الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 معرض لخطر الانهيار. فعلى الرغم من تعهد الإدارة الأميركية الجديدة بالعودة إلى الانضمام إليه، إلا أن العقوبات التي فرضت في عهد ترامب لا تزال سارية، مع دوران واشنطن وطهران في حلقة مفرغة بشأن من يجب أن يتحرك أولاً. لذلك، ينبغي على الاتحاد الأوروبي كسر هذا الجمود.
تتفق إيران والإدارة الأميركية الجديدة على مبدأين: أولاً، كانت سياسة “الضغط الأقصى” التي تتبعها إدارة ترامب والتي تستهدف طهران فاشلة؛ وثانياً، يُعد إحياء ما تعد به خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 ضرورة استراتيجية. لقد قام الجانبان بتشخيص المشكلة بشكل صحيح وتحديد العلاج المُرضي لكليهما؛ ولذلك قد يعتقد المرء أن الجزء الصعب سينتهي. إلاّ أن واشنطن وطهران لا تزالان عالقتين في مأزق دبلوماسي، يمكن تجنبه، يصر فيه كل منهما على أن يتخذ الآخر الخطوة الأولى.
للخروج من المأزق، ومنع انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة، يتعين عليهما التصرف بسرعة وحسم. وسيتمثل أفضل السبل لتحقيق ذلك في إجراء مفاوضات مباشرة وهادئة. لكن إذا لم يكن ذلك ممكناً، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتوسط من خلال تشجيع كلا الجانبين على القيام بمبادرات حسن نية أولية من شأنها أن تمهد الطريق لمحادثات مباشرة متعددة الأطراف. وبمجرد الجلوس إلى طاولة المفاوضات، يمكن للجميع التركيز على وضع ترتيب مؤقت يمنع المواجهة من التدهور أكثر، يليه اتفاق على خطوات متزامنة تعيد إيران والولايات المتحدة إلى الامتثال للاتفاق. ومن ثم، ينبغي على الأطراف البناء على خطة العمل الشاملة المشتركة لوضع اتفاق متابعة أقوى وأكثر استقراراً يعالج المخاوف الأوسع.
تولى الرئيس جو بايدن منصبه وهو يتخذ موقفاً منتقداً، عن حق، لاستراتيجية سلفه في إيران. كانت إدارة ترامب قد أعلنت في عام 2018 أنها من خلال الخروج من جانب واحد من الاتفاق النووي واتباع سياسة الضغط الاقتصادي المدفوع بالعقوبات، فإنها ستجبر إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق نووي أقوى من شأنه أيضاً إضعاف قدرة إيران على فرض قوتها في الشرق الأوسط. فشلت الاستراتيجية بشكل صارخ، وأفضت إلى عكس التأثيرات التي هدفت إلى تحقيقها. فقد أدت إلى تفاقم التوترات الإقليمية وألحقت الضرر بالوحدة بين ضفتي الأطلسي بينما أدت إلى تآكل مكاسب عدم الانتشار التي ينص عليها الاتفاق.
فبعد ما يقرب من ثلاث سنوات، وبعد أن قلصت إيران بشكل منهجي من امتثالها لخطة العمل الشاملة المشتركة رداً على الحصار الاقتصادي الذي فرضه ترامب، تقوم إيران الآن بتخصيب اليورانيوم بالمستويات التي كانت تفعلها قبل الاتفاق، وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى أكثر من أربعة عشر ضعفاً للحد الأقصى المسموح به في الاتفاق وهو 202.8 كغ واستخدام أجهزة طرد مركزي متقدمة إلى جانب نماذج الجيل الأول التي حصرها الاتفاق بها إلى حد كبير، وتصنيع معدن اليورانيوم، الذي منعتها خطة العمل الشاملة المشتركة من إنتاجه حتى عام 2031.
ونتيجة لذلك، فإن “زمن الاختراق” الذي ستحتاجه إيران لإنتاج كمية من المواد الانشطارية كافية لصنع قنبلة نووية انخفض من عام إلى حوالي ثلاثة أشهر. وفي غضون ذلك، قامت إيران بتقليص عمل سلطات التحقق والمراقبة التي لا غنى عنها للوكالة الدولية للطاقة الذرية بلجوئها إلى التعليق المؤقت في أواخر شباط/فبراير لتنفيذ البروتوكول الإضافي وأحكام الشفافية المنصوص عليها في خطة العمل الشاملة المشتركة. ولا تزال هذه التدابير عرضة لمزيد من التدهور إذا التزمت طهران بنص القانون الذي أقره مجلس الشورى بعد اغتيال عالم نووي إيراني كبير في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 من قبل إسرائيل، على ما زُعم.
أتاحت الإدارة الجديدة في واشنطن فرصة لطي الصفحة. على الرغم من انتهاكات إيران للبنود النووية للاتفاقية، فإنها ظلت طرفاً مشاركاً في خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد أعلنت أن الخطوات التي اتخذتها قابلة للعكس وتعهدت باستئناف الامتثال الكامل لالتزاماتها إذا وفت وعندما تفي الأطراف الأخرى في الاتفاق بالتزاماتها، التي تتخذ شكل تخفيف للعقوبات الاقتصادية منصوص عليه في الاتفاق لكن ألغته العقوبات الأميركية. من جانبها، اتخذت إدارة بايدن، منذ وصولها إلى البيت الأبيض، سلسلة من الإجراءات للإشارة إلى اهتمامها بإعادة الانخراط الدبلوماسي. وقد عينت المسؤولين الذين تفاوضوا على خطة العمل الشاملة المشتركة في عهد أوباما في مناصب دبلوماسية رفيعة، وخففت القيود المفروضة على سفر الدبلوماسيين الإيرانيين في نيويورك، وألغت ادعاء إدارة ترامب (الذي تم تجاهله على نطاق واسع) بإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة التي كانت مفروضة قبل التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. كما أصدرت بياناً مشتركاً مع نظرائها الأوروبيين (المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، فيما يعرف بمجموعة الثلاث) لتوضيح أن هدفها هو إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة قبل محاولة البناء عليها. ووافقت بسهولة على الانضمام إلى اجتماع غير رسمي للأطراف المشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة عرض الاتحاد الأوروبي استضافته.
لكن تحركات أكثر تشدداً طغت على تحركات الإدارة التصالحية. فقد تبنّت، بضغط من معارضي خطة العمل الشاملة المشتركة في واشنطن والشرق الأوسط خطاباً متشدداً حيال إيران. وتسببت في نشوء نزاع علني لا لزوم له حول من يجب أن يتحرك أولاً للعودة إلى الامتثال، وأشارت إلى أنها ستتحرك مباشرة لممارسة لعبة تبادل تحميل المسؤوليات بدلاً من الشروع في دبلوماسية جادة. والأهم من ذلك في نظر طهران، أنها فشلت في رفع أي من العقوبات التي فرضها ترامب على إيران، والتي ترقى في نظر طهران إلى عقاب جماعي للشعب الإيراني وسط جائحة قاتلة. كما لم تتخذ واشنطن إجراءات محدودة من شأنها أن تشير إلى جدية نواياها دون التراجع عن العقوبات. كان يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تشمل تسهيل الحصول على قرض طارئ من صندوق النقد الدولي أو تحويل الأصول الإيرانية المجمدة المحتفظ بها في الخارج – وهي خطوات يمكن تبريرها على أساس إنساني وإخضاعها لإجراءات قوية في تطبيق العناية الواجبة لضمان ضبط عمليات الصرف بالطريقة المناسبة. امتنع فريق بايدن حتى عن اتخاذ هذه الإجراءات، غير راغب في جعل ما يعتبره المناهضون لخطة العمل الشاملة المشتركة في الولايات المتحدة دفعات مقدمة بانتظار رفع العقوبات، والتي كان يمكن أن تعتبرها طهران بمثابة تنازلات أميركية أمام تكتيكات الضغط التي اتبعتها.
رفضت إيران عرض الاتحاد الأوروبي بعقد اجتماع غير رسمي للأطراف المشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد فعلت ذلك في المقام الأول لأن الولايات المتحدة لم تعالج بشكل ذي معنى ما تعتبره إيران الخطيئة الأصلية التي دفعت الأطراف إلى هذا الوضع، أي سياسة “الضغط الأقصى” الأميركية وبنية العقوبات المصاحبة لها. من وجهة نظر إيران، ربما تكون واشنطن قد تخلت عن استراتيجية عهد ترامب لفظياً، لكنها تواصل اتباع النهج نفسه فعلياً. قيّم مسؤول إيراني رفيع الوضع على النحو التالي: “لو أردنا التفاوض مع الذين فرضوا “الضغط الأقصى”، لكنا تحدثنا إلى ترامب”.
يشير المأزق الدبلوماسي إلى حقيقة غير مريحة وهي أن إيران والولايات المتحدة كلتاهما دخلتا فترة ما بعد ترامب بتوقعات متضخمة، وبالغتا في تقدير نفوذهما، والآن يمكن أن تتصرفا كلتاهما على أساس هذا التقدير. اعتقدت طهران أن واشنطن ستعود إلى خطة العمل الشاملة المشتركة من جانب واحد وستسمح بتخفيف كبير للعقوبات مسبقاً حتى أثناء قيام إيران بتصعيد برنامجها النووي وربما إعطاء الضوء الأخضر للميليشيات العراقية المتحالفة معها بشن هجمات على القوات والمصالح الأميركية في العراق. من جانبها، اعتقدت واشنطن أن إيران كانت في أمس الحاجة إلى رفع العقوبات لدرجة أنها ستقبل بتلهف الدخول في المفاوضات دون أن تعلم مسبقاً ماهية العائدات التي يمكن تحقيقها، وأن الضربات على الميليشيات المدعومة من إيران في المنطقة من شأنها أن تثني طهران عن فرض تكلفة جديدة على الولايات المتحدة. لقد تبين أن كلتا المجموعتين من الأفكار كانتا غير واقعيتين.
ونتيجة لذلك، تبقى الديناميكيات الأساسية بين طهران وواشنطن غير مختلفة كثيراً عما كانت عليه قبل 20 كانون الثاني/يناير. صحيح أنه في حين كان الجانبان في السابق يتحدثان دون أن يصغيا إلى بعضهما بعضاً، فإنهما باتا يتحدثان الآن على الأقل عن الحديث إلى بعضهما بعضاً. لكنهما لا يتفاوضان بشكل مباشر بعد. أعضاء مجموعة الثلاث، من جانبهم، وعبر الانحياز المتزايد لواشنطن بدلاً من دفع كلا الجانبين للوفاء بالتزاماتهما بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنهم يعملون على تبديد رأس المال السياسي الذي جمعوه من خلال دعمهم القوي للاتفاق خلال رئاسة ترامب. تعتقد إيران بشكل متزايد بأن الغرب عازم على استخدام العقوبات الأميركية كوسيلة ضغط – ليس لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة كما تم التفاوض عليها سابقاً، بل لإجبار طهران على التراجع والمضي على تعتبره منحدراً زلقاً من التنازلات بشأن القدرات الإيرانية في مجال الصواريخ الباليستية وفرض قوتها في المنطقة.
إذا استمر الطرفان في لعبة عض الأصابع، في حين يسعيا في هذه الأثناء بِنَهم إلى اكتساب المزيد من النفوذ، سيجدان نفسيهما في زاوية تزداد قتامة. بالنسبة لإيران، سيعني ذلك رؤية مواردها المالية تنهار تحت وطأة العقوبات الأميركية، بينما تعمل واشنطن على توحيد الصفوف مع مجموعة الثلاث لتواجه الجمهورية الإسلامية بجبهة غربية موحدة. وبالنسبة للولايات المتحدة، سيعني ذلك مواجهة المزيد من التآكل في “زمن الاختراق” مع تزايد الانتهاكات لخطة العمل الشاملة المشتركة وتصاعد التوترات الإقليمية – وهو ما اتضح بشكل جلي في الأحداث الأخيرة في اليمن، والعراق، وسوريا و خليج عمان. حدثت جميع هذه الحوادث بينما لا يزال هناك أمل في إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. إذا تبدد هذا الأمل، فسيصبح من الصعب كبح جماح الصقور من كلا الجانبين الذين كانوا يضغطون من أجل تصعيد أكثر جرأة وأكثر خطورة.
ما هي الوجهة من هنا؟ إذا كان المقصد، كما يجادل الرئيس بايدن وكبار المسؤولين الأميركيين، هو إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة والامتثال المتبادل لأحكامها كنقطة انطلاق نحو المفاوضات حول اتفاق نووي ’أفضل مقابل أفضل‘ ومعالجة مخاوف أوسع، يمكن للأطراف رسم مسار بديل.
في الأيام القليلة الماضية، أظهروا علامات على الاستعداد لإنقاذ الصفقة. فأعطت إيران إشارات حسن نية من خلال الالتفاف على قرار مجلس الشورى الذي يجبرها على تقييد الرقابة الدولية على برنامجها النووي. فعل روحاني ذلك من خلال التفاوض على اتفاق فني مؤقت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 21 شباط/فبراير، وسع كثيراً من قدرتها الرقابية. وقال المدير العام للوكالة رافائيل غروسي إن هذا التفاهم يجعل من الممكن “الاستمرار في مراقبة وتسجيل جميع الأنشطة الرئيسية التي تجري” على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة. الاتفاق المؤقت دفع غالبية المشرعين الإيرانيين للتقدم بشكوى قانونية ضد حكومة روحاني. وتعاملت الولايات المتحدة ومجموعة الدول الثلاث، من جهتها، مع هذه الالتفاتة على أنها تصالحية وردت بالمثل من خلال اتخاذ قرار بعدم المضي قدماً في اتخاذ قرار بتوجيه اللوم الرسمي لإيران في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية هذا الأسبوع والذي كان من شأنه إدانة تعليق إيران للبروتوكول الإضافي وعدم الرد على أسئلة الوكالة حول أنشطتها النووية السابقة.
يمكن أن تكون الخطوة الفورية للخروج من المأزق اتفاقاً على تبادل أولي للالتفاتات من شأنه أن يكسر الجمود. سيتطلب مثل هذا الاتفاق إما مناقشات أميركية-إيرانية هادئة أو وساطة يقوم بها طرف ثالث. ربما يكون الاتحاد الأوروبي، الذي ينسق تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة ويحافظ على خطوط الاتصال مع جميع الأطراف المعنية، في الموقع الأفضل للعب دور الوسيط بين إدارة بايدن وطهران، حيث يقوم بتنسيق الخطوات الأولية بشكل غير مباشر يمكن أن يجعل عقد الاجتماع غير الرسمي ممكناً. قد تشمل هذه الخطوات الأولية، على سبيل المثال، تسهيل الولايات المتحدة وصول إيران إلى بعض أصولها المجمدة للواردات الإنسانية مقابل وقف إيران أحد الأنشطة النووية الحساسة لجهة الانتشار النووي التي تقوم بها الآن. وبمجرد الوصول إلى طاولة المفاوضات، ينبغي على الأطراف التفاوض على ترتيب مؤقت مصمم لمنع المزيد من تدهور الوضع، يليه جدول زمني لعكس الانتهاكات النووية الإيرانية والعقوبات الأميركية بشكل متزامن.
إن الوقت هو جوهر المسألة. في حين أن من الممكن عكس برنامج إيران النووي وسط الحملة الرئاسية في البلاد، التي تبدأ في منتصف نيسان/أبريل وتبلغ ذروتها في الانتخابات التي ستجرى في 18 حزيران/يونيو، فإن المفاوضات ستصبح أكثر صعوبة إذا لم يحقق الطرفان زخماً كبيراً بحلول ذلك الوقت. ولا يقل خطورة عن ذلك تأجيل عودة واشنطن إلى خطة العمل الشاملة المشتركة إلى أن يتولى رئيس إيراني جديد منصبه في آب/أغسطس، لأن استعادة الاتفاق مع أقوى مؤيديه في إيران سيكون أسهل من فعل ذلك مع منتقديهم، في حال فوزهم. كلما استمر الجمود الدبلوماسي لفترة أطول، زاد احتمال ملئه بنوع من سياسة حافة الهاوية التي يمكن أن تعرض للخطر ما تبقى من الاتفاق النووي وتزيد من تأجيج التوترات الإقليمية.
قد يتبين أن المأزق الإيراني الأميركي في الأيام الأولى لإدارة بايدن مجرد تشتت عابر قبل أن يسود العقل على كلا الجانبين. ومع ذلك، فإنه حتى الآن يخاطر بأن يكون مضيعة لأسابيع ثمينة يسودها استعراض مواقف لا طائل من ورائه، أو الأسوأ من ذلك، أن يكون شرارة لمواجهة إقليمية خطيرة. المنطق نفسه الذي دفع إيران والقوى العالمية إلى صياغة خطة العمل الشاملة المشتركة، والذي دفع الموقعين الباقين عليها إلى المحافظة عليها بعد انسحاب ترامب، لا يزال قائم اليوم. أما البديل – وهو سباق بين العقوبات وأجهزة الطرد المركزي يمكن أن يبلغ ذروته في حصول إيران على قنبلة نووية أو التعرض للقصف أو كليهما – سيكون أسوأ بما لا يقاس. هذه النتيجة لا يزال من الممكن تجنبها، بل ينبغي تجنبها.
رابط المصدر: