً كان مصاحباً لـه في الطريق.. ولم يعرف اليهودي علياً (عليه السلام) ثم لما عرفه في قصة مذكورة أسلم(82).
لذا نجد أن شعوب الكفار على اختلافهم وفي البلاد المفتوحة رحبوا بالفاتحين المسلمين أشد ترحيب، وقد كتب المسيحيون في الشام إلى رئيس المسلمين كتاباً يقولون فيه: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا، كما ذكره (فتوح الشام) للأزدي البصري.
ويذكر (فتوح البلدان) للبلاذري: إن أهل حمص أغلقوا أبواب مدينتهم حتى لا يدخلها جيش هرقل، وقالوا: إن المسلمين ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من ظلم الرومان وتعسفهم(83).
وكانت في الشمال قبائل عربية دانت بالمسيحية زمناً طويلاً، فلما بدأ الإسلام يصطرع مع الروم سارع بعضهم إلى اعتناق الإسلام والانضمام إلى المسلمين مثل بني غسان وغيرهم.
وكذلك صنعت بعض القبائل العربية التي كانت موالية للفرس في العراق، فقد وفد على قائد المسلمين بعد واقعة القادسية كثير من العرب المسيحيين المقيمين على نهر الفرات وأسلموا، كما أسلم إخوان لهم من قبل.
وكذلك رحب القبط في مصر بالفتح الإسلامي وبالقائد الفاتح وشكروه؛ لأنه أنقذهم من الاضطهاد الديني ومن عسف الروم وتنكيلهم بمخالفيهم في المذهب وإن كان دينهما واحداً. ولما فتح المسلمون بلاد الفرس لم يلقوا من الشعب مقاومة عنيفة؛ لأن حكامها كانوا قد استبدوا بهم وأعنتوهم ولأنهم كان يناصرون ديانة زرادشت التي صارت الدين الرسمي للدولة، فقد كانت مبغوضة بالنسبة إلى كثير من الأهالي، وقد استغل كهنتها نفوذهم في اضطهاد الفرق الدينية الأخرى وكانت كثيرة، كما أنهم كانوا يضطهدون المسيحيين واليهود والصابئة أيضاً، هذا بالإضافة إلى فرض الضرائب الباهظة على مختلف الطبقات وكان الغالب يكرهون بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم في مسألة التزويج، فلما انتصر المسلمون عليهم تنفسوا الصعداء من جهة الدين ومن جهة الضرائب ومن جهة النكاح، ورحبوا بهم حباً للخلاص من ظلم الحكام ورغبة في إعفائهم من الخدمة العسكرية الجبرية، ولأن حكام المسلمين أعطوهم الحريات الدينية والعملية.
ولما حارب المسلمون مع أهل الشام المسيحيين وأخذوا ينتصرون، ائتمر قادة أهل الحرب من النصارى حول علاج الأمر وسألوا عن واحد واحد عن سبب تقدم المسلمين عليهم، فأجاب كل بجواب، حتى وصل الأمر إلى خادم كان يخدمهم في ذلك المجلس، ولما سألوا عنه عن سبب انتصار المسلمين عليهم مع أنهم كفار برابرة أجانب! أجاب الخادم بعد أن أخذ الأمان منهم قال: لأنهم أفضل منكم وإن كنتُ على دينكم لكني أدع الله سبحانه وتعالى في قلبي كل يوم أن ينتصر المسلمون، ثم بين السبب قال: قد كانت لي مزرعة نعيش في المزرعة أنا وزوجتي وأولادي من البنين والبنات، ولما جئتم أنتم اغتصب هذا الضابط
ـ وأشار إلى أحدهم ـ ابنتي، وهذا الضابط ـ وأشار إلى آخر ـ زوجتي، وذاك وأشار إلى ثالث ولدي، وآخر مزرعتي، فهل تريدون مني أن انتظر انتصاركم أو أخدمكم بكل قلبي، وإن أهل الشام كلهم على شاكلتي، أنتم تحاربونهم في أرزاقهم ومعايشهم وأولادهم وأراضيهم ومزارعهم وزوجاتهم وبناتهم، لذا يرحبون بالمسلمين ويكون ذلك سبب انتصار المسلمين عليكم، فإنهم لا يتعاملون معنا إلا بالحسنى.
وهكذا كان انتصار المسلمين على الحكام الظلمة حيث كان يرحب بهم أهل البلاد أعظم ترحيب، وهكذا تقدم المسلمون يوماً بعد يوم عندما كان يتحلون بالتسامح، ولكن بعد ما تركوا هذا التسامح رجعوا القهقرى وأصبحوا متفرقين متشتتين متعصبين، هذا يكفر ذاك وذاك يكفر هذا، ويحل بعضهم دماء بعض، كما نشاهده اليوم.. حتى انفض الناس من حولهم كما قال سبحانه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(84).
وقد التف بعض الناس اليوم إلى جهة أخرى قد يكون فيها نوع من التسامح، وهم المتحضرون الغربيون، مع الفرق الشاسع بين التسامح الإسلامي والتسامح الغربي، وبين المتحضرين الغربيين اليوم وبين المسلمين الأوائل المتسامحين، حيث إن التسامح عند المسلمين أكثر بكثير من تسامح هؤلاء الماديين، مضافاً إلى أن المسلمين كانوا يبشرون بالدنيا والآخرة، بينما المتحضرون الغربيون لا يبشرون إلاّ بالدنيا، والدنيا لا تملأ إلا جزءً واحدا من جزئي الإنسان، والإنسان بحاجة إلى الجزء الآخر المرتبط بروحه ولا يملؤه إلاّ الآخرة. وكل من الدنيا والآخرة عند المسلمين مؤيد بالعقل القطعي والبراهين الجلية والمنطق الإنساني الرفيع والفطرة السليمة، وهذا ما يفتقده الآخرون.
ثم إن التسامح الذي ذكرناه ليس في موضوع خاص، بل في كل جوانب الإسلام، وجميع أحكامه، حيث التسامح بالنسبة إلى المسلم نفسه وبالنسبة إلى أهله وعياله وجيرانه، وبالنسبة إلى سائر المسلمين، بل وغير المسلمين، بل وحتى الحيوانات. وحديث امرأة دخلت النار في هرة حبستها، وامرأة دخلت الجنة في كلب روته، مشهور(85).
تكريم الإنسان
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكرم الإنسان بما هو إنسان تكريماً فوق كل تكريم، مع قطع النظر عن دينه ومعتقداته. يقول سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(86).
والسؤال هو أنه إذا كان الإنسان مكرّماً على كثير، فهل هناك غير الكثير حيث يساوي بني آدم أو يكون أفضل منه؟.
الجواب: لا، وإنما الأكرم هو الإنسان فقط، والتعبير تعبير بلاغي قرآني حيث في كثير من الأحيان تقتضي البلاغة عدم ذكر الكلية وعدم الجزم بالأمر، ومن هنا ترى كثيراً ما تستعمل كلمة (لعل) في القرآن الحكيم مع أن الله سبحانه يعلم الواقع، قال سبحانه:(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(87). إن عقلاء العالم كثيراً ما يستخدمون ليت ولعل، ولا يتكلمون بالقطع واليقين وإن كانوا قاطعين متيقنين.
وفي آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)(88).
فالدخول في بيت الناس بلا استئذان غير جائز، وهذا تكريم للإنسان وحفظ لحقوقه.
وفي آية أخرى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)(89).
وقال سبحانه: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ)(90).
وهناك العديد من حقوق المسلم على المسلم، بل بعض تلك الحقوق تشمل غير المسلم أيضاً. ومن أدلة تكريم الله الإنسان قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ)(91).
ومن هنا فإن أفضل منشور لحقوق الإنسان هو ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله).
روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نظر إلى الكعبة، وقال: (مرحباً بالبيت ما أعظمك وما أعظم حرمتك على الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك؛ لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأن يظن به ظن السوء)(92).
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان)(93).
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: (من آذى ذميا فقد آذاني).
وفي التاريخ أنه لما فر عدي بن حاتم، وأن خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخذوا أخته، وقدموا بها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمنّ عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكساها وأعطاها نفقة، فخرجت مع ركب حتى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم، فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده(94).
حق الناس
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على حق الناس أكبر التأكيد، فلا يُسمح لأحد أن يتجاوز على حق أحد أو يتصرف في نفسه أو ماله بدون إذنه.
عن معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (إنه ذكر لنا أن رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران ديناً، فلم يصلّ عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: صلوا على صاحبكم، حتى ضمنهما عنه بعض قرابته. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ذلك الحق ـ ثم قال ـ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما فعل ذلك ليتّعظوا وليردّ بعضهم على بعض ولئلا يستخفوا بالدَين)(95).
وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله عزوجل إلا الدَين لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحق)(96).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): (من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة)(97).
وقال (عليه السلام): (ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حراما)(98).
وعن العالم (عليه السلام): (من أكل مال اليتيم درهما واحدا ظلماً من غير حق، يخلده الله في النار)(99).
حق الرعية
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل أسوة في أداء حق رعيته، فكان بإمكان كل واحد من المسلمين والمسلمات ـ بل وحتى الكفار ـ أن يصل إليه ويبثّ إليه همومه ومشاكله، ويطلب منه قضاء حاجته مباشرة ومن دون حاجب.
وفي الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان في صلاة فيقبل عليه أحد، خفف من صلاته وأقبل عليه وقال: (ألك حاجة؟)(100).
وهذا أكبر درس للحكومات والولاة ومن أشبه بأن من حقوق الناس عليهم قضاء حوائجهم والاهتمام بهم.
عن صباح بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(أيما مؤمن أو مسلم مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله تبارك وتعالى يقول: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)(101) الآية، فهو من الغارمين ولـه سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه)(102).
وعن حنان عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم ـ وفي رواية أخرى ـ حتى يكون للرعية كالأب الرحيم)(103).
* مقتبس من كتاب (من حياة الرسول الأعظم (ص))، لمؤلفه المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
……………………………………
(1) سورة العلق: 1-5.
(2) سورة العلق: 1-5.
(3) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص156-158 تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه (صلى الله عليه وآله) ح78.
(4) الاحتجاج: ج1 ص100 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك.
(5) الاحتجاج: ج1 ص99 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك.
(6) سورة القلم: 4.
(7) سورة آل عمران: 159.
(8) راجع المناقب: ج1 ص145-147 فصل في آدابه ومزاحه (صلى الله عليه وآله).
(9) إرشاد القلوب: ج1 ص115 ب32.
(10) بحار الأنوار: ج70 ص206 ب130.
(11) التواضع والخمول، ابن أبي الدنيا: ص158 باب التواضع ح122.
(12) بحار الأنوار: ج70 ص206 ب130.
(13) بحار الأنوار: ج70 ص208-209 ب130.
(14) الكافي: ج2 ص304 باب الغضب ح11.
(15) سورة الشورى: 38.
(16) سورة آل عمران: 159.
(17) بحار الأنوار: ج75 ص105ب19 ح4.
(18) وسائل الشيعة: ج8 ص78 ب5 ح10125.
(19) تفسير نور الثقلين: ج1 ص404 ح410 سورة آل عمران.
(20) مجمع البيان: ج9 ص57 سورة الشورى.
(21) مكارم الأخلاق: ص238 ب8 ف10.
(22) سورة البقرة: 256.
(23) سورة الأنفال: 42.
(24) سورة الغاشية: 21-22.
(25) بحار الأنوار: ج1 ص206 ب4 ح35.
(26) مستدرك الوسائل: ج17 ص249 ب4 ح21250.
(27) جامع الأخبار: ص37 الفصل العشرون في العلم.
(28) منية المريد: ص121-122 ف6.
(29) سورة الأعراف: 157.
(30) راجع موسوعة الفقه: كتاب الحريات، وكذلك كتاب (الحرية الإسلامية) وكتاب (الصياغة الجديدة) للإمام المؤلف.
(31) الإرشاد: ج1 ص148 باب طرف من أخبار أمير المؤمنين (عليه السلام).
(32) الكافي: ج2 ص102 باب حسن الخلق ح15.
(33) مستدرك الوسائل: ج14 ص157 ب3 ح16365.
(34) مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17933.
(35) مستدرك الوسائل: ج15 ص180 ب70 ح17933.
(36) دعائم الإسلام: ج1 ص358 ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم.
(37) الكافي: ج5 ص30 باب وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في السرايا ح9.
(38) وسائل الشيعة: ج15 ص62 ب16 ح19989.
(39) الكافي: ج5 ص28 باب وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في السرايا ح4.
(40) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
(41) بحار الأنوار: ج67 ص65 ب45 ح7.
(42) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
(43) بحار الأنوار: ج67 ص64 ب45 ح1.
(44) مستدرك الوسائل: ج12 ص112 ب81 ح13664.
(45) مستدرك الوسائل: ج12 ص113 ب81 ح13666.
(46) سورة الحجرات: 13.
(47) راجع لسان الميزان لابن حجر: ج3 ص398 ح1579.
(48) سورة الممتحنة: 8-9.
(49) راجع المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3 ص605.
(50) سورة المائدة: 5.
(51) سورة العنكبوت: 46.
(52) سورة سبأ: 24.
(53) راجع الكافي: ج5 ص240 باب ضمان العارية والوديعة ح10.
(54) راجع الأمالي للصدوق: ص224 المجلس الأربعون ح2.
(55) راجع بحار الأنوار: ج43 ص30 ب3 ح37.
(56) تهذيب الأحكام: ج9 ص322 ب29 ح12.
(57) سورة النصر: 2.
(58) سورة النساء: 1.
(59) شرح نهج البلاغة: ج1 ص126 فصل في الكلام على السجع.
(60) سورة آل عمران: 101-102.
(61) سورة آل عمران: 103.
(62) سورة آل عمران: 105.
(63) سورة النساء: 1.
(64) سورة آل عمران: 110.
(65) سورة الممتحنة: 8.
(66) سورة النحل: 125.
(67) سورة العنكبوت: 46.
(68) سورة الغاشية: 21-22.
(69) سورة يونس: 99.
(70) سورة الإسراء: 54.
(71) سورة آل عمران: 64.
(72) سورة المائدة: 1.
(73) سورة النحل: 91.
(74) سورة الإسراء: 34.
(75) سورة التوبة: 4.
(76) راجع تفسير القمي: ج2 ص309 صلح الحديبية، بحار الأنوار: ج20 ص361 ب20 ح10.
(77) شرح نهج البلاغة: ج14 ص172 ف3 القول فيما جرى في الغنيمة والأسارى بعد هزيمة قريش ورجوعها إلى مكة.
(78) راجع الكافي: ج4 ص225 باب أن الله عزوجل حرم مكة حين خلق السماوات والأرض ح3.
(79) راجع بحار الأنوار: ج21 ص30-31 ب22 ح32.
(80) راجع المناقب: ج2 ص105 في المسابقة بالتواضع.
(81) وسائل الشيعة: ج27 ص274-275 ب18 ح33759.
(82) راجع بحار الأنوار: ج71 ص157 ب10 ح4.
(83) راجع فتوح البلدان: ج1 ص162 ح367.
(84) سورة آل عمران: 159.
(85) مستدرك الوسائل: ج8 ص302 ب44 ح9502.
(86) سورة الإسراء: 70.
(87) سورة سبأ: 24.
(88) سورة النور: 27.
(89) سورة النساء: 8.
(90) سورة الذاريات: 24-25.
(91) سورة البقرة: 34، سورة الإسراء: 61، سورة الكهف: 50، سورة طه: 116.
(92) بحار الأنوار: ج64 ص71 ب1 الأخبار ح39.
(93) جامع الأخبار: ص147 ف110.
(94) راجع بحار الأنوار: ج21 ص366 ب35 ح1.
(95) الكافي: ج5 ص93 باب الدين ح2.
(96) الكافي: ج5 ص94 باب الدين ح6.
(97) الكافي: ج2 ص333 باب الظلم ح15.
(98) وسائل الشيعة: ج17 ص81 ب1 ح22042.
(99) مستدرك الوسائل: ج13 ص192 ب58 ح15071.
(100) راجع المناقب: ج1 ص147 فصل في آدابه ومزاحه (صلى الله عليه وآله).
(101) سورة التوبة: 60.
(102) بحار الأنوار: ج27 ص249 ب13 ح9.
(103) بحار الأنوار: ج27 ص250 ب13 ح10.
رابط المصدر: